الجمعة ٢٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم زكرياء أبو مارية

ألياس

س. ح، سبعة وثلاثون سنة، خريج كلية الآداب، قسم فلسفة، معطل منذ ما يزيد عن الست سنوات، حاول أن يتذكر كم بالضبط فحبست حساباته وسحبته بلياقة كافية من تناوله لشخصه إلى أن أولى اهتمامه معي للكتاب الذي كان بين يديه، ومن تَم تدحرجنا شيئا فشيئا إلى أن وصل بنا النقاش إلى موضوع القراءة والكتابة بشكل عام، ثم بشكل خاص إلى سؤالي الذي كان محور كل ذلك التطفل من طرفي على هذه الزمرة الصغيرة من هواة القراءة والكتابة في الخزانة البلدية: أيهما أهم، القراءة أم الكتابة؟

سألته فتوسع في فلسفته:

 ليسا ضدان.. ولا واحدا، وهما بمعنى آخر ضدان وواحد في نفس الوقت.

رأى الاستغراب على محياي فاستطرد موضحا:

 أقصد أنهما وجهان لنفس العملة.

كنت أعرف أن الانتقال مراوحة هكذا بين أطروحة ونقيضها قد ينغلق على جدل يمكن أن يتولد عنه إدراكنا لحقيقة القراءة والكتابة خارج دوريهما كأداتين أصبح استعمالهما ضيقا ومقتصرا على ما هو معرفي وتواصلي، داخل مفهوميهما كجوهرين في حد ذاتهما، ولذلك تحملت بصدر رحب كل باقي الغموض الذي جاء في جوابه وأنا أسأله أن يوضح أكثر، قال:

 القراءة والكتابة على مستوى الشكل فعلان يمارسان من نفس المنطلق الجدلي السابق، كون الرمز والعلامة يوحدان عالميهما مهما توسعا وتفرقا فيهما، ولكنها رموز وعلامات ينبغي فكها في حالة القراءة، في حين ينبغي في حالة الكتابة تشكيلها أساسا، ومن هنا تضادهما.

سألته ماذا عن غير الشكل فقال:

 هما حتى في بعدهما الأعمق من مجرد الشكل و"طرق التنفيذ" ينطويان على أكثر من ذلك القدر من القوة داخل هذه العلاقة الجدلية دائما، فالقراءة هنا سابقة للفهم والإحساس، بينما هما تاليتان لها، بحكم أنهما يتبلوران في ذهن ومخيلة ووجدان القارئ شيئا فشيئا بتدرج هذا الأخير شيئا فشيئا أيضا في قراءته، والكتابة تالية للفهم والإحساس لأنهما ضرورتان سابقتان لها، بما أنها هي ليست قلما وورقة فقط، ولكن فكرا وانفعالات أولا.

 ولكن أيهما أهم داخل هذا التوحد والتضاد معا؟ القراءة أم الكتابة لنوليها الاهتمام الأكبر؟ أيهما أهم لتكون المحافظة عليها مؤدية ضمنيا للمحافظة على الأخرى وتشكل أولوية بالتالي؟ أيهما الأهم لأنها سابقة على الأقل للأخرى وبالتالي الأحق بالمحافظة عليها كونها الأصل والسبب والأخرى واحدة من نتائجها؟

دفعت أسئلتي كطلقات من مدفع رشاش محاولا أن أحاصر بها ما تمترس خلف تلك الفلسفة من أفكار لعلها تسلم لفهمي نفسها، وأجابني هو ببساطة واختصار:

 كلاهما أول وتال.

كنت أرى أنه من غير المنطقي والمعقول أن تتم القراءة لما هو ليس مكتوبا قبلا، وخشيت أن ينطوي فهمي على جهل فواريت استفساري حول ذلك خلف سؤال حاولت ما أمكنني أن أنضده داخل قالب مراوغ وذكي، قلت له:

 حتى وما يتبادر للذهن هو كون الكتابة أولى والقراءة تاليتها؟

أجابني:

 ولكنك لو تأملت في الأمر قليلا لتوصلت إلى افتراض كوننا حتما نطقنا بالشيء قبل أن نحدد له رمزا أو علامة، أي أن القراءة سبقت الكتابة ولو لجزء من تاريخ حرف أو كلمة أو مفهوم ما، كما أننا سنقرأ دائما ما نكتبه قبل أن نكتبه، ثم سنكتبه بعد ذلك ليُقرأ لبقية الزمن، عدد مرات إعادة كتابته ستكون أقل أو مساوية لعدد مرات قراءته، لأننا على الأقل سنقرأه كلما أردنا كتابته، هذا إذا لم نقرأه لأجل قراءته فقط، وألا نفعل ذلك فرضية مستبعدة لأنها مستحيلة، فنحن إنما نكتب ليُقرأ ما نكتبه لا لتعاد كتابته، عدا كون إعادة الكتابة هي مجرد نسخ ونقل لا كتابة بمعنى ما تحمله الكتابة من معنى، جوهر منبثق عن فكر وتفكير.

قلت له:

 لعلنا هنا أمام فكر - كما تعترف - لم تترتب عليه بعد قراءته.

وأجابني:

 في هذه الحالة ستكون الكتابة التي سيدعي مدعون أنها السابقة عن قراءتها ومن نفس هذا المنطلق فكرا أيضا، لا كتابة تسبق قراءتها.

قلت له: أيهما مهم إذن؟

قال: كلاهما مهم.

قلت: فأيهما الأهم؟

قال: كلاهما الأهم، لأن كليهما أهم.

قلت: فمن سبق أو يسبق الآخر على الأقل ليكون الأهم؟

قال: وهل يهم أن يكون الشيء سبّاقا ليكون الأهم أو حتى مجرد مهم؟

كنت معه كالضائع في متاهة كلامية لم أر لنفسي مخرجا منها إلا بحبسي لتماديّ في محاولة استجلاء كنه فلسفته حول ذلك، فسألته إن كانت لديه أية ملاحظة يود أن يختتم بها حوارنا، فهم أنني كنت أضع بذلك حدا للقائي به، فأجابني بتبرم وهو منهمك في البحث بين دفتي كتابه:

 اتركوا الثرثرة لمنتخبينا واستحقوا أنتم أن تكونوا صحفيين ببحثكم عن حلول.
قلت له كسؤال أخير وأنا أهم بالمغادرة إن كان لا يمانع أن أذكر اسمه في تحقيقي فرفض، فسجلت على الشريط قبل أن أوقف التسجيل وأنتقل إلى طاولة أخرى:ألياس: "أفلاطون"، أما هو فعاودته ابتسامته وعبر لي عن كونها كانت فكرة جيدة.

 أن أختار لك هذا اللقب؟

 أن تحضر معك آلة مسجلة.

وعاد ليغرق في قراءته.

س. ع، تسع وثلاثون سنة، خريج المعهد العالي للصحافة، محب للتطفل بدافع مما أشبعه به تخصصه، وهذا كان يُبقي بطالته نسبية وإن طالت.

كان واضحا من خلال مراقبته لي أنه كان يستعجل انصرافي عن "أفلاطون"، وما إن فعلت حتى نادى عليّ مرحبا بي بكأس قهوة كان أمامه:

 لم أرتشف منه شيئا بعد قال لي.

وبعد أن علم بتفاصيل ما كلفتني به الجريدة وبالهدف من وراء زيارتي للخزانة البلدية تحديدا أعرب لي عن أهمية أن يجرب الصحفي شعور المجيب قبل أن يصبح صاحب أسئلة حساسة ومحرجة.

أعدت عليه نفس سؤالي السابق مع "أفلاطون" وبنفس الشرح والبساطة السابقان أيضا فابتسم.

 لماذا تبتسم سألته؟

وطفقت للحظة أفكر إن كنت قلت ما يدعو لذلك، وقبل أن تستبد بي فكرة كونه ربما لم يجد سؤالي محرجا كما كان ينتظر ليستخف بموضوعه بذلك الشكل بادرني بمبرراته:

 لعل سؤالك ليس محرجا ولكنه مفرط في حساسيته، أما أنا فأخشى أن أبدو من خلال جوابي أشبه ببطل الحكاية الساخرة المشهورة "وصف حديقة"، ولذلك تراني أبتسم.

أعجبت بقوة حدسه التي قلما قد تتوفر في الناشئة من الصحفيين، وسألته ما بال هذا البطل مع هذه الحديقة فواصل محافظا على نفس ابتسامته:

 لقد تدرب على هذا الموضوع استعدادا لإحدى المباريات، كان ينتظر من حظه أن يكون رفيقه في اختبار الإنشاء كما رافقه في بقية الاختبارات السابقة، فإذا به يفاجأ أن موضوع الامتحان كان يتعلق بوصف طائرة.

كنت متلهفا لمعرفة البقية، ولذلك لم أقاطعه، واكتفيت بضحكة صغيرة وأنا أومئ له كي يواصل.

 تفكر الممتحَن قليلا ثم كتب في مقدمة صغيرة أن الطائرة بمجرد أن أقلعت تعرضت لعطل أسقطها مباشرة في حديقة، ومن تم تناول الموضوع الذي يجيده: "وصف حديقة".

أوقفت مسجلتي آخذا لنفسي وقتا مستقطعا قهقهت خلاله، ثم عدت لأشغل المسجلة وسألته عن العلاقة بينه وبين بطل حكايته فأجابني:

 لا فرق بيننا سوى أن سقوط طائرته في حديقة بالضبط هو أمر محتمل فقط، في حين أن إحالة موضوع القراءة لنا على موضوع الكتابة هو حتمية في نظري لا مناص منها، وليس مجرد احتمال ولو قويا.

وبالفعل خاض بي غمار نظريته، فكان لا يكاد في كل مرة يشيد لي فيها بالدور المهم للقراءة إلا وانتقل بسرعة وبشكل مفاجئ ليتناول الدور الأهم للكتابة، وكان مفاد كل جوانب جوابه أن القراءة بالنسبة له لم تكن إلا وسيلة نقل كالطائرة للوصول إلى هدفه الكبير، أن يصبح كاتبا صحفيا كبيرا، ولم يكن يبدو من خلال كلامه أن شيئا ما قد يثنيه عن هدفه ولو أرغمه ذلك على اللجوء إلى هبوط اضطراري أو حتى إسقاطه للطائرة في هذه الحديقة، وبما أن الأهداف غايات فالكتابة كانت عنده أهم من وسيلتها.

انشغلت قليلا بقلب الشريط في المسجلة، فاستغل سكوتي لينهال عليّ بطرح السؤال تلو الآخر بخصوص مسيرتي مع الصحافة والكتابة، ولم يمهلني لأستعيد دوري معه وكأنه كان يحفظ أسئلته، والأدهى من ذلك أنه أخرج ورقة وقلما ثم سألني إن كنت أملك حلولا بخصوص موضوعنا، لم أكن أملك بالطبع حلولا، ولكن ليس لذلك لم أجبه، وإنما لكونه غالى في أخذه لدوري مني حتى بدا لي أشبه بالساخر أو المجنون، وقررت الحسم معه في هذه المسألة واستعادتي لزمام الأمور من جديد وبإحكام هذه المرة، فسألته ولهجتي ما بين الاستنكار والاستغراب:

 صرت تطرح أسئلة، هل نسيت أنني أنا الصحفي؟

 كلانا صحفي، هل نسيت أنت ذلك؟ كما أنني سأصبح عما قريب صحفيا كبيرا، ولا تشك لحظة في ذلك، ألا تراني أبحث عن الحل بينما لا زلت أنت تكتفي بإثارة المشكلة؟

وهكذا كانت بالفعل كل وسائل نقله ستسقط دائما في حديقة.. في تلك الحديقة بالذات، وبعد أن تطور نقاشنا إلى ما يشبه تناوش ديكيْ مبارزة في حلبة عراك أضحى سبيلي الوحيد لإفلاتي من هذا الأخ في الحرفة هو أن أضع حدا مفاجئا للقاءنا.

حييته مودعا، وقبل أن يرد على تحيتي قال لي ألاّ مانع لديه لأذكر اسمه في تحقيقي:

 سأصبح صحفيا كبيرا كما قلت لك، ولا بأس بذكرك لاسمي كبداية في هذا المشوار الطويل والشاق.

أما أنا فرأيت مانعا كبيرا لفعلي ذلك ولنفس أسبابه، فقد خشيت في حالة أصبح صحفيا كبيرا أن يسوءه كون أول سقوط له بطائرته تم في حديقة شائكة عجز عن إعطاء وصف صادق لها لأنه سبق وهيأ موضوعا أكثر تفاؤلا وإزهارا بخصوصها.

وعدته أن أدرس ذلك قبل الإقدام على أي خطوة فيه، وانصرفت عنه وأنا أهمس للآلة المسجلة خشية أن تلتقط إحدى حواسه المتربصة كلامي:ألياس: "صحفي مستبصر".

* * *

أ. م، اثنان وأربعون سنة، دبلوم الدراسات المعمقة في الحقوق (حسب ما فهمت من إشارته بسبابته نحو الأرض بعد أن نطق متأففا بكلمتيْ "دبلوم" و"الدراسات")، متزوج وتعوله زوجته المعلمة، (سألته عن تخصصها فأجاب "الراندة"، فهمت أنها كانت معلمة طرّازة)، كادت تسوقني بعيدا عن موضوع تحقيقي حلاوة حديثه وبلوغه المرمى المرّ من ورائها بكلمات مختصرة وغير مراوغة، وأحيانا بإشارات فقط كنت أأولها لصالحه رغم ما كانت تحمله من معان محيلة على يأسه وإحباطه، لولا أنه هو نفسه من أعاد إليّ زمام هذه الفرس التي لم تفتر منذ انطلاقي بها تجمح بي في كل اتجاه، فعندما سألته عن سنوات تعطله وأجابني أنه لا يعتبر نفسه عاطلا بما أنه كان (ما زال كيقرا) حتى وممارسته للقراءة كانت تتم حينها كاستراحة لبعض الوقت من تعب النداء طوال ثلاث ساعات متتالية بالشعارات في ساحة الخبزة، وجدت أنا في جوابه معْبرا نحو عودتنا إلى طريقنا الصحيح، فأذكيت نار الحوار في نفس هذا التنّور وأنا أسأله عن أيهما في نظره الأهم، القراءة أم الكتابة؟ قال:

 لعل الأولى بأن لا يفرط فيه أحد من بين كل الحقوق التي هي من حقنا واجبنا تجاه القراءة، ولعل الأولى بأن لا يتهاون فيه أحد من بين كل الواجبات التي تجب علينا حقنا في القراءة، ولعلنا نكون هنا أمام واحدة من بين أنذر ما قد يمتزج فيها الحق والواجب حد التجانس والاختلاط، فالقراءة حق إن عجز عن أخذه الواحد انتزعته له الجماعة وأهدته إياه، وواجب إن فرط في أخذه الفرد أعطته إياه الجماعة عنوة، فالمسألة تتعدى في القراءة كونها شخصية ومتعلقة بالفرد وحده، فهي جماعية تتفرق في كل منا.

قلت له:

 لعل التعليم وفق منطقك يفي بهذا الغرض ويحققه.

أجابني:

 القراءة هي بديهيا شعبة من التعليم، لأنه يتضمنها، إلا أن إجبارية هذا الأخير تظل ناقصة في ظل نقصان تضمنها لإجبارية القراءة خارج البرنامج والمقرر الدراسيان.

خاض لبعض الوقت في تنديده بخطط الجهات المختصة في هذا الباب، وعندما أحس بتبرمي غيّر لهجته وسلك بها المنحى الحكيم الذي كنت أبغي وأروم، تابع بهدوء:

 أعرف أن موضوعنا هنا ليس هو فتح حساب نغرقه بما يجود به ألمنا وحنقنا، تماما مثلما أرى أنه لا ينبغي أن يكون الهدف من وراء هذا التحقيق هو التوقف عند مسألة تحديد المهم من الأهم بين القراءة والكتابة، ولا حتى الدفع بأسئلتك نحو البحث عن رأس الخيط في هذه الكبة "المخبلة" ومحاولة فتح أفق تنظيري ندرك من خلاله نتائج تردي القراءة والكتابة، وإنما السعي أساسا من وراء كل ذلك إلى إيجاد حلول تعالج نزعهما، إنها جريمة وينبغي سن قانون يعاقب على ارتكابها.

قلت له بأن تلك فكرة جريئة حد الجنون مما سيبقيها موضع شبهة وعدم تحقق، وتمنيت عليه بدل ذلك لو يقدم لي بعض ما قد ينفع أن يكون مقترحات للنهوض بالقراءة والكتابة من جديد من وحل ترديهما، فاعتذر عن ذلك وعن كل مجالستي كون الواجب النضالي كان يناديه ليقود مجموعته التي حان وقت نوبتها:

 وعلى القائد أن يكون قدوة في الانضباط أيضا كما تعلم.

قال ذلك وانصرف هو عني هذه المرة مناديا في رواد الخزانة بصوت حازم:

 ما ضاع حق الشاب والشايب.

وردّ رواد الخزانة على ندائه وهم يتبعونه مغادرين المكان:

 ما ضاع حق وراءه طالب.

كان من المفترض أن يقبل على الخزانة البلدية فوج جديد من المتظاهرين بعد أن يأخذ أفراد الفوج الأول مكانهم في ساحة الخبزة أمام مقريْ عمالة المدينة وبلديتها، ولكنني كنت قد أخذت كفايتي من ذلك النوع من الأجوبة العميقة إن لم أقل الغامضة، والصادرة عن مثقفين معطلين صنع منهم زمن الخبز فرقا وجماعات من المتكلمين الذين لم يعودوا يجيدون من القول الواضح والمفهوم إلا شعارات احتجاجهم، كما فهمت أخيرا لماذا اعتبر "أفلاطون" اعتمادي في هذا التحقيق على آلة مسجلة فكرة جيدة، ولذلك لم يعد من داع لبقائي أنا الآخر، وقررت المغادرة بدوري، غير ناس قبل إقدامي على أولى خطوات تركي للخزانة أن أفكر لـ(أ. م) في لقب يناسب ما أدرجه في أجوبته من مفاهيم حول منظوره لأهمية القراءة والكتابة، ووجدت أنه لم يبتعد كثيرا بذلك عن تخصصه الدراسي هو الآخر، وسجلت على الشريط ألياس "حمورابي".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى