وردية
لم أر من خلال الظلام الدامس إلا بياض عينيه المشعتين بضوء خاطف، بينما تغتال أذنىّ موجات نباحه.
خطواتي المقطوعة من حدود أسفلت الطريق، المتوغلة في عمق المدق الترابي ـ منذ لاحت لافتة محل العمل الفوسفورية على البعد ـ أنقطع سعيها قسرا قبل عشرات من الأمتار تفصلني عن مصدر النباح، وتطاير الشرر.
"سوف نكون ورديتك الأولى ليلية، بعيدا عن جلبة العمل النهاري المضاعف"
هزتني كلمات الرجل الودودة كملامح وجهه الصافية، دون النظر إلى ساعات انتظاري ؛ كي يفرغ لي، وتنبسط يده؛ لتتقاطع مع أشعة الشمس الصباحية، المخترقة لزجاج شرفة مكتبه، حتى يستطرد:
" لن يرهقك الوصول إلى المكان، رغم تطرفه إلا أن المواصلات المتوافرة توصلك إلى ناصية التقاء شارعه مع الطريق الرئيسي...."
تمثل لي صوت النباح.. يأتي عن شمالي مباغتا، تهتز له أوصالي، ويرتج نصفى الأيسر بإرتعاشة يلتف معها جسدي مواجها فما بشعا.. يفغر على أسنان متحفزة للانقضاض، وحوافر تشرع في الوثوب. لكنني تحسست فخذي مطامنآ، بينما يدي الأخرى تأتنس بحقيبة كتفي ـ المشغولة بملابس عملي، وبعض الشطائر، و(ترمس) الشاي الساخن ـ وعيناى تجوسان في الظلام البارد.. تدوران مع دوائره المتداخلة، ثم ترتدان إلى الخلف.. تشحذان الضوء المتخلف عن أعمدة الإنارة المتنائية على حافة الطريق، فتلفح وجهي برودة مغايرة، ويزداد النباح ؛ فترتد نظراتي مشرئبة إلى الأمام ؛ لعلها تصطدم بأحد الخارجين من الوردية، أوالقادمين من مسارب أجهلها.
كاد الوقت يجاوز ميعاد التبديل، ولم يبد أحد.
ساورتني فكرة الارتداد، لكنني تغاضيت عنها خوفا من انقضاضة مباغتة، وازداد تشبث قدمي بالأرض.
لمع ضوء خافت عن يميني ؛ فانطلقت عقيرتي.. تفارق صمت الإحساس، وكلما علا صوتي كلما زاد النباح، وانقدح الشرر، واضمحل الضوء، وتسربت البرودة تخترق مسامي....