الخميس ٢٠ آب (أغسطس) ٢٠٢٠
بناء الشخصية الانتهازية في رواية
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

«الانتهازي» لعون الله أبو صفية

صدر أخيراً عن دار الوسيم للنشر والتوزيع بغزة الطبعة الأولى لعام ٢٠٢٠م رواية (الانتهازي) للروائي د. عون الله أبو صفية التي تقع في(٢١٤) صفحة من الحجم المتوسط، وفي طبعة أنيقة مرتبة، من الورق ذي اللون الأصفر.

والكاتب الروائي أبو صفية صوتٌ روائي معروف في عالم الأدب الروائي، غزير الإنتاج، صدر له عدد غير قليل من الروايات والمجموعات القصصية التي تراوحت ما بين (24) رواية ومجموعة قصصية، كان آخرها رواية (القصاص) صدرت طبعتها الأولى سنة 2020 م، وتمتاز رواياته بمقاربتها القضايا والمشكلات الاجتماعية والإنسانية التي يعيشها الإنسان في المجتمع الفلسطيني المعيش.

ويمكن التعرف إلى المعالم الرئيسة لشخصية الانتهازي وملامحها بالقول: إنه ذلك الشخص الذي يقوم باقتناص الفرص، ويستغل أي وسيلة؛ لتحقيق المنفعة الذاتية والشخصية، ويقوم باستغلال كل ظروف ممكنة بطريقة غير أخلاقية؛ لجلب المصلحة الذاتية والخاصة.

ويبدو أن الكاتب كان يرمي إلى مقاربة المشكلات التي يتعرض لها الشباب في هجرتهم إلى بلاد الغربة، وما يتعرضون له من مغرياتٍ تصرفهم عن رسالتهم التي جاءوا من أجلها، ولعله بذلك يتبنى مذهب الواقعية التي تعنى بطرح مشكلات المجتمع، وإيجاد السبل الناجعة للتغلب عليها.

ويلتقي القارئ في الرواية شخصيتين انتهازيتين إحداهما: شخصية (فؤاد)، والأخرى شخصية (سوزان).

أولاً – شخصية فؤاد الانتهازي:

يمثل (فؤاد) في رواية الانتهازي الشخصيةَ الانتهازية السلبية المتسلقة، إذ كان همُّه الأكبر في الحياة مُنصَّباً على "المال" والمنصب، ولم يكن يؤمن بشيء اسمه الحب والكرامة وتقاليد المجتمع الريفي وعاداته، اللهم سوى (حب المال)، لم يقدم على الزواج من (سوزان (صاحبة المطبعة المرأة المطلقة، وترك خطيبته (وديعة) جارته الوديعة المحبة له، والتي ظلت تنتظر عودته إلى القرية كما وعد إلا وسيلةً للوصول إلى الهدف والغاية (المال)، فكان ذلك الزواج بمثابة "الجسر" أو "المعبر" للولوج إلى ما يتطلع إليه ويهدفه، ويفكر فيه ليل نهار: المادة والأموال والمنصب،

كان (فؤاد) يتعلل دائماً بسوء الأوضاع الاقتصادية، ويرى أنها هي التي دفعته للتفكير في الهجرة؛ ليتمكن من تلبية احتياجات أسرتهن، وكذلك ليستطيع توفير متطلبات الزواج الذي هو مقبل عليه.

وهكذا يتبين للقارئ أن شخصية (فؤاد) شخصية متفردة بالفعل، تجسّد الشخصية " الانتهازية " بأكمل صورها ومناحيها، التسلق، حب المصلحة الشخصية، وحب الذات والأنانية.

وكانت شخصية "فؤاد" تجنح للفوضوية "واللامبالاة" في كل شيء، علاوة على كونه "انتهازياً ومتسلقاً، لا يرى الأمور إلا بمنظاره السلبي من خلال المصلحة الذاتية الشخصية فحسب، بعيداً عن المبادئ والقيم والأخلاقيات والمثل العليا، أحبَّ المظهر الكاذب الخادع، ولكنه من الداخل كان "مفرغاً" يحاول أن يعوض عيوبه الجمَّة بالتظاهر بالحب والعطف. وقد وصفته زوجه (سوزان) بالانتهازي حين قالت له في مشاجرة جرت بينهما واصفة إياه بأنه:

"ناكر للجميل، ولو لم يكن انتهازياً، يتحين الفرص لما أنساق لغوايتها له، ولم يتخلَ عن خطيبته(وديعة)" (الرواية ص 207).

ثانياً – شخصية سوزان الانتهازية:

اغتنمت (سوزان) صاحبة المصبغة التي كان يعمل فيها (فؤاد) موظفاً بسيطاً في وظيفة محاسب فرصة حاجة (فؤاد) للمال، فحاولت أن تمارس الضغوط عليه، ملقية أحابيلها الشيطانية حوله، حيث جعلته يفسخ خطبته من(وديعة) ابنة الجيران في القرية؛ لكي يخلو لها الجو، وليتزوجها، وأغرقته في حياة الخمر والمخدرات والجنس، حتى أعلن استسلامه لرغباتها الشيطانية كما يسميها الكاتب، وتزوجها على الرغم من أنها مطلقة، وتكبره بعشرين سنة. يقول الكاتب:

"وأخذت تفكر في كيفية السيطرة على فؤاد، بحيث تجعله يترك خطيبته ويتزوج بها، أهداها تفكيرها الشيطاني إلى فكرة، فقررت الطلب من مدير شؤون الموظفين نقل فؤاد من القسم الذي يعمل به إلى قسم آخر...وقررت إعطاءه مبلغا من المال كي يرسله لوالدته ) "الرواية ١٤٦.

وحين أدرك فؤاد عاقبة انتهازيته، وعرف أنه وقع في مصيدة سوزان اتهمها بالانتهازية، قال في حوار دراميٍّ حرم فيه القارئ من متعة الاستمتاع بهذا الحوار الخارجي الذي ينقل التوتر، ويصعد الحدث، ويكشف عن مكنونات النفس الداخلية:

"انت لم تسرقي أموال السيد (نافع) وممتلكاته فقط، بل سرقتِ زهرة شبابي، وبهجة أحلامي، لقد أغويتني وأغريتني بمالك، وسيطرتِ عليَّ؛ لحاجتي لذلك المال، أما اليوم، فأعلن تمردي على حياة الانكسار التي عشتها معك أيتها الفاجرة" (الرواية206، 207).

هذا النموذج من الشخصية الوصولية الانتهازية الاجتماعية الطبقية المتمثلة في شخصيتي: (فؤاد) و(سوزان) نموذج نمطي يتكرر في كل المجتمعات؛ وليست معالم شخصية الانتهازي وأبعادها شخصيةً جديدة كلَّ الجدة، إذ تردد رسمها وتصويرها والكشف عن ملامحها وتكوينها في عدد غير قليل من الروايات المعروفة، لا سيما في المجتمعات التي تحكمها أنظمة اجتماعية طبقية، وتقف على رأسها نخبة فاسدة، فـ(فؤاد) في النموذج المصري يُمكن أن يحمل أي اسم آخر في مجتمع آخر، و(سوزان) يُمكن أن تكون نموذجاً في مجتمع آخر.

فالانتهازية ظاهرة خطيرة في المجتمعات، تقوض تماسك الناس، وتجعلهم يفقدون القدرة على التمييز بين الحقيقة والأصيل، بين الشرف والزيف والخداع والادعاء، وتؤدي الانتهازية إلى تمييع المعايير وتسطيحها، وتغييب الضوابط؛ الأمر الذي يجعل المجتمعات تنزلق إلى قاعٍ لا أخلاقية.

ويحاول القارئ للرواية أن يستخلص بعض الخصائص العامة المتعلقة ببناء الشخصية الانتهازية مع إبراز ألوان التقنيات التي عرض بها الروائي شخصياته الانتهازية.

ومن أهم التقنيات التي اعتمدها الكاتب في بناء روايته؛ السردُ المتتابع، ليجد القارئ نفسه متورطاً في صناعة الحدث أو الاستسلام لجريانه وتدفقه، يلهث خلفه متوقعاً منفعلاً متفاعلاً، كلُّ هذا الغنى الأدبي يضعنا أمام متعة الإبداع في نص يكشف عن أوصاف الانتهازية الوصولية ونماذجها.

ومن أمثلة السرد التتابعي الذي استعان به الكاتب في رصد أحداث روايته، وبناء شخصياته، هذه القطعة السردية، يقول السارد العليم:

"عادت والدة فؤاد من الحقل باكراً، وجلست تنتظر عودته، ولسان حالها لا يكلُّ عن الدعاء له بالنجاح، سرحتْ بعيداً بخيالها وأفكارها، فحصولُ ابنها على شهادته الجامعية يعني لها أهميةً كبيرة، فهي بذلك تكون قد حققتْ وصية زوجها بأن يتعلم أبناؤه، وينهون تعليمهم الجامعي، ارتسمتْ على شفتيها ابتسامةٌ، وسرحت بعيداً بخيالها، فالشهادة تعنى لها أيضا وظيفة حكومية محترمة لابنها، وبذلك تصبح أمَّ الأستاذ، وبذلك يرتفع شأنها بين نساء القرية اللاتي سيحسدنها، وكذلك سيسهِّل عليها اختيار عروسة له"(الرواية ص ٤ ،5 ).

فشخصيات الرواية الرئيسة منها والثانوية، رغم حيادية المؤلف تجاهها، ورغبته في تغيير وضعها الاجتماعي، وقيم المجتمع المحافظة التي عاشوا في ظلالها، فإنه ساق سرده فيما رسمه لها من ملامح ومعالم جاء بلغة سردية سلسة ومتدفقة وجميلة، وفهم إنساني شديد العمق.

ويلحظ القارئ أن الشخصية الانتهازية في الرواية كانت شخصية نامية متطورة، لم تتخذ موقفاً واحداً، بل كانت تسعى لتغيير واقعها الاجتماعي، فـ ( فؤاد) عمل محاسباً بسيطاً في مطعم في بلده؛ للحصول على المال، ولم يبق ينتظر الوظيفة الحكومية، وسعى للهجرة لأمريكا؛ للحصول على المال، وتزوج من (سوزان)؛ لأنها غنية تحقق له أمنياته في الحصول على المال، ولكنه تمرد على هيمنتها وسطوتها عليه. كلُّ هذه الأمور ساهمت في بناء شخصية نامية متطورة، وليس شخصية مسطحة، لها جانب واحد في بنائها.

تقوم الرواية في بنائها المعماري الفني على أسلوب (الراوي الكلي العلم) الذي يروي الأحداث بضمير الغائب، أي: الطريقة الملحمية التي تناسب مثل هذا اللون من الروايات، وفيها لا يترك الكاتب الفرصة للشخصيات؛ لتعبر عن أفكارها ومواقفها بدون أن يفرض عليها مواقفه ورؤيته وتوجهاته، وكان الكاتب محايداً فيما يكتب، فلم يتعصب ضد شخصية البطل الانتهازي، ولم يسخط على تصرفاته، وترك المجال والفرصة للقارئ؛ ليصدر عليه أحكامه وفقاً لقناعاته وتوجهاته.

وقد وظف الكاتب تقنية الأحلام في البنية السردية لروايته إذ يقول:

"أخذ يسرحُ بعيداً في كلام (سوزان) ووعودها له، ورسم لنفسه أحلاماً وردية منَّى نفسه بأن يصبح المدير العام للمصبغة، كما مَنَّى نفسه بالحصول على راتب مُغْر،ٍ يُمكِّنه من أن يرسل لوالدته كل المبالغ التي تحتاجها"(الرواية 146).

وعمد الكاتب – أيضا -إلى تصوير أبعاد شخصياته الانتهازية وملامحها الرئيسة لا سيما البعد النفسي لشخصية (فؤاد)، فقال:

"مرت عدة أيام لم تأت فيها (سوزان) إلى المصبغة، وهو يترقب حضورها، لاحظ (جون) مدى القلق البادي على ملامح فؤاد... وكانت الأيام تمر مسرعة، وقلق (فؤاد) يزداد لعدم حضور السيدة سوزان إلى المصبغة" (الرواية ١٥٠).

وعني الكاتب بإبراز الملامح الجسدية للشخصية الانتهازية لا سيما شخصية (سوزان)، يقول في وصف خارجي لها، وهي ملامح جسمية نمطية تقليدية للمرأة؛ لتكون مصدر إغراء لفؤاد، يقول:

"جميلة، ممتلئة الجسم، طويلة القامة، تضع نظارات شمسية تخفي كثيراً من ملامح وجهها الدائري، كأنه البدر في ليل اكتماله، شعرها الطويل كأنه سنابل القمح قبل حصادها، ابتسامتها تدل على مدى السعادة بداخلها" (الرواية ص 137).

وهذه الأوصاف الجسدية التي رسمها الكاتب لشخصية (سوزان)، ليس فيها خصوصية متفردة؛ وإنما هي ملامح نمطية تقليدية يمكن أن تنسحب على كثير من النساء.

أما الاستعانة بتقنية الحوار بنوعية الخارجي والداخلي، فجاءت ضئيلة في الرواية، ولم يعطها الكاتب اهتماماً كبيراً، ولعله وقع تحت إغراء أسلوب السرد التتابعي وأسلوب الوصف اللذين نالا حيزاً واسعاً من رقعة النص الأدبي، على الرغم من أن للحوار وظيفةً مهمة في الرواية؛ لكونه يساهم في نمو الأحداث وتطورها، ومن أمثلة الحوار الداخلي ما ورد في الرواية من قول للكاتب:

"هبَّ من مكانه، دعوتُها له لتناول الطعام معها شَلَّ تفكيره، خاطبه: ها أنت تحصل على أكثر مما تمنيت" (الرواية ص 243).

ومن أمثلة الحوار الداخلي في الرواية ما جرى من حديثٍ بين (فؤاد) ونفسه، يقول السارد:

"عندما لم تأتِ (سوزان) مالكة المصبغة إليها، انتاب فؤاد شعور بالقلق، وعاد إلى مسكنه يضرب أسداسا بأخماسه، وأخذ يجري مع نفسه حواراً داخلياً ممزوجاً بقلق وتوتر نفسي شديدين، فيقول:

"هل تتلاعب بي السيدة سوزان؟

هل تخبئ لي مفاجأة سيئة مثل طردي من العمل، والاستغناء عني؟"(الرواية بتصرف ص:149).

وفي موضع آخر من الرواية أخذ يطرح على نفسه أسئلة ليجيب عنها في حوار داخلي:

 هل سيوفر له(السيد عقيل) عملا بسرعة؟

 هل سيساعده في الحصول على عمل؟

 كيف سيحصل على الجنسية أو الإقامة الدائمة؟

 هل سيحصل على فيزا لخطيبته بسرعة؟

 هل سيستطيع الوفاء بالعهود التي قطعها على نفسه لأسرته؟

 هل سيستطيع أن يحقق أماني أخته وأخيه وتطلعاتهما؟ (الرواية بتصرف ص: ١٠٥، ١٠٦ ).

وقد جسدت الرواية ألواناً من الصراع النفسي الداخلي الذي كان يمور في عقل (فؤاد) ونفسه، والذي حاول جاهداً أن يجد طريقاً للخلاص من (سوزان)ومكرها، ولكنه لم يجد سبيلاً غير الاستسلام لها، فقرر أن يكاشفها بطلب الزواج منها، حاول أن يقنع نفسه به، فحدثته نفسه قائلة:

"بأنها امرأة جميلة وغنية، وبالرغم من أنها تكبره ببضع سنين، فلا بأس في ذلك، فالمال يغطي عيوب الإنسان، حاول أن يبتسم لنفسه، ولكنه فشل في ذلك" (الرواية ص ١٧٩).

جاء عنوان الرواية(الانتهازي)؛ بوصفه عتبة سردية أولى تساعد القارئ للولوج إلى جسد النص الروائي؛ مناسباً لمضمونها ومحتواها، إذ يجده القارئ متشظياً في ثنايا فصول الرواية، منسجماً مع ملامح الشخصيات وأبعاد تكوينها.

ولا بدَّ من الإشارة هنا أن إلى الكاتب عمد في بناء شخصيات روايته إل إيجاد شخصيات نزيه بعيدة عن الانتهازية والوصولية، كافحت بعز وكرامة من أجل الحصول على لقمة العيش الشريفة، وبحثت عن حياة كريمة مثل: والدة فؤاد وأخيه (سالم) واخته (خلود)، وخطيبته(وديعة). وهذا الرسم الفني للشخصيات وتنوع ملامحها وأبعادها يعمق من المفارقة في بناء الشخصيات، ويجعل القارئ يقارن بين صنفين من الشخصيات، فيحقق بذلك المشاركة الوجدانية والفكرية بين المتلقي والمبدع.

والقارئ الحصيف للرواية يكتشف أنها –ربما-تنفتح دلالات الشخصيات الانتهازية على مجالات أرحب وأكثر تنوعاً، فتأخذ دلالات وطنية: لتشير الى أولئك الذي أتيحت لهم فرصة الحصول على موقع من المواقع المهمة، وأخذوا يؤدون دور المتلاعب الانتهازي، في كثير من مشاهده الإنسانية؛ لتخليصهم، إلا أنهم لا يتورّعون عن سرقة أموال الناس، فأخذوا يتصرفون في أموال المجتمع كيفما يحلو لهم، وطفقوا يرفعون مصالحهم الذاتية والفردية فوق مصالح الأمة، وينهبون أموال المجتمع ويضعون ما نهبوا في حساباتهم البنكية خارج الوطن وداخله؛ بقصد الاغتناء السريع، ولكنهم في النهاية يخسرون سعادتهم، وسعادة أسرهم.

أتمنى للكاتب المزيد من الإبداع في مجال الفن الروائي، ومعالجة القضايا الإنسانية التي تواجه المجتمع الفلسطيني. وتوظيف التقنيات السردية الحديثة في بناء المعمار الفني لرواياته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى