الخميس ٢٨ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
متتالية قصصية عن الرؤى والألم
بقلم زكرياء أبو مارية

أوطان صغيرة

(5) شامة

(شامة.. شامة الجابر.

كالضوء الكاشف في مقدمة كابوسي كانت شامة.. لم تفتأ على مر كل جلساتها العلاجية معي تتعقب آخر صورتين لم تنيا تؤلما مخيلتي: نفق طويل يخترقه بين فينة وأخرى قطار لاهث فيفض سكينته وظلمته، وآنسة "فاء"، بلباس شفاف وقُصة تخفي جرحا قديما في جبهتها...)

كانت بخط اليد وبغير عنوان، وصلتني من الشاعر عبر البريد المضمون، ومنذ أول نظرة ألقيتها إلى حلتها المرتعشة، كأنها كانت طالعة لتوها من حمى مزمنة، أخذ مني تأملها من الجهد أكثر مما استحقته محاولاتي السريعة والمتلهفة حينها لجعلي إياها أشبه بتداع عن بعد، آملة لو أشيّد بها العلاج لصالحي قبل الشاعر نفسه، لعلي أحاصر ما تسبب لي فيه افتقاده من ألم، وكانت المسودة تعود في كل مرة لتفنّد في أعماقي اعتقاداتي:

(...حديدي هذا الألم ومنفلت، تهرب مربعاته بالصور، وضجيجه أشبه بطقطقة حوافر فرس تكر، كان باستطاعته أن يتلمس طريقه في نفق مظلم، وكنت أستطيع بصرخة واحدة، مبحوحة كالصهيل، أن أجلو كل الظلام من صدري.)

* * *

مشقة الحرب واحدة، ولكن أليس من الأفضل لو أننا ننتصر؟

كان الشاعر معركتي، ولم يكن القطار والسكة الممتدة إلا الأذرع الغليظة والقاسية في كابوس كاسر لم يرحم تفكيره إلى أن قاده إليّ منهوكا، خائر السريرة والكتمان، وباعتراف ضمني منه هو نفسه في مسودته:

(التاريخ الحقيقي ذاكرة دامية لأن عليها أن تستمر.. قطار لاهث يدفعه خياره الوحيد أن يدهس كل من يعترضه ليبقى طريقه الضيق والممتد سالكا.. حرب سكك واسعة يثقفاها صهيل ووقع حوافر، موقن أنا أن الفارس المخلّص قادم.. قادم من ماض مجيد، ولن يتوقف قبل أن يتوقف الظلم والإهانة عن الامتداد فينا).

أخطبوط حديدي ومكهرب، لم يكن يبدو أنه سيرخي شده على سكينته إلا إذا تمكنت أن أستأصل "فاء" تحديدا من رأسه، ولكن ماذا أيضا عن ذلك الصهيل والفرس؟ ومن قد يكون الفارس؟ لماذا تواريه باستمرار في كابوس الشاعر، أم أنه كان يتوارى في حكيه عنه فقط؟ وهل تواريه هكذا كان يقلل أو ينفي أهميته ودوره، أم أنه بالعكس كان يعني أنه محرك الدمى الذي عليه أن يبقى مختفيا مع كونه هو البطل الحقيقي لأنه البطل الضروري؟ وماذا عن الشاعر؟ أين موقعه داخل كل ذلك الصخب الذي كان يحدث في صمت، عدا بقايا صرخته التي كانت تسبق انتباهته المفاجئة من نومه؟ وهل كان الأمر مجرد تداخل صوتين كانا ينسجمان في كابوسه أم أن التداخل كان يعتمل في صدره وذاكرته؟.

سأعرف منذ أولى جلساتي العلاجية معه أن كل هذا التداخل كان يحدث أحيانا داخل عمقه، حتى وهو يبدو خارجيا وسطحيا.. أحيانا؟!! ستكشف لي المسودة التي وصلتني بعد مدة من انقطاعه عن جلساتي، إثر اكتشافه لتصاعد تعلقي به جلسة بعد أخرى، أنه كان يعيش هذا التداخل، يشكله بالطريقة التي يريد أن يكون هو على هيئتها في النهاية: فارس نبيل، من أزمنة الوفاء الغابرة.

وماذا عن "فاء" من جديد؟ من تكون بالضبط عدا كونها الحب الأول للشاعر لأحس بكل هذا الحرج والثقة معا وأنا أحاول أن أمارس المحو عليها؟ ولكن ألست أوسِّع في دائرة الرسوخ الذي خصها به الموت في ذاكرته وأنا أتساءل حولها وأدوّن؟

ولكن لماذا هذا الحرف فقط مما هو ليس حتى اسمها، وقد يحيل ربما على (فلسطين) كونه موطنها لأبيها وبالولادة أيضا، "فاء"، على مر أزيد من الأربعين صفحة وكأنها خطوة أولى منه هو نفسه نحو محاولة محوها من عالمه ونسيانها؟

(تضيع الحقيقة لأنها ليست واحدة، ولأنها ليست الأعمق دائما، ولأنها موصدة غالبا ومفاتيحها أسئلة...)

وماذا عن حقيقتي أنا من منطلق هذا المنطق أيضا والشاعر يخاطبني في مسودة رسالته بضمير الغائب وكأنني آخر قصائده؟ ماذا عن موقعي أنا الأخرى ودوري؟ من أكون أنا أيضا وبالضبط؟ من أكون أنا أولا وبالنسبة لمن عدا "فاء" التي كانت وزنا ظل يصر أن يصحح بها وحدها النشاز من حوله، وكان فضلها الأكبر أنها ظلت تتخفى عني، على الرغم من معرفتي بأخفى خفاياها، إلى أن مكنتني ثقتها الكبيرة في نفسها أن أتجرأ لأورطه معي في عالمي أنا أيضا، ولكن دون أن أوظف مثلها الموت في احتلالي.

(- أنت نائم قالت لي، وتكتفي إن استفقت بالصراخ في وديانك.

 آه يا شامة قلت لها، لو تعلمين يا شامة، فقط لو تعلمين.)

 ماذا؟ سألته.

 "فاء" افتتحت بموتها احتلالي الكلي والنهائي لتستحقه عن قناعة ورضا مني.

 "فاء" فاتحة بغير وصول، عقبت، ليزكي ذلك استسلامه في قناعته ورضاه:

 كموت، كموت، رد بصوت متشنج.

وضرب بقوة، بنفس إيقاع هبّته المنادية، على صدره من جهة القلب، فضممته إليّ مرددة من بين نشيجي:

 برّا يا الباس، برّا يا الباس...

تصاعدت بها زفرتي من مخزون لغاتي المعتّقة التي ورثتها عن جدتي، ولعله سمع مني أيضا ما لم أقله: "فاتحة فاتحة، لو أنك غير تموت عليّ كيف ما تتموت كل نهار على هاذ "فاتحة"، لو أنك غير تجرب.

(ولكن هل كان سينشرح كل ذلك الخواء الذي خلفته بداخلي فاتحة كغربة؟!!)

كنت أشك ولو كونه قد يمتلئ، فإذا بالظل كان يعِد بأكثر من ذلك منذ البدء، وكانت أشجار الشاعر تنتظر فقط أن يمر خريفها بسلام، وكان أول ما تفتح فجأة عن الخضرة من أوراقها في سماواتي هو آخر ورقة من الأوراق الثلاثة والعشرين في مسودته:

(...وشامة لم تكن نقطة سوداء، بمعناها الأقرب إلى نسيب صبت قوافيه فوق خد أسيل، إلا لكونها كانت نقطة الختام في حدادي ويأسي.

جمعت شتات شظاياي شامة الجابر، ولو أنني أدخل في مغامرة إخراج باقي معانيها من قاموس لاوعيي لتهيأ لي أنا نفسي أنني اصطنعتها لتعزيني في فاتحة، إلا أن حبا صادقا يمكن أن يكون دائما وطنا آخر.)

(5) شامة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى