أصداء الذكرى
مع اصفرار ضوء الشمس وقت الأصيل استراحت إلى مقعدها الخيزران العتيق. بأنامل مرتعشة تناولت الصورة بحروفها الباهتة، وألوانها المتباينة بين الأبيض ـ الضارب إلى الصفرة ـ والأسود.
استشعرت حلاوة اللمس الريان للملامح البيضاء الشابة.. أحست بنسائم رطبة تهدهد خصلات الشعر الفاحم المتهدل على جبين ناصع.. جاست بالنظرة المتألقة الزاهية خلال الرقعة الخضراء لتتفتح لها ثغور الورد مبتسمة.. تتهامس أطياف الود.. تتعانق مع الضلال الوارفة الحانية.. يمتزج فيها الدفء مع الانتعاش.. تحفها الآمال.
تألقت العينان بضوء خافت. مصمصت شفتيها. بلا وعى سحبت إحدى جديلتيها من تحت شالها الأسود. استملحت ملمسها تحت وطأة الأنامل. غاصت ملامحها خجلة ـ في إطارها القديم ـ في ردائها الأبيض الفضفاض..تستكين إلى رفيقها بعينيه الهادئتين، في سترة سوداء من لون شعرها.. تفوح رائحة تحتل من النفس قرارها.. تغلف أرجاءها بعبق لا يزول.تنطفىء كل الأنوار، إلا ذاك النور الذي ظل سراجه ينسج أشعته حول الصورة التي تصدرت كل المعاني قاطبة. تقتنص من الماضي أحلى اللحظات.
انطلق الحلم فاردا جناحيه، محتضنا كيانين امتزجا في كيان واحد.. يتجلى في ملامح طفولية غراء.. تلتهم حنو النظرة.. تجلب عاطفة تسكن الأحشاء.. تزهو في عيني الوليد نفس النظرة المتألقة.. تحمل قسماته نفس السمات.. تطفو براءته فوق سطح الصورة الجامد.. تحبو أطرافه في عينيها.. تهرع إليها.. تتردد في البدن مشاعر أمومة دفينة.. تتملك الأحشاء بخليط من الدفء والامتلاء.. تعود بها إلى الإحساس الأول بالامتلاء، ثم احتواء الحلم، ثم آلام مبرحة ما لبثت أن تحولت إلى غبطة تمتلك النفس.. تطفح فوق كل الآلام.. تزبد الفرحة مرات لتعلن اكتمال حبات العقد المرمرية الغالية، ومع تبلور كل حبة من حباته تمتزج الفرحة الغامرة بمشاعر الامتداد الحقيقية.
تقافزت على السطح البراق ملامح لشاب وسيم يمتد فيه هدوء ذات العينين.. تحتمي شفتاه بشارب كث. يذيل الصورة إهداء.. " إلى أمي الحبيبة "
عاودها خليط من الدفء والامتلاء مع إحساس بحنين لا يقاوم. تحركت رغبتها في احتضان ابن أحشائها المستقر في رحم الغربة البعيد القرار. اهتز صدرها بدموع انحدرت على وجنتيها تلثم بملحها جدار البعد بعدد آلاف الأميال.
على حيز عريض تمازجت فيه الألوان، تراصت وجوه شابة، وأخرى طفولية عابثة تحتضن جذورها العتيقة. بدت ملامحها تعترضها التجاعيد، بينما اختفى الشعر تحت غطاء يحجبه، وتوارى بهاء العينين خلف نظارة طبية. إلى جانبها تراءت بقايا من ملامح رجولية هرمة تفوح منها روائح الذبول والانزواء.
انطلقت من جنبات الصدر زفرة حزن ولدتها ذكرى آلام فراق أبدى، انزوى فيه ما تبقى من تلك الفحولة السالفة. خلّف ركاما لا يستطيع حتى نفض غباره ما تبقى من...
انفرط عقد أمانيها، وانطوت حافظة صورها لتحتضنها بما فيها.. تمتمت بهمس خفيض؛ انحدرت دموعها حانية على الخد، لاذعة على اللسان الجاف، بينما تلملم الشمس بقايا أشعتها.