الاثنين ٦ تموز (يوليو) ٢٠٢٠
بقلم جميلة شحادة

ابني في غرفته

السادسة مساءً وما زال خليل في مكتبه في الجريدة التي يعمل فيها محررا للصفحة الثقافية. دوامه ينتهي هذا اليوم عند الرابعة عصرا، لكنه قرّر ان لا يعود الى البيت قبل ان يُسدلَ الستار على الفصل الأخير من روايته.

حتما سأعالج الأفكار التي تحوم في ذهني وأمنعها من التشتت هنا وهناك او حتى الهروب كليا من محيط رأسي، إذا بقيتُ لعدة ساعات في المكتب بعيدا عن متطلبات البيت ومَن فيه، وعن ضوضاء الشارع الذي اضطرتني ظروفي المادية للسكن فيه. قال خليل لنفسه وأسقط جسده على المقعد امام حاسوبه. مضت ساعتان، وخليل يصارع أفكاره من جهة، ويصارع الحروف على شاشة حاسوبه من جهة أخرى، لعله صدق في تصريحه لإحدى القنوات الفضائية في احدى المقابلات معه، بأن الكتابة بالنسبة له هي مخاض عسير لولادة، فها هو بعد مرور ساعتين من الزمن لم يفلح ان يترجم الا القليل من أفكاره الى كلمات، لعل عمله منذ الصباح قد نال من طاقته الجسدية والذهنية، وربما عدم تناول وجبة الغداء ساهمت في ذلك أيضا، وربما، احتلت ظروفه المادية السيئة في الآونة الأخيرة مساحة من تفكيره، فعرقلت تسلسل أفكاره وشوّشتْ تنظيمها. ترك خليل مقعده وسار نحو النافذة، اسند ذراعيه على حافتها وأطل برأسه خارجها، أخذ قسطا من الهواء النقي بعد ان قلَّت كمية الاكسجين من هواء غرفة مكتبه بسبب حرقه للكثير من السجائر، ثم عاد ليجلس في مقعده أمام حاسوبه. وقبل أن يعود لمتابعة الكتابة، تناول هاتفه النقال وولج الى شبكة الفيس بوك يتصفحها ظانا انه بذلك سيروِّح عن نفسه قليلا عناء الكتابة الجادة. لكن سوء حظه، قاده الى صفحة ذلك الصحفي الذي لا يكلُّ ولا يملّ من الظهور ببث حي لينقل ما لديه من أخبار (معظمها سيئة) ببث مباشر. تجمد خليل امام شاشة هاتفه وهو يشاهد الصحفي يمسك بميكروفونه ويقول: شجار عنيف بين ثلاثة شبان في الثامنة عشر والتاسعة عشر من أعمارهم من حي الرمان، أسفر عن جريح بحالة خطرة، ويُخشى ان يتوسع الشجار بين سكان الحي... توقف خليل عن متابعة البث الحي لهذا الصحفي، خرج من شبكة الفيس بوك، وبيدين مرتجفتين أسرع يهاتف زوجته. شحب لون وجهه وشعر بدوار في رأسه، لقد تأخرت زوجته بالرد على هاتفه، غلى الدم في عروقه وقال غاضبا:

قد يكون صهيب أحد الشبان الثلاثة، او انه بعد قليل سيكون في ساحة المعركة في الحي.

صهيب في غرفته. قالت أم صهيب بصوتها الانثوي الهادئ مجيبة عن سؤال زوجها خليل عندما استفسر عن ابنه.

كان يكفي خليل ان يسمع هذه الجملة: صهيب في غرفته، هي زبدة المقال وأما ما قيل بعدها من جمل وعبارات فهو فقط ليخدم زبدة المقال.

أنهى خليل محادثته مع زوجته، انفرجت أسارير وجهه، أشعل سيجارة، وقبل ان يقربها من شفتيه قال: الحمد لله ابني في غرفته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى