الأحد ١٥ أيار (مايو) ٢٠١٦
أستطيقيا الزمن الروائي والشعري في قصائد
بقلم عصام شرتح

«أولئك أصحابي» لحميد سعيد (الحلقة الأولى)

لاشك في أن الشعرية المعاصرة اعتمدت لعبة الزمن كلعبة أستطيقية مفعِّلة للرؤيا الشعرية والحدث الشعري في آن معاً،لاسيما حين تكون هذه اللعبة مقترنة بفواعل رؤيوية محركة للحدث والموقف الشعري في الكثير من الأحيان، والملفت أن الكثير من الشعراء يظهر الزمن في قصائدهم زمناً متخيلاً أو زمناً مرحلياً آنياً سكونياً رهين لحظته الشعرية،لا يكاد يتعدها،أي لا يتحرك الزمن فيها إلا في إطار ضيق لا يتعدى النص أو الزمن الشعري الداخلي للقصيدة،ومثل هذه القصائد تكون رهينة زمنيتها،ورهينة محورها الرؤيوي الذي ترتكز عليه، فإن كان المحرك الرؤيوي للقصيدة مفتوحاً على آفاق رؤيوية عميقة امتد الزمن الشعري، وامتدت دائرته الزمنية لتتعدى المرحلة المؤسس لها إلى مراحل وآفاق رؤيوية مفتوحة لا تتحدد في إطار، أو موقف محدد ،أي يبقى الزمن متحركاً بأطيافه ورؤاه ومنظورته مادام النص موجوداً، وفواعله الرؤيوية الأستطيقية نشطة في مغرياتها ومؤثراتها الفنية،ولهذا؛ يبقى الزمن لعبة أستطيقية لكل نص شعري مفتوح ومتجدد في رؤاه، ومقوماته، ومؤثراته الفنية ضمن القصيدة، وقلما هي النصوص الشعرية التي تتجاوز رهنيتها الزمنية لتفتح بوابة الزمن مشرعة على مساحات زمنية ممتدة، وعلى آفاق رؤيوية لا متناهية، يقول عالم الجمال(روزنتال):" إن زمن الشاعر يمتد إلى زمن الشعر لأنه بعد أن يحيا زمنه المادي والروحاني يمتد ليحيا قصيدته في تجلي اللانهائي، محققاً الوحدة الزمنية المنشودة"(1).وهذا يعني أن الزمن الشعري هو الزمن الإبداعي الذي يتجاوز الزمن المادي إلى الزمن المتخيل أو الوجود الزمني المفتوح الذي يسبح في فضاء زمني سرمدي لا ينتهي،وهنا يفرق الناقد قصي الحسين بين الشعر الإبداعي الحقيقي والشعر التقليدي من خلال حوارية الزمن وتجاوزه وسيولته الزمنية الممتدة إلى فضاء سرمدي لا متناهي، إذ يقول:" الشعر الإبداعي ، أو قل الكتابة الإبداعية بشكل عام هي مظهر جوهري أبدي متصل بعمق الحياة الحضارية عند الأمم والشعوب كافة،بينما يقيم نظام الكتابة التقليدية،والشعر التقليدي بخاصة في الزمن المتقطع العابر والمؤقت. فالتضاد بين الزمن السائل/ المستمر من جهة، والزمن المتقطع من جهة أخرى،هو المعادل الحقيقي للمعادل الفني الذي يتمثل في عملية التضاد بين الشعر الإبداعي الدائم السيولة في النفس الإنسانية والشعر التقليدي الوقتي الذي يعيش على ضفاف الآن"(2).

والجديد بالذكر أن أستطيقا الزمن الشعري أو الزمن الإبداعي هي في قدرة الزمن على التنامي إبداعياً مع الأحداث والموقف،فالزمن الإبداعي لا يدرك ولا يقاس بآلية زمنية معينة أو محددة، إن الزمن هو الأفق المتنامي في هذا الشكل الإبداعي أو ذاك،ولا ينفصل الزمن عن جوهر الرؤيا الشعرية ومقومها الفني،وهكذا" يستحيل الزمن بموجب محتوى النص الإبداعي الحقيقي إلى سلسلة من الحركات المتموجة المختلطة التي تتلاعب في إدراك الشاعر؛ بحيث تتشكل اللحظة الحاضرة في الإدراك المركب للماضي وإن بصورة مشوشة عند بعض الشعراء. فلحظات الماضي التي تعول على لحظات الحاضر،وكذلك لحظات الحاضر حين تعول على لحظات الماضي، تبعث في النص الشعري طاقة قوية لها صفة الإشعاع الحي في الحاضر كما في الماضي أو في المستقبل،وتتيح للقارئ أن يجد فيها أبعاداً جديدة ومتعددة"(3).
والجدير بالذكر أن فواعل الزمن إبداعياً في لعبة النصوص الإبداعية أستطيقياً تعتمد على مهارة الشاعر ورؤياه الشعرية المنفتحة،فالنصوص الخلاقة برؤياها تتجاوز الزمن المتحجر المقيت الذي تعيشه لتخلق زمنها الإبداعي الخاص المفتوح الذي يحايث كل العصور ،ويدخل في نطاق صراعها وحركتها الوجودية الصاخبة." فزمن الشاعر يبدأ أولاً من زمنه التخيلي،حين يصبح بإمكانه إتقان صنعته فكرة وفعلاً ووجوداً،قبل أن يصوغ كونه الشعري الخاص"(4).

والشاعر المبدع هو الذي يخلق زمنه الإبداعي الخاص وبصمته الإبداعية المؤثرة التي تتنامى في خلقها،وتتنامى في مؤثراتها،فيمتد الزمن بأطيافه وفواعله في المنتج الشعري ليعيش حيوات متجددة في أزمنة قادمة وأزمنة متوالدة مستقبلية لاتنتهي،وهنا،يمكتاز النص الإبداعي المؤسس للخلود عن النص القابع في شكله ومظهره ورهينته الزمنية.
وما من شك أن الزمن الشعري في قصائد ( أولئك أصحابي) لم يكن زمناً متحجراً، أو زمنا ثابتاً راكداً بموقف، أو دلالة، أو رؤيا ، إنه زمن منفتح بانفتاح الشخصية الروائية ،وانفتاح أفق تناميها الفكري والشعوري، وموقفها المقترن بها، والإحالات المضافة إليها،وهذا يعني أن الشخصية الروائية تتجاوز زمنها الروائي لتدخل زمنها الشعري،وتتجاوز زمنها الشعري، لتطرح زمنها الكوني الوجودي،وهذا ما جعل لقصائد حميد سعيد هذه القوة في تحقيق بصمتها الإبداعية،وتعدد رؤاها، ومتعلقاتها الإبداعية،وتتجدد أطيافها الرؤيوية كلما دخل القارئ فضاء متونها الشعرية، وهذا يعني : أن زمن إبداعها كان على مراحل أي كان ممتداً ليشمل رحلة حياة طويلة ،تمثل فيها الشاعر هذه الشخصيات وعاشها في واقعه الراهن،ومن أجل ذلك لم يكن زمنها مقفلاً بلحظة خلقها واكتمال مخاضها، إنها مختمرة في مخيلته واقعاً معيشاً لا متخيلاً،ويخطئ من يظن أن قصائد (أولئك أصحابي) قابعة في زمن محدد أو مرحلة محددة، إنها انفتاح في مسار رؤيوي متجدد ، لا تقف فواعلها على حدث متخيل قد مضى وفقد بريقه، أو مشهد روائي جرى وانقضى ،وإنما هي أحداث راهنة وأزمنة متجددة،فالزمن الشعري لا يمكن أن يكون ثابتاً أو قاراً في مرحلة إذا كان زمناً إبداعياً خلاقاً، ورؤيته متوهجة معطاءة كذلك، ولا يمكن للزمن الإبداعي الخلاق أن يقاس بآنيته أو رهنيته، إنه ساحة ممتدة من الأطياف الزمنية والإبداعية المنفتحة التي تتسع باتساع الأفق،وحركة الكون والحياة،وهذا ما ينطبق على نتاج الخالدين كالمعري،والمتنبي وغيرهم في تاريخنا الأدبي الخالد.
فواعل الزمن الروائي والشعري أستطيقياً في قصائد ( أولئك أصحابي) لحميد سعيد:
تشتغل قصائد( أولئك أصحابي) على أكثر من محور ومحرق دلالي، إنها غابة من الرؤى والدلالات في مدها الاستطيقي الزمني لاسيما إذا أدركنا أن فواعل الزمن في هذه القصائد مؤسسة على فاعلين مضاعفين هما( الزمن الروائي) أو الزمن الحقيقي لا المجازي أو الزمن المتخيل في واقع الرواية الإبداعي،وزمن شعري يتداخل مع الزمن الروائي في تحريك الشخصية الروائية،وتكثيف الحدث الشعري الروائي من خلالها،ولهذا ينتج هذا الانفتاح الزمني من تلاقح الزمنين( الروائي والشعري) معاً في تكثيف منتوج الحدث والموقف الشعري،ولهذا، يتجاوز زمن هذه القصائد الحدث الروائي والحدث الشعري ليدخل في نطاق الحدث الأسطوري،وهذا يعني أن الشاعر حميد سعيد كان يدرك أن قصائد ( أولئك أصحابي) ليست رهينة زمنها ولا أحداثها ولا فضائها الساكن في موقف زمني أو رؤيوي محدد ، إنها منفتحة بانفتاح الأفق المتنامي لحراك الشخصيات الروائية ،وتتالي موحياتها ومؤثراتها وأدوارها وفواعلها النشطة في متون هذه القصائد؛ ومادامت الشعرية التي تفجرها هذه النصوص متنامية في حراكها ورؤاها،فهذا يعني أن زمنها متحرك كذلك. ولدراسة ملامح هذا الحراك الزمني "أستطيقياً لابد من الكشف عن فواعل الشخصيات الروائية في الحدثين الروائي والشعري من زوايا متداخلة تؤكد قيمة كل من النص الروائي والنص الشعري في كثافة الرؤى المنتجة في هذه القصائد،وفاعلية التمثل الرؤيوي لهذه الشخصيات ونقلها برؤى وفواعل دلالية ناشطة تؤكد عمق الرؤيا الشعرية وأهمية هذا السبق الإبداعي في تأكيد تميزه وبصمته الإبداعية وفق منظورات دقيقة تبين فواعل الزمن أستطيقياً على المستوى الإبداعي في تنامي شعرية هذه القصائد وفق محك الرؤية الاستطيقية الزمنية لفواعل هذه القصائد ،كما يلي:

1-أستطيقيا الزمن الروائي -الشعري فضاءً رؤيوياً متخيلاً وإحساساً وجودياً شاملاً:

إن قارئ قصائد (أولئك أصحابي) لحميد سعيد يلحظ أن قصائده تشتغل على زمنين متداخلين زمن إبداعي روائي وزمن إبداعي شعري،ومن خلال فاعلية هذين الزمنين ينشأ الزمن الإبداعي المنفتح أو الزمن الإبداعي الجديد المتخيل وهذا الزمن هو الذي منحها قيمتها الإبداعية في جزء هام ورئيس في محرقها الإبداعي الخلاق،وهذا يعني أن لغة الفن هي ما يميز هذه القصائد في انفتاحها وحركها الرؤيوي وتوالدها الدلالي،يقول(غراهام كوليير):( إن الفن يقوم حتماً بوقف الحدث وبجعل اللحظة أزلية نسبياً)(5).وهنا يتجدد الزمن في حركة هذه القصائد ،ليكون المنتج لكل توهجات الأحداث وحراكها الشعري في تنشيط الشخصيات الروائية في القصيدة وتكثيف الأحداث والرؤى الشعرية ،وللتدليل على فاعلية أستطيقا الزمن الروائي- الشعري فضاءً رؤيوياً وإحساساً وجودياً شاملاً نأخذ قصيدة(تجليات الماء)، وفيها يتمثل شخصية القبطان " إيهاب" بطل رواية " موبي ديك" لهيرمان ملفل .وتمثل أحداث الرواية صراعاً تراجيدياً، بين حوت وإنسان، وهذا الصراع يعبر عن الوضع البشري وعلاقته بالوجود والحياة، متحولاً إلى رمزية فيها الكثير من التعقيد ، وبرى بعض النقاد ، إن هذه الرواية جسدت المشروع الأمريكي ، سياسيا واجتماعياً، آنذاك ، وأسلوب الرواية المؤثر، المقنع ، المشوق، شد انتباه القارئ باهتمام بالغ، وقرئت في ما يعد سياحة إبداعية فكرية"(6).

والجدير بالذكر أن من يقرأ قصيدة( تجليات الماء) لحميد سعيد يلحظ انفتاحها الزمني،ويلحظ رمزية القصيدة بتداخل الأحداث ولعبتها الأستطيقية في تكثيف الحوار البوحي الذاتي،والسرد الوصفي بلغة تميل إلى المخاطبة المباشرة،وكأن شخصية إيهاب هي المعادل الوجودي لحركة الصراع الذاتي بين الذات في اغترابها وصراعها الوجودي والواقع القميء القائم على القهر والظلم والاستلاب، وهذا ابصراع تمثله الذات الشعرية كما هي عليه الحال في شخصية ( إيهاب ) في صراعها مع الحوت، ومقاومتها له لإعلان الصمود وعدم الانكسار،وهذا يعني أن الشخصية الإيهابية هي صدى ارتدادي لشخصية الشاعر المغتربة المقاومة، لتعيش معه وجوده القلق واصطراعه الداخلي،وهنا كثف الشاعر من أطياف المواجهة بين الشخصية الشعرية والشخصية الروائية، إذ يقول:
إيهاب
حتى إذا ما التقينا .. على غيرِ ما موعدِ
في الطريق إلى مطعم الأميرة الغجريّةِ..
عند منعطف الشارعِ السابعٍ..
لا تنتظرني
مُذْ لحتَ لي في شتاءٍ بعيد.. تُغادِرُ فندقك العتيقَ..
لتلحقَ بي.. تحاشيتُكَ..
كنتُ تحاشيتُكَ من قبلُ
كيفَ التقينا؟"(7).

إن اللقاء بشخصيته الروائية وجهاً لوجه يمثل في اللعبة الاستطيقية الزمنية محرق تفعيل الشخصية الروائية،وهذا يجعل المد الزمني متحركاً،وتتحرك الشخصية لتعكس جماليات الشعرية بجمالية الحبكة القصصية والسرد الروائي،ولعل ما يلفت النظر هذه المحاورة الكاشفة لشخصيته الروائية لتبدو منطوية على أكثرمن موقف ورؤية،ومنظور وجودي محايث لواقع الشخصية الروائية في بعدها المرئي الواقعي – المتخيل،(كنتُ تحاشيتك من قبل كيف التقينا)،ويتابع الحراك المشهدي البانورامي بحراك الزمن وفضاء المتخيل السردي – الشعري الروائي،لتتداخل الأحداث الروائية بالمشاهدة بالمتخيلة في بانوراما تشكيلية تنفتح على دلالات ورؤى تجسد الصراع الداخلي وانتقاله إلى الجسد اللغوي كما في قوله:

"ألا تتذكّرُ ما كان منكَ.. وما كانَ منّي ؟
ما زلتُ أسمعُ وقعَ خُطاكَ الثقيلَ..
على حجر الشارعِ..
أنتَ تَحاشيتَ كلَّ الذين تمرُّ بهمْ
ووقفتَ لتسألُني.. عنكَ!"(8).

هنا،يتحرك السرد الوصفي بالحوار،ليعيد محرق الدلالة الاستطيقية الزمنية إلى الواجهة،والحوار واللقاء رغم أنه متخيل أولا واقعي بيد أن الحدث الزمني يشتعل على الحدث الشعري المتخيل وهو ما يكسبه الحرارة والواقعية والمباشرة التامة( أنت تحاشيت كل الذين تمر بهم ووقفت لتسألني عنك) وهذا يدل أن الحوار مباشر واللقطة المشهدية البانورامية ممتدة زمنياً، وهذا ما نلحظه في تتابع الرؤى والمواقف الشعورية،كما في قوله:

" أنتَ الذي لمْ يَرَ البحرَ..
هذا الذي يتراءى لكَ الآنَ..
ليس الذي كنتَ تبحثُ عنه
إنَّ دمَ السيّدِ الجميل.. يشهدُ للسيِّد ِ الجميلِ
بما.. مَدَّ موكبُهُ الأبيضُ المهيب ُ..
من ألَقٍ حيثُ كانَ..
كلُّ البحارِ تفتحُ خلجانها..
ليدخُلُها الموكبُ الأبيضُ المهيبُ.. وتغلقُها..
دونَ ما أنتَ فيهْ
إذْ توهمت.. إن الرياحَ التي اختطفتكَ إليهِ..
سَتُسْلِمُهُ..
أَسْلَمَتْكَ إلى عُزْلَةِ.. تتوارى بعيداً عن الماءِ"(9).

إن القارئ يلحظ تداخل السرد الوصفي بالحبكة القصصية في لعبة أستطيقية ينفتح فيها المد الزمني ليجمع بين الحدثين الروائي والشعري معاً،وتتلون أوجه المناوشة والصراع بين الشخصية الروائية في واقعها الروائي،والشخصية الروائية في واقعها الشعري الذي تلعب به كل مثرات الرؤيا، وامتداداتها الشعورية ،لينطلق هذا الصراع من باطن الذات إلى الشخصية ،ومن الشخصية إلى الذات بمناورة سردية رؤيوية فارقة تجعل الزمن الروائي والشعري زمناً منفتحاً والحدث الروائي منفتحاً كذلك بتضافر الرؤى المتخيلة والتفاعل شعورياً ونفسياً مع الشخصية الروائية،فلا يستطيع القارئ التمييز بين إيهاب الرواية وإيهاب القصيدة،فكل من هاتين الشخصيتين مايدلل على التحامها في القصيدة والرواية في آن معاً،فهي لا تنفصل عن الرواية كونها واقعاً وجودياً وإحساساً تراجيدياً لواقع ملحمي اصطراعي بين قوى الخير/ والشر،وما الحوت إلا الوجه الدموي الاصطراعي لهيمنة الرأسمالية على واقع الفقراء البائس، فإيهاب الرواية هو صانع الحدث؛ وعليه تدور الأحداث والمنشطات الدلالية، وفواعلها الرؤيوية؛ في حين أن إيهاب القصيدة هو موضع التلاعب في حركته لتكون القيمة للذات الشعرية في تحريك الشخصية الإيهابية، وتحميلها رؤى، وأحداثاً ومواقفَ جديدة ليست مؤسسة لها أو فاعلة بها ،وإنما هي مسقطة عليها من لمسات الشاعر وفيض إحساساته ورؤاه الوجودية:(إنَّ دمَ السيّدِ الجميل.. يشهدُ للسيِّد ِ الجميلِ بما.. مَدَّ موكبُهُ الأبيضُ المهيب ُ..)؛وهذا يعني تحرك الرؤى وتشعبها وفق منطق رؤيوي منفتح في لعبته الاستطيقية الزمنية، إذ يقول:

"والسيّد ُ الجميلُ.. مازالَ موكبُهُ الأبيضُ المهيبُ..
يدخُلُ أَيَّ البحارِ يشاءْ
لِمَ هذا الغباءْ؟
حاولتَ أنْ تجعلَ الماءَ مقبرةً
وحاولَ أن يجعل الماءَ.. مملكةً ساحٍرهْ
في موانئ باردةٍ..
بانتظاركَ كلُّ الذين ضيّعتهم في المياهِ البعيدةِ
حيثُ اقتفيتَ ما كنتَ تَحسَبُهُ حُلُماً..
ومن أجلِ وهمٍ تلبَّسَ روحكَ..
ها أنتَ .. في هذه المدينةِ..
لا أحدٌ من أباطرة الموتِ..
مِمَّن خلعتَ عليهم بُرودَ العواصِفِ..
يَسأَلُ عنكَ"(10)

إن اللعبة الأستطيقية الزمنية تبدأ من الحدث الروائي، لتدخل الحدث الشعري،وتنطق من الذات الشاعرة، لتدخل فضاء الشخصية الروائية (شخصية إيهاب)،في محاورة وتساؤلات ممتدة ومحترقة شعورياً، تخرج من شعور الذات الإيهابية، وتخرج عن نطاقها إلى الذات الشعرية،بحركة منفتحة تشتغل على محاور ومتعلقات وأحاسيس، ومنظورات محركة للشعرية،(لمَ هذا الغباء؟ حاولت أن تجعلَ الماءَ مقبرةً..وحاول أن يجعل الماءَ.. مملكةً ساحرهْ)،واللافت أن المد الزمني المتحرك أستطيقياً يؤسسه الشاعر على المواجهة الكاشفة بين الشخصية الشعرية والشخصية الإيهابية، بمعمعة شعورية وجودية منفتحة،يحمِّل الشخصية أكثر من رؤية وموقف، تتعلق بذاته المغتربة واصطراعه مع قوى الشر والطغيان أولئك الذين باعوا العراق وقبضوا ثمنها البخس وذاته الجسورة المتمردة على قوى الظلم والطغيان والبطش كافة،لينتهي بعزلة إيهاب البحار بعد مواجهة قوية أعادته إلى غربته كما غربة الذات الشعرية عن الأجواء العراقية واعتزاله عنها اعتزال المبعد العاجز الذي لا حول له ولا قوة في ظل فساد الواقع وطغيان قوى الشر وهيمنتها على ملامح الوجود الذي يسير رويداً رويداً إلى هاوية الدمار والخراب الوجودي والعزلة والقيدية والاختناق(ها أنتَ .. في هذه المدينةِ..

لا أحدٌ من أباطرة الموتِ..مِمَّن خلعتَ عليهم بُرودَ العواصِفِ.. يَسأَلُ عنكَ)؛وهنا يدمج الشاعر المد الزمني الواقعي بالأسطوري ،والحدث الواقعي بالأسطوري ،وتتلون الدلالات والإيحاءات والملصقات المرتبطة بالشخصية لتنفتح في لعبتها الزمنية الأستطيقية على أمكثر من مرحلة ، وأكثر من طيف زمني وجودي ليصل إلى زمن أسطوري سرمدي مفتوح :

"في ما مضى..
كانتْ الأساطيرُ تنزلُ حيثُ نَزلتَ
لقد شاختْ الأساطيرُ وانطفأت قناديلها..
أَيُّ أسطورةٍ ستُعيدُ إليكَ سطوتك الآفلهْ ؟
لا غرابةَ.. في ما انتهيت إليهْ
وأغربُ مما انتهيت إليه.. سيأتي
فمن ستكون .. بلا بحر ؟
لا سُفُنٌ .. لا رفاقٌ ..
ولا عائلهْ
لو حلمتَ.. بأنّكَ بالقرب من باب بيتكَ..
كُنتَ تشكُّ .. بأنّكَ بالقُربِ من باب بيتكَ..
لا أحَدٌ في الجوارِ ..
مُذ أَسَرتكَ المياهُ البعيدةُ.. غابَ الحوارْ"(11).

إن الشخصية الإهابية في الحدث الشعري لم تواجه البحار والحوت وإنما واجهت قوى الزيف والطغيان،التي يمثلها الحوت في عالم البحار،ولهذا،تعدت الشخصية الروائية في الحدث الشعري لتكون ملمحاً أسطورياً وجودياً للكشف عن نوازع الشر في النفوس البشرية،وإن الإنسان منذ ولادته وصرخته الوجودية قد أصبح في صراع مع الحياة ،هذا الصراع من أجل الوجود وإثبات كينونة الذات، لكن الشاعر لم يقصد هنا أن يدخل الشخصية الروائية عالم البحار رغم دلائله الصريحة عليها(مذ أسرتك المياه البعيدة .. غاب الحوار)،وإنما أراد أن تدخال شخصيته عالم الصراع مع الوجود،كما هو في صراعه مع برائن الحرقة والاغتراب وطغيان قوى الشر على عالمه الوجودي الذي نال منه كل أنواع الغربة والأسى والمرارة الوجودية، وتأسيساً على هذا؛ حقق الشاعر مقتربه الرؤيوي ،فهو يرلايد من إيهاب أن يكون واقعياً في مواجهته ،لقد انتهى عصر الأماني الخائبة ،واتحقيق المستحيلات كما في الأساطير لقد شاخت الأساطير وانتهى عهدها البطولي الأسطوري الخارق ليعيش واقعه ويواجهه مواجهة صارخة صادمة غاية في الامتلاك والحرص والقوة والثبات:( لقد شاختْ الأساطيرُ وانطفأت قناديلها..َأيُّ أسطورةٍ ستُعيدُ إليكَ سطوتك الآفلهْ ؟لا غرابةَ.. في ما انتهيت إليهْ"،ولفظة (لاغرابة) جاءت لتعمق إحساسه الوجودي وما انتهت إليه شخصيته الروائية من عزلة واغتراب بعدما كانت تفيض بالقوة والحراك والمد الروحي في استقطاب كل ماهو صعب ومستحيل وتحقيق المعجزات، وهكذا تلونت رؤاه بين رؤيتين لزمنين متضافرين(زمن الرواية وزمن القصيدة)و(حدث الرواية وحدث القصيدة)،وتتابعت الرؤى واستمرت على هذا الحراك الرؤيوي في التلاعب الاستطيقي الزمني بالمواقف والأحداث الشعرية، لتحقق القصيدة منجزها الإبداعي ولعبتها الإستطيقية المفتوحة على أكثر من محور ودلالة ورؤية شعرية،كما في قوله:

أَتُرى.. هلْ ستحلمُ ثانيةً أنْ تكون ؟
لتصعدَ من ومضةٍ..
كَشَفتْ كلَّ ما خَبّأتهُ القُرونْ
تعودُ إلى الماءِ..
من غير أن يتراءى لك الموكبُ الأبيضُ المهيبُ..
مُقترِناً بدم السيّد الجميلِ
تُعيدُ إليك الضفافُ البعيدةُ.. صَفوَكَ
كُن حَذِراً منكَ
إيّاكَ أنْ تتمادى.. كما كنتَ
للماءِ هذي القراءة.. يفتحُ أبوابه للمُحبّينَ
لا توقظ الموت ثانيةً.. ليمدَّ يديه إليهْ
. . . . . .
. . . . . .
أفارقُكَ الآنَ.."(12).

إن المحاورة الكاشفة التي يبثها الشاعر في أتون تفعيل الشخصية الروائية في الحدث الشعري يهبها العمق والتلوين الدلالي،فهو لا يحاورها إلا ليرسخ قيمة وجودية، ،ويكشف عن رؤية، ونتيجة، وملامح رؤيوية يرمي إليها،فإيهاب الرواية التي يتصارع فيها مع الحوت هو غير إيهاب القصيدة التي يتصارع فيها مع الحياة،لكن النتيجة أن صراع الحياة أشد قوة وصلابة من صراع الحوت ،فكلاهما عانى الاصطراع الوجودي،والاضطهاد وكلاهما حلم بالانتصار،هو بالعودة إلى الأجواء البغدادية ،وشخصيته الإيهابية بالعودة إلى البحار وصراع الأمواج والحيتان،ولهذا يعتمد الشاعر الحوار (البوحي الالتفاتي) بالالتفات والحديث إلى الشخصية الروائية وجهاً لوجه، ليمنحه بعض النصائح، ليتخطى عالمه الوجودي الزائف،ويبني جسر المقاومة بثبات وعزيمة:( إيّاكَ أنْ تتمادى.. كما كنتَ .للماءِ هذي القراءة.. يفتحُ أبوابه للمُحبّينَ.لا توقظ الموت ثانيةً.. ليمدَّ يديه إليه.. أفارقك الآن)،وهذا الحوار واللقاء المتخيل بين الذات الشعرية والشخصية الروائية يعكس الواقع الروائي- الشعري المعاصر،ويبين أن الحوار ممتد زمنياً في رقعته الاستطيقية الممتدة في زمنها الوجودي التعبيري، وكأن الحدثين الروائي والشعري حدث واحد وأطيافه الزمنية ممتدة امتداد الحياة والصراع الوجودي الدائر بين قوى الخير والشر على امتداد الحياة، ورقعة الواقع والوجود،وهذا ما كشفته المحاورة الهادفة بين الشخصية الشعرية والروائية لتكون القصيدة لعبة أستطيقية حوارية في تجسيد الزمن والتلاعب بالأحداث الشعرية وتلوينها تبعاً لحراك الذات الشعرية وإبراز متحققها الوجودي،وهكذا تتلون الرؤى ليؤكد الشاعر بصمته في الختام وانفصاله عن الشخصية بعد التحامه بها ومواجهتها وتقويم ما ورد في سلوكها وتصرفاتها من منزلقات ليدلي نصائحه الأخيرة، بعد انفصاله ورحيله عنها، وانقضاء اللقاء المتخيل المبرمج في مخيلته وإحساسه الداخلي:

إيهابْ
يتبعني الماءُ..
كُنْ حَذِراً منكَ..
وليكنْ البحرُ بيتكَ.. تأتي إليه الرياحُ الرخيّةُ
من كلِّ فجٍّ عميقْ"(13).

إن القارئ يلحظ هذا التلاقح والتفاعل الرؤيوي الخلاق بلعبة أستطيقية منفتحة في حراكها ،أولاً حراك الشخصية في الرواية؛ ثم حراك الشخصية في القصيدة،وهذا الحراك مثَّله بالنصائح الأخيرة التي أوردها على لسان شخصياته،ليعيش لب استقطاب الحدث، ولب تنامي الحالة الشعورية الاغترابية الضاغطة على شخصيته الروائية، وذاته المغتربة في وجودها، ليقول كلمته الأخيرة،ويتابع شعوره الاغترابي المقترن بالحدث والشخصية والوجود؛ ويكشف من خلال هذه الشخصية عن طابع التصادم والصراع الوجودي الأزلي منذ القديم إلى الآن،وهذا له موجوديته وأثره في القصيدة بمحاورها ورؤاها كافة. بمعنى أدق: إن نقل جو التصادم والصراع من الشخصية الروائية إلى الذات الشعرية،وبالعكس ،هو لبلورة إحساسه الوجودي ليحكي على لسان شخصيته كل ما هو مسكون بالذات من معايشة ومحايثة لعوالم هذه الشخصية من الداخل،فإيهاب الصياد العجوز مازال في مخيلة الشاعر ذلك الرجل الصلد الذي تهابه البحار والحيتان،لكنه كشف عن نوازع الشخصية الوجودية الإنسانية بطابعها الحقيقي لا طابعها الأسطوري الخارق،وهذا ما قربها إلى ذاته، وبدت لسان حاله الاغترابي التصادمي؛ ليدل من خلالها على واقعه الاغترابي؛ فبدت الشخصية ممتدة أستطيقياً في رقعتها الزمنية، لتمثل عالم الشاعر وعوالم قادمة متتالية تجسد الصراع الملحمي الوجودي بين قوى الخير والشر،والخلوص بنتيجة هي الثبات وعدم الانكسار والتمسك بالموقف والحلم بالانتصار والعودة.

وصفوة القول الذي نرومه هو: أن أستطيقيا الزمن الروائي والشعري في قصيدة(تجليات الماء) جاءت للكشف عن فواعل الذات الشعرية في لعبتها الإبداعية على مسار الزمن لتجسد هذه القصائد الحركة الزمكانية المفتوحة لعوالم وفضاءات هذه القصائد،فمن خلال قصيدة (تجليات الماء)نستشف أن لعبة الأستطقيا الزمانية تنطلق من لعبة المكاشفة الحوارية:( حوار الشخصية الروائية من الداخل) وتفعيلها من الخارج بمتعلقات مضافة، وإحالات عميقة، تتجاوز نطاق الحدث الروائي، لتدخل عوالم الحدث الشعري لتتجاوزه إلى أحداث محتملة، وعوالم محايثة لفضاءات الرواية، وعالم القصيدة المفتوح زمكانياً في لعبة إبداعية خلاقة،وهذا ما شكلته هذه القصائد في محركها الإبداعي وحراكها الكثيف وتنامي أحدائها ورؤاها على مستوى الحدث، والزمن، والرؤيا، والموقف، والتشكيل، والحس الوجودي بالشخصية الروائية والتفاعل معها من الداخل لا من الخارج وهذا ما جعل شخصياته الروائية معاصرة لوجودنا وإحساسنا وعالمنا الذي نعيشه ونحس به؛وكأن هذه الشخصيات متنفسنا الوجودي لتدخل نطاق تجاربنا وعالمنا الراهن بكل إيجابياته وسلبياته وأطيافه المحتملة.

الحواشي:

روزنتال،م.ل.1983- الشعر والحياة العامة،تر: إبراهيم يحيى الشهابي،منشورات وزارة الثقافة بدمشق، ص180. نقلاً من: حسين،قصي،1998- تشظي السكون في العمل الفني، ص89.
الحسين ،قصي،1998- تشظي السكون في العمل الفني(الزمن/ الشعر/ الصورة) مجلة الفكر العربي،معهد الإنماء العربي،بيروت، ع92، ربيع،ص 198.
المرجع نفسه،ص207.
المرجع نفسه،ص208.
كوليير،غراهام،1983- الفن والشعور الإبداعي،تر: منير صلاحي الأصبحي،منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي،دمشق،ص175.
(6)
مخلف الحديثي،حمدي،2016- تكامل الرؤى،بحث موجود على الرابط الإلكترونيwww.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article...
سعيد،حميد،2015-أولئك أصحابي،ص4.
المصدر نفسه،ص4-5.
المصدر نفسه،ص5.
المصدر نفسه،ص5-6.
المصدر نفسه،ص6-7
المصدر نفسه،ص7-.8
المصدر نفسه،ص8.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى