الاثنين ٢٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم زكرياء أبو مارية

قلبان بالمجان

قصة من الخيال العلمي

كان معروفا عنها، قبل أن يبتليها تخصصها في علوم الاستنساخ بالإدمان على البحث والتجربة في مجال استنساخ المخ البشري هذه المرة، حبها الكبير حد الإسراف لزوجها وللبيدزا باللحم المقدد، فإذا بها تفاجأ بانسحاب هذين الطبيعتين درجة درجة من قلبها، منذ تمكن الفريق الطبي التابع للمختبر العلمي الذي كانت ترأسه من أن يزرع في رأسها أول مخ بشري نجحت في استنساخه أخيرا من خلية نورونية كانت تخص صاحب نظريتي النسبية العامة والخاصة، ورائد الرياضيات النووية أينشتين، وبرّاد عرض نفسه في أفخر بقالة ما عاد يشد اهتمامها إلا بدافع مما كان يحويه أيضا من غيارات قلوب لا تزال على براءتها البكر الأولى.

دخَلَتْ، وليس في حقيبة يدها إلا ما تستطيع بفضله، وبالكاد، شراء غياريْ قلب فقط، أما بقليل من الشطارة فكان من شأن مساوماتها أن توفر لها من ثمن القلبين بعض المال، مما كان سيكفيها، لو أنها أحسنت المساومة مرة أخرى، لشراء شيء من الحليب والخبز، لعلهما يسدان فراغ يومين آخرين من جوعها الذي بدأته اختياريا، ليصبح بفعل إفلاسها ضرورة قسرية حطتها في حيرة من أمرها بين حاجتها للصوم، ترويضا للشر الذي بات يراود أفكارها منذ عملية الزرع، وحاجتها للشبع اللازم لتزويد المخ بالنشاط الكافي لإحسان المساومة على الأقل قصد الحصول على القلبين بأقل تكلفة تسمح بتوفيرها لما يمكنها بفضله تحقيق جزء من هذا الشبع، تحقيقا بالتالي لهذه العلاقة المشروطة وكأنها معادلة مستحيلة.

كان الأولى من هذا المنطلق هو أن تفطر أولا، حتى تكون احتمالات نجاحها في اقتناء القلبين بثمن قلب ونصف أكبر من احتمالات فشل أعصابها في تحمل لوك صاحب المحل لها عبر تشبثه بأثمنته لوقت طويل، وحدثت نفسها متندرة للرفع قليلا من معنوياتها أن معدة أخرى كانت هي آخر ما بإمكان معدتها أن تهضمه، لأنه كان يعني الانتصار أولا في معركة بقاء ضدها.

لم تحط نكتتها عن عاتقها شيئا مما كان ينوء به رأسها من أحمال، ولذلك كانت ثلاث دقائق، في تقديرها حينها، حدا أقصى كان عليها عدم تجاوزه، بل والتحدي ما أمكنها لتسجيل رقم قياسي في تفاوضها قبل أن تفقد أعصابها متانتها، وأن تفطر أولا لم يكن يعني تفادي الجوع وعواقبه فقط، وإنما كان أيضا مغامرة ستدفعها مضطرة إلى بذل شيء من اللطف إلى جانب مساوماتها، لتتمكن من الحصول على القلبين بالمتبقى من المال، بعد خصم حد أدنى ثمنا للخبز والحليب.

صحيح أنها هي نفسها من نجحت مع حلول سنة 2997 في جعل استنساخ القلب أمرا عاديا، كما لو أنه عملية توالد طبيعي، لدرجة أنه أُنجِز بميزة أن يستطيع برّاد حِفْظ عادي إبقاءه قابلا للزرع وبمدة صلاحية طويلة، وهذا ما شكل بعد سنة فقط من ذلك ثورة غير مسبوقة، مما لم يعد يجعل من الغريب إيجاد قلب مثلا معروضا إلى جانب المثلجات أوالعصائر داخل نفس براد العرض العادي، ولكن الحديث عن استحقاقها لنسبة من القلوب المستنسخة مقابل نجاحها كان بمثابة الحديث عن استحقاق مصمم أوراق مالية مثلا لنسبة من العملة المسكوكة، هذا عدا كون أرخص مادة غذائية باتت أغلى من أرخص عضو بشري مستنسخ، في وقت شحت فيه الأرض بخيرها، بل وقاربت أن تشح فيه بالحياة نفسها.

سنوات ثلاث صغيرة هي كل ما أثبتت الحسابات الأسترولوجية أنه بقي من عمر كوكب الأرض قبل أن ينتهي به التسارع المتواصل الذي كان يصيب دورانه حول نفسه يوما بعد آخر إلى التشتت في الفضاء هباء وشظايا، لولا أن توصلها للتقنية التي مكنتها من التوسع في عالم الاستنساخ ليشمل المخ أخيرا تم في الوقت المناسب، بعد عقود من استعصاء ذلك على قدراتها، بالرغم من كسبها لرهان أن تتوصل إلى استنساخ جميع الأعضاء البشرية بما فيها القلب قبل نهاية الألفية الثالثة، مما منحها المصداقية الكافية ليتقاطر المتطوعون برؤوسهم على طلبها بمجرد أن طرحت عبر وسائل الإعلام حاجتها لرأس يحتضن العبقرية الفذة التي ستتمكن من الإفلات بالناس من كوكب الأرض نحو أحد الكواكب التابعة لنجم 69830HD في مجرة الجراء.

كان النجاح في إنتاج الأوكسجين بهاذا الكوكب انطلاقا من مياهه الجوفية قد غير كثيرا في ظروفه المناخية، مما صار يخول الحياة عليه، ليبقى فقط كعائق أمام تحقيق ذلك عدم توفر الوسيلة السريعة للإنتقال إليه قبل حلول كارثة انفجار الأرض، وحصول فراغ فضائي بقوة امتصاص قادرة على تدمير أي وسيلة نقل محلقة لا تنتقل بضعفيْ سرعة الضوء على الأقل، لعلها تحقق الإبتعاد الكافي لأمانها، بتخطيها لعشر المسافة، البالغة إجمالا حوالي الواحد وأربعين سنة ضوئية، في مدى زمني لا يتجاوز السنتين.

كانت الأولوية بين كل الرؤوس المرشحة لمن رأت لجنة الاختيار أنه الأصلح لخدمة البشرية ماديا أيضا، مع تعاقد الأطراف المعنية بأن يكون مقابل العبقرية هو تمويل الحاصل عليها لمشروع النقل في حالة توصله إلى وسيلته، أما عن قابلية الرأس لاستقبال المخ، وردود الفعل المناعية الرافضة لهذا الأخير فلم تكن متغيرا ذا بال بعد الذي عرفه الاستنساخ من تطور جعلا زراعة الأعضاء على اختلاف أنواعها تلاقي الترحيب المناعي الكافي لنجاح كل العمليات، لكي لا يبقى كمتغير أساسي إلا حجم العضو المزروع وفقا لسن صاحب الجسم المستقبِل.

توقعت تأخر أولى النبضات الذهنية للمخ لأسبوع كأقصى ما خمنت أن بإمكانه أن يعترض العملية من فشل، فإذا بها تفاجأ بعد أقل من ساعة عن الزراعة بالنشاط المبهر للمخ، إلا أن الهبوط التدريجي في سوية السلوك التفكيري للمتطوع اطرادا مع تصاعد هذا النشاط جعلها تتمنى للحظة، بعد اقتراب مرور شهر فقط على العملية، لو أنها لم تنجُ من محاولة اغتياله لها، ولكن عادتها على التحدي وكسب رهاناتها عادت لتنتعش بداخلها لمجرد تفكيرها أن موت أحد طواقم المختبر فداء لها لا يجب أن يذهب هباء وسدى.

عزَت بادئ الأمر هذا الانحراف السلوكي لما اختارت أن تطلق عليه مصطلح "عقدة سنمار"، معتقدة أن رغبة المتطوع في التفرد بالعبقرية سولت له أن يحتكر المخ بالتخلص منها، كونها الوحيدة التي كان بإمكانها أن تنجح في تحقيق عبقرية مماثلة قد تنافسه في الكوكب الآخر، إلا أن هذا الظن فندته لجنة التقصي، عندما تدخلت بأمر حكومي لمعرفة الأسباب من وراء ذلك، ليثبت متخصصوها الطبيون أن تلك النزعة الإجرامية كانت نتاج طفو كيمياء الشر في المخ المستنسخ، مما نشط الغرائز التدميرية لدى المتطوع، لتنفتح بالتالي مسألة إنقاذ البشرية على احتمال كل الآفاق الممكنة، سامية كانت أو سافلة، وهذا وحده كان كافيا لتقرر لجنة التقصي على إثره تجريد المتطوع من المخ المستنسخ، واستعادته لمخه الأصلي، ومنع القيام بزراعة أي مخ مستنسخ مجددا لأي كان قبل تقديم الضمانات المثبتة لعدم تفكيره إلا وفق ما عُهِد أن المخ المستنسَخَ عنه كان يفكر في حياة صاحبه.

كانت عملية التحكم في كيمياء المخ هي السبيل الناجع لتحقيق هذا الشرط، ولكنها كانت لاتزال بعيدة منال، وقدّرت هي خمس سنوات أخرى حدا أدنى للتوصل إلى هذا المبتغى، كما أن إيمانها كان قويا بكون النفس، أو ما كان يصطلح عليه علميا بالأثير الفطري للقلب، هو المسؤول عن صناعة مزاج المخ، ولكنها كانت تعرف أن اللجنة لم تكن لتأخذ إلا بما هو مثبت بالآلة والتجربة الحية، ولذلك قررت أن تجري سرا عملية الزراعة لها شخصيا لتقف اللجنة تطبيقيا على حقيقة نظريتها، وتنتزع بالتالي موافقتها على إعادة التجربة مع متطوع من ذوي القلوب الطاهرة والتقية، بنقل المخ إلى رأسه، واسترجاعها هي لمخها، ظنا منها دائما أن قلبها قد لا يكون سعيدا بعيدا عن ذاكرتها، وقامت كحل احترازي بعملية تعديل صغيرة في نسخة جديدة من مخ أينشتين، تمثلت في دمجها للجزء المسؤول عن التخطيط والتحليل والمنطق الرياضياتي في مخه بالجزء المسؤول عن النشاطات العاطفية في مخ أحد أشهر كتّاب الرواية الرومانسية في القرن العشرين، بعد أن لعبت علاقتها الشخصية بمدير معهد أبحاث المخ التابع له مختبرها دورا كبيرا في سبيل إتمام هذا المشروع، بوضعه رهن إشارتها كل ما كانت تحويه البرادات الحافظة للمعهد من أمخاخ العباقرة المتطوع بها لغايات علمية من هذا القبيل.

لم تكد تمر أكثر من الساعة على نجاح الطاقم الطبي في زراعة المخ لها حتى أحست أن نوازع الشر فيه قد أخذت تزحف نحو قلبها شيئا فشيئا، مزاحمة إرادة الخير فيه، مما حدا بها، تحقيقا لهذه الحتمية بطريقة مسؤولة، أن تقْدِم على معاقبتها لذاتها بالصوم لمدد طويلة كأدنى إجراء في هذا الصدد، تنفيسا عن شرها من جهة، ورحمة بالآخرين بما فيهم زوجها من جهة ثانية.

واستمرت مشاعرها، مع كل يوم آخر كان يمر، على نفس وثيرتها من التقهقر، إلى أن تحولت بقوة الرياضيات نحو الجهة السالبة، وانتظرت بترقب أن يستقر المؤشر عند حد معين، ولم يلبث بالفعل أن كان لها ذلك فور أن بلغ بها قرار زوجها بأن يهجرها مراتب المنتقمين.

تمنت مرارا لو أنها تستعيد مخها الأصلي، لعلها تستعيد حياتها القديمة والسعيدة رفقة زوجها، ولكنها كانت ترى في كل مرة أن نهاية سلالة بشرية بكاملها قد تكون رهن إشارة هذه الأنانية من طرفها، وفكرت أن تنسى زوجها، وكانت أنجع طريقة لتحقيق ذلك إلى جانب تنفيدها لانتقامها منه دون إلحاق أذى حقيقي به هي أن تكتب رواية، تقتله ضمنها، وتجني من مبيعاتها ما قد تحصل به على مزيد من القلوب المستنسخة، مما ألجأها إلى الاستدانة ريثما تنجح في مشروع إنقادها للبشرية من فنائها، مع تعهدها بالتسديد داخل أجل صغير، ليس تخوفا من ارتفاع الفوائد، وإنما مراعاة لطارئ أن تستهلك كل القلوب التي ستقتنيها قبل التوصل للنتيجة المنشودة من وراء ذلك، واضطرارها بالتالي للإبقاء بعد السنتين المقررتين على آخر قلب مستنسخ لأكثر من الشهر، مما قد يؤدي بها حتما إلى إنكار الدين على صاحبه بفعل الشر الذي سيملأ قلبها حينها، لحسن الحظ أن مجرد تخوفها أن يصدر عنها ذلك كان يدفعها لاشعوريا لمزيد من التقتير والجوع اللذان اعتبرتهما إلى جانب كتابتها للرواية أنجع ما كان بإمكانه حتى تلك اللحظة أن يحافظ على قلب في جوفها طاهرا ما أمكن، ولأطول مدة ممكنة.

عندما خطت بها أولى خطواتها نحو الداخل حرصت أن يكون ذلك برجلها اليمنى لعله يزكي مسعاها، وأسررت البسملة عددا من المرات لتحط البركة في مساوماتها، وأول تلبية لدعائها الذي رفعته حينها مستغيثة بالتفات الله لجوعها وبتِّ شيء من عنايته ورفقه في قلب صاحب المحل تمت باستقبال هذا الأخير لها مرحبا بحرارة، على عكس ما خمنت أنه قد يصدر عنه، بعد أن سمره للحظة خلف صمته تأمله بتمل في وجهها وكأنه كان يحاول أن يتذكرها، أو ربما أن الاستجابة كانت تتنزل عليه حينها، ملزمة إياه بالسكينة كشرط من شروط استقبال أوامرها التي بدا من قسمات وجهه أنها كانت تملي عليه حسن استضافتها وإكرامها، وتلقي في قلبه الرفق بجوعها وآلام رأسها الذي تحاملت حتى هزته بالتحية أيضا.

غالبت رغبتها في القيء الذي صار يحرضه في نفسها منذ عملية الزرع أدنى تحرك مفاجئ من طرفها، بل إن يديْ صاحب المحل أيضا وهما تغاليان في الترحيب بها كانتا مثار غثيانها، مما دفعها أن تتفادى النظر إليهما لتقلِّبه بين القلوب والمأكولات المعروضة في برّاد العرض، وهذا نجح فعلا في إحلال السلام إلى حد ما بأحشائها وخاطرها، ولكنه أحل بها في المقابل ضعف ما كانت تعانيه من شوق للطعام والبراءة، وكانت بالتالي كالمستجير بالرمضاء من النار كما كان يقال ما قبل عهود التقدم الذري الذي قاد أخيرا نحو هذه النهاية المأساوية للأرض، ومع ذلك فصاحب المحل أبى إلا أن يبقيها متلظية بأمرّ الأمرّين، ليعود هذه المرة ومن فوره بيديه ليستعرض بهما ما ببراد العرض من مأكولات، ظنا منه، لما كان يبدو عليها من هزال، أن مبتغاها كان هو الطعام فقط، مصرا على تربص حركاته ببصرها، مرفقا ذلك بقوله أن كل ما يمر عبر مريء الواحد هو الأجدر بأن يبذل في سبيله كل ما يملكه، دون أن ينتابه لذلك ندم أو حسرة، أما هي فكانت حينها تبذل فعلا كل ما كان بوسعها بذله في سبيل ذلك، وربما ضعف ما كان بوسعها حتى لا يكون هذا المرور عبر المريء نحو الخارج.

كانت زراعتها لكل قلب في نهاية كل شهر تعني حصولها على قلب بكر وبريئ يمكّنها من الانطلاق من جديد في أبحاثها بدافع ونية خيِّران، ريثما يحين وقت استبداله هو الآخر مع حلول نهاية شهر آخر، عندما سيغلب الشر الزاحف إليه من المخ على خيره وبراءته، وحساباتها كانت تأكد تعويضها من طرف المختبر بعد السنة تقريبا عما كانت استدانته بمشقة وأنفقته على اقتنائها لبعض القلوب وعلى روايتها إلى أن لم يبق من الدين عندما نشرتها أخيرا واستنفدت كل القلوب إلا ما تستطيع بفضله وبالكاد شراء قلبين آخرين فقط، ومجرد التفكير في ذلك كان يسد شهيتها ليخدم هذا الجانب، إضافة إلى الدور الذي لعبه الإقبال الكبير على روايتها بعد أن أغرتها المراحل الأخيرة من براءة القلب السادس بطرحها مجانا في سوق الكتاب، ليضرب العنوان الأحمر العريض "قتل مع سبق حب" حصارا متينا على مدارج شهيتها، وأضحى وصول إغاثات أولية، ولو في شكل قيلولة وساندويتش، مجرد حلم لا يحط، وصار ساعة بعد أخرى يتعالى تصديح بطنها ورأسها كأنه كورال ألم.

لم يكن الزمن زمن أدب، بعد أن طُمِر أصحابه منذ قرون ليطفو بدلا عنهم كتّاب الخبر والفضيحة، ولذلك فُهمت روايتها على أنها اعتراف كتابي منها بالتعذيب الذي مارسته على زوجها قبل أن تُعمِل أخيرا شفرة حلاقته في عروق معصميه، وإمعانا في انتقامها، وفتحا في الرواية لأفق إجرامي آخر تنفس من خلاله عن بقية شرها، ربطت على مدى أزيد من الستين صفحة علاقات ماجنة كان ينهاها عن التمادي فيها كل قلب جديد يوم كانت تزرعه، ليكون إنهاءها لتلك العلاقة بعد أيام من الزراعة دمويا، مما صنفها ضمن مشاهير القتلة التسلسليين.

كان الطعام عندها بنصف أهمية القلبين، واستحق على الرغم من ذلك أن تبذل من أجله ضعف الوسيلة دون أن يشكل ذلك مفارقة، كما أن تبعات رواج روايتها باتت تطاردها كأنها سفاح كتَب اعترافه على نفسه بدم ضحيته، وتفتّح شهيتها في توقيت ملطخ كهذا كان تفتحا مبررا بما هو أكبر من بحثها عن الشبع، وحصولها على القلبين كان مصيريا، وعلى الرغم من أن اختيار طعام مناسب كان صعبا ويقتضي عدم التمادي في المغامرة، إلا أن المعروضات في البراد كانت مشهية ومغرية، وقد لا يكفي أن يسيل لها اللعاب فقط، ولولا اقتناعها ببراءتها وإصرارها على المواصلة في دربها الشاق لما تأنت لحظة واحدة في إراقة مزيد من الدماء خارج ما هو مفترض ومتخيل هذه المرة، مقابل ألذ ما كان يتواجد في المحل، ولكنها تمكنت باقتنائها أخيرا إلى جانب الحليب والخبز لقطعة جبن من النوع الرخيص من أن تحول اقتناعها إلى يقين راسخ، وأن تحبس أيضا عينيها من أن تفيضا بأقصى ما كانت تستطيع جعله يسيل بغزارة، إلى جانب يقينها بأن مزيدا من الشبع كان سيجعل بإمكانها أن تحصل على القلبين بثمن قلب واحد، مادام لم يكن سيتبقى معها في الأخير إلا ثمن قلب واحد، ومزيد من الشبع كان سيجعل باستطاعتها بلا شك بذل شيء من التوسل أيضا بدل اللطف والمساومة وحدهما.

كان إصرارها غريبا، انشغل عنه بشكل أغرب صاحب المحل بتأملها، كان متأكدا أنه رآها أكثر من مرة، وأخرج بعد لحظة روايتها من بين بضاعته، ثم أخذ يمعن في الصورة على غلافها الخلفي، وارتأت هي حينها أن تستغل انشغاله وتتسلل بعيدا بكل الهروب الذي كانت تمكّنها منه خطواتها الخائرة، والزحام الذي أصاب الشارع بعد حلول ثامنة ذلك الصباح، وكادت أن تستسلم للإغماء من هول ما أحست أنه كان ينتظر العالم عندما دارت بها الأرض وهي ترى المارة زمرا زمرا وهم يتشتتون بذعر من حولها، شاهرين بينها وبينهم، كالدروع الواقية، روايتها مقلوبة على نفس الصفحة الأخيرة ونفس الوجه، لولا سماعها، بعد برهة صغيرة، لصوت مرتعش وهو ينادي عليها من الخلف، متوسلا أن تعود، ليسلمها قلبين بالمجان.

قصة من الخيال العلمي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى