الجمعة ٢٧ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم زكرياء أبو مارية

الزبانية

أول ما نصحني به كثيرون كان بمثابة جمرة قررت فعلا بعد كفاح مرير أن أجعل منها آخر ما قد يكون فيه الشفاء مما ابتلاني به التدريس من بعاد ووحشة، ووطنت نفسي أن أتقفى بها كل أثر للضمير الحي والتفكير السوي في خريطتي الجينية، وأكوي بنارها حرني وجموحي إلى أن يستوي سيري على نفس الطريقة المتبعة والسائدة في حالات كثيرة من قبيل ما عانيته لخمسة عشر سنة طويلة كدهر أو يزيد.

كان لي أخيرا ما أردت، وكان مبلغ الرشوة سيصلني عبر البريد في شكل حوالة إلكترونية سريعة، فآخر يوم في المهلة التي منحني إياها الوسيط كانت ستنتهي في صباح الغد، كما أن المبلغ كان كبيرا، ويشكل نقله في محفظة مغامرة خطيرة.

تقدمتُ من شباكها دون غيرها، لاعتبارين اثنين، الأول كونه كان الأقرب من مدخل المكتب البريدي، أما الثاني والأهم فكون الازدحام أمامه كان قليلا، عكس ما لاحظت أنه كان يميز آخر شباك ضمن الشبابيك التسعة، مما ولّد لديّ الاعتقاد أن صاحبة أول شباك هي الأنشط والأسرع، وكان منطقيا بالتالي أن تختار لها الإدارة هذا الموقع.

حلّ دوري في الطابور الصغير بسرعة خاطفة، بعد أن انفض من حول الشباكية الزبون تلو الزبون، ملقين في وجهها بعدم رضاهم المألوف كلما ارتادوا إدارة، ورأيت أنا أن تصرفها الجهم والعابس نحوهم لم يكن يعدو كونه دينامية وظيفية قررتُ عدم اعتبارها شخصية لكي لا تسوءني، تماما كما لو أنني كنت سأتعامل مع روبوت متقدم التقنية والتطور.

أفسرت لها عن حاجتي، وتمتمت هي لي بشرطيْ قضائها، دون حتى أن تكلف نفسها عناء الرد على تحيتي الصباحية، أو حتى الالتزام بأدنى سلوكيات وآداب اللياقة مع زبون، بالإقبال بالنظر عليه عندما يتحدث.

كان بصرها مثبتا على شاشة حاسوبها، ويداها منشغلتان بالفأرة ولوحة المفاتيح، وكان إهمالها لبروتوكولات التعامل مع الزبون بهذه الدرجة مقابل تقديمها لمصلحته سقفا معقولا في نظري ساعتها سمح أن ألتمس لها العذر فيما أقدمت عليه معي أنا أيضا من فضاضة سلوكيّة منافية للخلق الطيب الذي قد يكون حاسما في اختيار الزبون لمؤسسة دون أخرى قصد إتمام معاملاته في هذا المجال أو ذاك، لولا أن غياب المنافسة يبرر لغيابات كثيرة أخرى موازية لا تواجَه بالمقاطعة لغياب الحيلة في إيجاد البديل.

استعنت على تلك الدقائق الخمس إلى حدود العشر من عمري بالصبر الجميل، تجاهلت عقرب ثواني ساعة مكتب البريد الحائطية تفاديا للسعاته القاتلة، وقدمت للشباكية رخصة سياقتي تعريفا بهويتي، تقديرا مني لضرورة ذلك، لا امتثالا بليدا من طرفي لطلبها الغليظ أن تتأكد أنني أنا فعلا المعني بالحوالة البريدية التي قدمت لها أيضا إشعار توصلي بها، لتأخذه هي مني بميكانيكية جافة واضحة.

حدثت نفسي أن تلك حتما مجرد صرامة ينتهجها المجدّون في وظائفهم من فصيلتها، قصد ضبط الطابور، والتحكم فيما تستحقه كل عملية من توقيت، وتقبلت، وإن على مضض، هذا السقف الآخر ضمن حدود سلوك الموظف تجاه الزبون، فإذا بها تخزي ظني، مفاجئة إياي بطلبها الجديد والأغلظ أن تتعرف على هويتي من خلال بطاقتي الوطنية تحديدا، لتثور على إثر طلبها ثائرتي، متجاوزا بذلك، مباشرة وبكثير، المراحل الطبيعية في مثل هذه الحالة، والمتمثلة في الانتقال التدريجي للزبون من الاستغراب إلى الاستفهام إلى الدخول معها في مناقشة حيثيات الدافع من وراء إلغاء رخصة السياقة كوثيقة يمكن التعريف بها عن الهوية، وخلوصا بعد ذلك إلى الخروج من هذا النقاش بنتيجة تكون شبه وصول على الأقل، من قبيل الرضوخ تحت طائلة التبرير المعتاد كون الأمر "نازل من الفوق"، ولكن لغتها الشرسة وضيق خلقها معي أقصيا لباقتي المعهودة من خُلُقي أنا أيضا، ودفعاني لتبني رد فعل أشرس، كان من نتائجه استدعاءنا معا لمكتب المدير، وتعطيل خدمات شباكها لفترة فضه لنزاعي معها.

استقبلني بأدب لم أحس فيه تكلفا بالمرة، وتبنى مع الشباكية خطابا بخيلا، نم عن تكرر هذا الموقف بينهما، حتى ما عاد بوسعه سوى محاولة تجاهل ثرثرتها المترددة بين الاعتذار والتبرير، مكتفيا بين تدخل منها وآخر بقوله المقاطع أنه سئم غلظتها مع الزبائن، قبل أن يعود في كل مرة، وهو يطلب سكوتها بإشارة من إصبعه، ليطيّب خاطري، بشرحه لي كون طلبها أن أدلي إليها ببطاقتي الوطنية كان مبررا بنص قانوني لا يبرر طريقة طرح الشباكيين له على الزبائن وكأنه واجب فقط يفرض طاعتهم، متخيلين أن أي استفهام هو مضيعة للوقت، لا حقا صغيرا من جملة الحقوق المقابلة لواجباتهم هذه المرة، وأخبرني أن واحدا فقط من ضمن خمسة وعشرين من موظفيه هو من سلم من هذه العاهة الإدارية المتفشية، وأحالني عليه مفاخرا كون نسبة 4% تعتبر حسب تقييمه الشخصي نسبة عالية مقارنة مع نسبة الصفر في بقية مكاتب البريد التي سبق أن ترأس إدارتها خلال سنوات عمله الستة عشر الأخيرة.

كان أمين يحتل الشباك الأقصى عن مدخل المكتب البريدي، مما عاد ليفسر لديّ أخيرا كل ذلك الازدحام الذي استغربته أول ما دلفت المكتب، إذ كان من العادي أكثر أن يتسابق الزبائن عفويا على أقرب شباك بعد دخولهم، مثلما سبق قبل دقائق من ذلك أن حدث معي، وتبدّى لي جليا، عندما حلّ دوري في طابور الشباك التاسع، أن السمعة الطيبة لأمين كانت المحفز الأساسي لكل أولائك المصطفين أمامه ليتحملوا مشقة تجاوز ثماني شبابيك قبله للوصول إليه، وقضاء مصالحهم لديه هو بالذات دون غيره، مفضلين سعة الصدر وحسن الاستقبال على سرعة حلول دور كل منهم في أقل توقيت ممكن، وكأنهم مجرد أثقال زمنية تنزاح عن معصم الشباكي.

أنهى أمين مهمته معي في توقيت ناسبني ولم يستبطئه أحد ممن كانوا يلونني، حتى إنني عندما استسمحتهم أن آخذ من وقتهم القليل بعدُ لأسأل أمين عن صحة ما كان يشيع حول وجود تعرفتين متناقضتين تماما بخصوص الأداءات المقابلة للمبالغ المرسلة عبر الحوالة البريدية "ماندتي إكسبريس" شجعوني على ذلك مبدين اهتماما بالموضوع، بينما راح هو يفسر لنا بطريقة مبسطة كيف أن تقسيم بعض المبالغ المرسلة على حوالتين أو أكثر يخفض كثيرا في واجبات الأداء عليها فيما لو تم إرسالها عبر حوالة واحدة، وطمأننا أنه شخصيا يخدم زبناءه في هذا الجانب وفق ما يناسب مصالحهم المادية حتى وذلك لا يرضي أطرافا كثيرة في الشبابيك المجاورة، مثلما لا يرضيه هو إصرارهم على إيثار راحتهم بتركهم الزبون على جهله بالنظام التعريفي المتبع، متفادين بذلك أن تتولد عن نفس العملية الواحدة مجموعة من العمليات كفيروس مخيف.

كنت أقرب للمكذب بخصوص سقوط بريد المغرب في هفوة بليدة من قبيل تلك، ولكنني أبديت لأمين في المقابل تصديقي الخالص مع الرفض والاحتجاج تجاه اعتماد الشباكيين التعتيم في هذا الباب عكسه هو، ورد علي أنه فعلا بصدد التفكير في مكاتبة إدارته قصد إثارة انتباهها إلى هذا الموضوع الذي بات متار استياء كثير من الزبائن الذين علموا مؤخرا بتفاصيله، وحتى لا يهدر مزيدا من الوقت مدني بسرعة بعنوانه الالكتروني طالبا مني مكاتبته عليه لأي استفسار، قبل أن ينصرف للانهماك في خدمة بقية الزبائن.

كنت أعرف أن الحماس طاقة نفسية تفتر اطرادا مع اتساع المسافة الزمنية بيننا وبين الحدث الذي شحن أصلا ذلك الحماس، ولذلك بادرت إلى ارتياد أول ناد للأنترنيت صادفني في طريق عودتي، وراسلت أمين بمضمون استفهامي.

مر يومان، طالعت بعدهما بريدي الالكتروني فوجدت ضمن الرسائل رد أمين على مراسلتي له، يخبرني فيه أنه أتم إنجاز تنبيه كتابي بخصوص ما يعتري النظام التعريفي للحوالة البريدية من خلل لا يخدم المصالح المادية للزبون ولا المصالح المعنوية للبريد، وأنه راسل به المدير الجهوي لبريد المغرب تبليغا لهذه الأمانة الثقيلة، ووافاني بنسخة إلكترونية من مراسلته متمنيا أن أجد فيها جوابا شافيا على استفساري، وكان نصها الذي ترجمته عن الفرنسية (بأقصى ما أمكنني من أمانة) كالتالي:

من طرف محمد أمين، إلى السيد المدير الجهوي لبريد المغرب بالدار البيضاء.

الموضوع: تعرفة "ماندتي إكسبريس"

السيد المدير

أود، بادئ الأمر، أن أحيي حرصكم الكبير على مواكبة بريد المغرب للتطور المعلوماتي الحاصل، الشئ الذي أمدنا بمزيد من الارتياح للقيام بمهامنا اليومية في أحسن الظروف، كما أود بذات المناسبة الإشادة بمدى أهمية انطلاق العرض الجديد والواعد في مجال التحويلات البريدية "ماندتي إكسبريس"، هذا العرض الذي عمل فعلا على تكميل ما ظل يمس الحوالة الالكترونية من نقصان، بما في ذلك ما يتعلق بالعامل الزمني، وإنني في هذا السياق أثير انتباه سيادتكم إلى نقطة خفية قد تهدد الأبعاد المرجوة من هذا العرض، وأنا أقصد هنا تعرفته التي تنبني على مبدأ أن واجب الأداء على المبالغ المحولة التي لا تتجاوز العشرة آلاف درهم محددة في ثلاثين درهما، بينما يستخلص عن كل ألفيْ درهم مضافة مبلغ عشرين درهما آخر.

تعرفة بهذا الشكل تم اعتمادها دون شك سيدي المدير لغايات تنافسية، خصوصا ما تعلق منها بمبالغ التحويل الصغيرة، ومع ذلك فإنها تضعنا في موقف محرج بمجرد أن يتعدى المبلغ المحول الإثني عشر ألف درهما، إذ ينبثق عن ذلك إمكانيتا أداء متناقضتان، ولنأخذ كمثال حالة تحويل مبلغ ثلاثين ألف درهم، ففي الإمكانية الأولى يتقدم الزبون للشباكي بقسيمة تحويل واحدة متضمنة لمبلغ الثلاثين ألف درهم، ويكون من نتائج ذلك دفعه لواجب أداء بقيمة مائتين وثلاثين درهما على اعتبار دفعه لواجب أداء بقيمة ثلاثين درهما مقابل القسط الرئيسي المحول والمحدد في عشرة آلاف درهم، بينما تكون قد وزعت العشرون ألف درهم لباقي المبلغ المحول على أقساط فرعية بقيمة ألفيْ درهم لكل قسط، يُدفع عن كل منها مبلغ عشرين درهما كواجب أداء.

ينتبه الزبون في الإمكانية الثانية إلى فائدة تقسيم تحويله، فيتقدم بالتالي إلى الشباكي بثلاث قسائم تحويل لصالح نفس المستفيد، ويكون من نتائج ذلك دفعه لواجب أداء بقيمة تسعين درهما فقط، بما أنه سيدفع عن كل عشرة آلاف درهم مستقلة واجب أداء بقيمة ثلاثين درهما يصنع مجموعها أخيرا فارق ذكاء بقيمة مائة وأربعين درهما بين الزبونين لمجرد جهل أحدهما بهذه الثغرة في نظام التعرفة الخاص بالحوالة البريدية "ماندتي إيكسبريس"، علما أن هذا الفارق يصبح دائما أكثر شساعة كلما أصبح مبلغ التحويل أكبر فأكبر، وهذا يضعنا سيدي المدير أمام أمرين محيرين بحق:

 إما إبلاغ الزبون بإمكانية تقسيم التحويل الواحد إلى مجموعة التحويلات الممكنة التي تمكنه من أداء أقل، وهذا يفرض قيامنا بمجموعة عمليات بدل واحدة، مما يشكل في الأخير عبئا على بريد المغرب من جهة، ومضيعة لوقت زبنائنا من جهة ثانية.

 وإما عدم إبلاغ الزبون بهذه الإمكانية بتقسيم التحويل، وهذا يضر بالجودة التي ننادي بها، بما أننا نكلف الزبون ما يمكن أن يتفاداه بسهولة، مما يأدي بالتالي إلى الإضرار بسمعة بريد المغرب، لأن الزبون سيعلم إن عاجلا أو آجلا بهذا التعتيم الذي مارسناه في حقه.

لأجل كل هذا أطلب منكم، سيدي المدير، إعادة النظر في نظام التعرفة الحالي، ومحاولة الموافقة ما بين مصلحتنا ومصلحة الزبون الكريم، وإلا فأمدونا على الأقل بمذكرة رسمية حول الموضوع، تجبر كل الشباكيين على اعتماد لغة موحدة ونزيهة تجاه الزبون، وتحافظ لبريد المغرب على السمعة الطيبة التي يسعى جاهدا ليحققها.

وتقبلوا ختاما، سيدي المدير، فائق احترامي وتقديري.

التوقيع: محمد أمين

راقتني صراحة أمين، وأمانته، ورأفته، وغيرته، وإخلاصه، ونزاهته، وجرأته ...، ولكن ماذا قد يلخص كل ذلك ليكون شعارنا الأسمى عندما سيصبح لدينا الاستعداد الجمعي الكافي للمطالبة يوما بمحاربة كل هذا الفساد المتفشي والمراوح بين التعتيم والرشوة كمنشار شرس ومتوحش؟ تهوره بالتأكيد سيقول كثيرون عن خبرة ونظرية، أما أنا فلا زالت مسافة المائتين وسبعين كيلومترا التي صارت تفصلني عن الدار البيضاء (منذ نجاح محاولة انتقالي منها نحو مقر عمل آخر بمسقط رأسي) تجبرني على انتظاري بترقب وخجل وخوف لرسالة إلكترونية من أمين يؤكد لي من خلالها زيغ هذه الفرضية عن الصواب الذي لا يني يرجوه كل زبون من زبانيته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى