هيســـــــــــــــــــتريا
تدافعت أجسامهم.. تداخل ركضهم، حتى اعتلت سيقانهم ـ سابقة ولاحقة ـ طوار المحطة.. تدفع أيديهم، وتدافع عن وجه يتخفى خلف قناع..
كلل صخبهم العاتى، جبين صمت الليل البارد، المحلّق بصفير هوائه حول عربة الترام، المدركة لتوها محطتها التى كانت خاوية؛ لتتكالب ـ بغتة ـ كشلال صاعد أجسامهم.. تنحشر بباب العربة التى ارتجت على فراغها الا من متناثرين على مقاعد جلدية كالحة.. يلتحفون بصمت مكدود، ومعاطف وشنط، وأشياء أخرى، وأيد مكتوفة على صقيع أبدانها.
تدافعوا فى جوف العربة، محتشدين بصياحهم وعويلهم المتنامى، مختلطآ بضحكات ماجنة.. شاخصين ب (جاكيتات) مرفوعة الياقات، وأعناق تلتف حول بعضها التلافيح، ورؤوس تغطيها طواق صوفية تختفى فيها الآذان، وأخرى عارية مهوش شعرها، وقصير، ويستطيل بعضه حتى يبلغ الأكتاف.
توغلوا بزخم خانق لروائح تدخين سجائر، مختزنة، تسكن الأبدان.. تنطلق مع الأنفاس الملتهبة..
تجلت وجوههم، النابت فيها زغب حائر والأخرى المنذرة بلحى بكر، بانفعال.. برود.. احمرار.. اصفرار، وعيون يتطاير منها شرر عابث، وأخرى خابية تترقب.
تقافزوا حول قناعهم، الذى بدا وحشيآ غارقآ فى سواده، ثم أفسحوا له طريقآ ؛ كى يفغر فاهآ عميق الظلمة، وتبرق من خلال عينيه المعتمتين نقطتا ضوء.. تتلاشيان مع ضوء العربة الخافت.
تمايل برأس ضخم متهدل، وانطلق يبادلهم صراخآ عاتيآ، خلف أجسامهم المهرولة، نح والمقاعد الخالية.. تفترسهم قهقهات ماجنة تنتفخ لها عروق رقابهم وجباههم.
تنططوا على المقاعد صارخين.. يستطلعون الهلع البادى على وجوه ساكنى العربة، الملتزمين أماكنهم ملجومين.
باغتت يد أحدهم، متسللآ من مؤخرة العربة ؛ لتنزع بخفة، القناع عن وجه بدا مع اشتعاله بالاحمرار والعرق الغزير، أليفآ مستأنسآ، أصابته دهشة ـ مختلطة بوجل ـ فكشَّر عن أنياب صغيرة، ومضى متلهفآ على وجهه المستعار، الذى صاروا يتقاذفونه بين أيديهم ساخرين، ثم انتفضوا ـ على حين غرة ـ بقهقهاتهم الصارخة وولولاتهم، وهاجوا وماجوا، وانطلق صياحهم كالرعد، والتفوا حول بعضهم متلاحمين.. يخبطون بأكفهم جدران العربة بقوة صارخين فى سائق العربة، المتسارع بها وبنظراته المرتعدة المتلفتة، آمرين بوقوف قسرى مفاجىء، قبل وصول العربة محطتها التالية...