الثلاثاء ٢٩ آب (أغسطس) ٢٠١٧
بقلم كريم مرشدي

البنيوية التكوينية كنظرية

البنيوية التكوينية كنظرية، تطمح إلى معرفة النصوص، بل إلى معرفة البنى الكامنة وراء هذه النصوص: وذلك بفهمها في ذاتها، في حركيتها الداخلية كبنى صغرى، ثم ربطها بظروفها التاريخية والتعرف عليها في زمنيتها، وبذلك يتم التعرف الكامل على النصوص ومدى تجسيدها لعصرها وبكل ظروفه. والبنيوية التكوينية نظرية سوسيولوجية ترتبط بالماركسية، وذلك من خلال تركيزها على الإرتباط الجدلي بين البنى الفوقية والتحتية، وتأثير أحدها في الأخرى... وقد اعتمدت البنيوية التكوينية على أسس أربعة، سوف نحاول النظر في كل واحد منها على حدة:

1- الرؤية للعالم: (انظر مقال "الرؤية للعالم والبنيوية التكوينية" الصادر بالمجلة الفكرية الإلكترونية "ديوان العرب" بتاريخ 22 غشت 2017).

2- الفهم والتفسير: يقول كولدمان في تقديمه لكتاب "الإله المختفي": ".. هذه البنى (البنى الآلية) لا يمكن أن تدرس بطريقة إيجابية، أي في نفس الوقت مفسرة ومفهومة، إلا في نطاق بُعْد تطبيقي مؤسس على قبول مجموعة معينة من القيم" (ل. كولدمان: الإله المختفي - مكتوب بالفرنسية – نشر كاليمار – 1959 – مقدمة الكتاب). إن عمليتي الفهم والتفسير يحددهما التعامل المحايث مع الموضوع، فَلِفَهْمِ موضوع ما، يستوجب البحث عن تلك البنية الدلالية الصغرى، أي تلك التي تتعامل مع الموضوع على أساس أنه بنية مغلقة، تماما كما تتعامل البنيوية مع موضوعاتها، إذ يصبح الموضوع متموضعا داخل دائرة سكونية، ويدرس في سكونيته، وذلك كما جاء في تحليل الأستاذ ادريس بلمليح، إذ قال: "لقد حاولت في هذه الدراسة فهم تراث الجاحظ البلاغي في ضوء فكرة البيان عنده، وقصدت إلى البحث عن نظام داخلي لهذا التراث" (ادريس بلمليح: الرؤية البيانية عند الجاحظ – دار الثقافة – ط1- ص 25)، إذن فالفهم يستهدف النظر في الموضوع المدروس، وذلك بالبحث عن نظامه الداخلي باعتباره بنية متماسكة من العناصر الداخلية لا تخرج عن إطار حركيتها الداخلية، وأما التفسير، فيستوجب إلحاق تلك البنية الساكنة ببنية أوسع منها، وربطها بها، وذلك بالخروج عن إطار البنى الصغرى إلى بنى كبرى أوسع منها. ويوضح الدكتور عمر محمد الطالب ذلك قائلا بأن التفسير: "عملية ثانية (غير الفهم) تنظر إلى العمل الأدبي في مستوى آخر خارجي، إنها بعبارة أخرى، تربطه ببنية أوسع وأشمل" (عمر محمد الطالب: مناهج الدراسات الأدبية – دار اليسر – ط1 – ص 239)، غير أن عمليتي الفهم والتفسير رغم ترابطهما، فهما مختلفان، إذ يعتبر التفسير أشمل من الفهم، بحيث يتضمنه ويتجاوزه مدمجه في بنية أوسع، بل ببنية أدق ليصبح الفهم تاما. فالإقتصار على الفهم مثلا، سوف لن يوضح المقصود من الموضوع، إذ البحث في البنية الدالة لعمل ما، هو محاولة بنيوية بحتة لا تتطلب أكثر من حصر الإهتمام داخل إطار الموضوع المدروس دون تجاوزه، في حين أن اللجوء إلى التفسير بعد الفهم، سوف يوضح المقصود من البنية الدالة أكثر. فلو اقتصر كولدمان مثلا في دراسته لأفكار باسكال ومسرح راسين على فهم بنياتها الداخلية، لما كان الفهم سيسفر عن شيء، ولكانت العملية بنيوية محضة، لكن لجوءه إلى عنصر التفسيرجعله يربط تلك البنى الداخلية الصغرى ببنى كبرى، أوصلته إلى كون الجنسينية (حركة دينية كاثوليكية متشددة في القرن 17) هي التي تشكل، بكل أوضاعها الواقعية، المرجعَ الأساسي لأعمال كل من راسين وباسكال، والترابط بين هذين العنصرين، ترابط توليدي يتجاوزان فيه نفسيهما بالتطلع إلى دائرة أوسع تضيف تحليلات جديدة نحو فهم أعمق وأدق للموضوع، يقول كولدمان: "وعلى سبيل المثال نذكر كيف أن فهم خواطر أو مآسي راسين، هو نفسه الكشف عن الرؤية المأساوية المكونة للبنية الدالة المنتظمة لكل من هذه الأعمال في جملتها، في حين أن فهم بنية الجنسينية المتطرفة هو نفسه تفسير لتكوين الأفكار والمآسي الراسينية، وعلى نفس النحو نذكر كيف أن فهم الجنسينية هو تفسير لتكوين الجنسينية المتطرفة، وأن فهم تاريخ النبالة المثقفة للقرن السابع عشر، هو ذاته تفسير لتكوين الجنسينية، كما أن العلاقات الطبقية في المجتمع الفرنسي للقرن السابع عشر، هو تفسير لتطور النبالة.. وهكذا" (أوردها عمر محمد الطالب عن كولدمان في كتابه المذكور فوق – ص 242)، من هنا يتضح أن عملية الفهم والتفسير ضرورية لمعرفة أعمق بالموضوع، وهي لا تنفصل عن باقي العناصر المكونة للنظرية التكوينية.

3- الوعي القائم والوعي الممكن: إن الوعي، يؤكد كولدمان، مصطلح غير دقيق، يستوجب حذرا كبيرا عند اللجوء إلى استعماله خصوصا من طرف علماء الإجتماع وعلماء النفس، فالوعي مصطلح صعب التحديد: "ومصدر الصعوبة في الغالب راجع إلى الطابع الإنعكاسي لكل تأكيد على الوعي، نتيجة لكوننا عندما نتحدث عنه فإنه يكون موجودا باعتباره" الذات" و "الموضوع" في الخطاب، مما يجعل مستحيلا الوصول إلى أي تأكيد يكون في آن نظريا خالصا وصحيحا من حيث الصلابة" (للمجموعة: البنيوية التكوينية والنقد الأدبي – ص33)، غير أنه يتوصل إلى تعريف مؤقت سوف يعينه على الدخول مباشرة إلى تحديد مفهومي الوعي القائم والوعي الممكن، فالوعي: "مظهر معين لكل سلوك بشري يستتبع تقسيم العمل" (نفس المرجع فوق – ص 33)، وهو تعريف سوف يربط الوعي بالطبقة وبالحياة الإجتماعية، فتعبيرا "تقسيم العمل" و "سلوك بشري" هما مرتبطان في التفكير الماركسي والإجتماعي عموما ارتباطا وثيقا، فتقسيم العمل يستتبع دائما وعيا معينا لدى الطبقات التي تنتج تبعا لذلك التقسيم، وربما كان المجتمع الطبقي أصلح لهذا التعريف، طالما أن حصول التفاوت بين المجموعات داخل المجتمع ينتج عنه وعي متفاوت تصدر عنه أيضا وحتما نزاعات بين الطبقات تسعى إلى تغيير الواقع. من هنا سوف يأتي تحديد مفهومي الوعي القائم والوعي الممكن.

فالوعي القائم هو: "حصيلة حواجز وتحريفات متعددة تتعارض بها وتحملها العوامل المختلفة للواقع الأمبريقي لهذا الوعي الممكن " وهو" يرتبط أساسا بالمشاكل التي تعاني منها الطبقة أو المجموعة الإجتماعية " (مناهج الدراسات الأدبية الحديثة – ً 241)، إنه تلك المعرفة الآنية بالواقع من طرف مجموعة معينة، أي ذلك الرد السيكولوجي الجماعي الذي يتمظهر لدى تلك المجموعة من خلال تحركات متنوعة. أما الوعي الممكن فإنه: "إذا كان الوعي الفعلي (القائم) الحقيقي لطبقة ما، هو ما تعرفه عن واقعها في فترة معينة وفي بلد معين – فإن – الوعي الممكن هو أقصى ما يمكن لطبقة أن تعرفه عن واقعها دون أن تعارض المصالح الإقتصادية والإجتماعية المرتبطة بوجودها كطبقة " (نفس المرجع أعلاه – ص 241)، ونجد أن كولدمان يركز على الوعي الممكن ويعيره اهتماما أكبر من الوعي القائم، وذلك طالما أن الوعي القائم هو وعي يسمح عند بلوغه درجة من الإكتمال، بالمرور إلى الوعي الممكن الذي قد يستحيل إلى رؤية للعالم تحمل في طياتها قوى تنشد التغيير.

4- البنية الدالة: إن هذا المفهوم يربط البنيوية التكوينية مباشرة بالنظرية البنيوية ككل، ذلك لأن كولدمان يؤكد في دراسته للأعمال الفنية، على الإهتمام بالبنيات الداخلية للنتاج، ومدى ترابطها وانسجامها. فالبنية الدالة لا تهتم إلا بالعمل، أي بالبنية الداخلية لهذا العمل، وهي قريبة في هذا المجال من عنصر الفهم الذي يحاول فهم "الأعمال الأدبية من حيث طبيعتها ثم الكشف عن دلالتها التي تتضمنها" (نفس المرجع أعلاه – ص 243) فـ: " المؤلفات والأعمال ذات القيمة تتميز بوجود تناسق داخلي بعدد من العلاقات الضرورية بين العناصر المختلفة التي تشكل هذه الأعمال، وبين المضمون والشكل، ويتعين إذن دراستها في إطار المجموع الذي تشكل جزءا منه، هذا المجموع الذي يحدد وحده طبيعتهاودلالتها الموضوعية" (البنيوية التكوينية والنقد الأدبي – ص 47)، إنه إلحاح من طرف البنيوية التكوينية على التحام بنيات العمل الفنية، هذا الإلتحام الذي يربط بنى العمل ببنى الطبقة الإجتماعية، إنه مثل ذلك التوافق الذي نجد كولدمان يؤكد عليه بين الرؤية للعالم والواقع، إذ هي عبارة عن مقولات ذهنية تجد انسجامها الكلي في تطابقها مع بنى الواقع الذي تعبر عنه، غير أن المسألة هنا تختلف، فليس الأمر يتعلق ببنى ذهنية، بل يتعلق ببنى دلالية، تشير إلى الإنسجام الحاصل بين البنى الشكلية والمضمونية داخل العمل الفني، فكولدمان يؤكد على: " تبني منظور واسع لا يغفل التحليل الداخلي للنتاج... ولا يغفل كذلك دراسة السيرة الذاتية والنفسية للفنان كأدوات مساعدة. وفي المحل الأخيريدعو إلى إدخال النتاج في علاقة مع البنيات الأساسية للواقع التاريخي والإجتماعي" (البنيوية التكوينية والنقد الأدبي – ص48)، والإنسجام بين هذه البنى يحيلنا إلى ما سبق أن قلناه من كون العمل كلما اقترب من التعبير الكامل والمتجانس عن رؤية للعالم عند طبقة اجتماعية، كلما كان أكثر تلاحما وانسجاما في صفاته الفنية.. فكلما كان العمل متلاحما في صفاته الفنية، كلما كان دالا، وكان معبرا عن رؤية منسجمة للعالم. ومن هنا يعتبر عنصر البنية الدالة عنصرا مهما يربط بين الشكل والمضمون، وذلك في علاقة جدلية بينهما من خلال انسجام أحدهما مع الآخر، فكلما كان الشكل منسجما في علاقة بنياته ببعضها كلما كان المضمون دالا، وكذلك كلما كان المضمون دالا بشكل منسجم ومتلاحم، كلما عبر عن تلاحم بنيات الشكل والمضمون. وعلى هذا، فالبنية الدالة، بنية فكرية فلسفية أو فنية تحمل رؤية للعالم تعبر عن فئة اجتماعية عاشت ظروفا موضوعية معينة، وللبحث عن هذه الرؤية وهذه الفئة يجب اللجوء إلى عمليتي الفهم والتفسير، يقول كولدمان بأن: "الوقائع الإنسانية لها طابع بنيات دالة لا تسمح بفهمها وتفسيرها إلا دراسة تكوينية: فهم وتفسير... لا يفترقان في كل دراسة إيجابية لهذه الوقائع" (كولدمان: الإله المختفي (بالفرنسية) ص 97)..

وكخلاصة: فإن المنهج – أي منهج – عند تطبيقه، يتطلب من الباحث الوفاء بكل متطلباته وتطبيق عناصره، خصوصا وأن صعوبة تطبيق المنهج واختياره صعوبة تطرح بحدة، على أن المسألة ربما وجدت بعض الحل بجعل الموضوع كفيلا بفرض منهجه: فللبحث عن المجموع الكامل لبنية فكرة ما داخل ركام من البنى التحتية والفوقية، يجب البحث ضمن منهج تفرضه نوعية البنى المشكلة للفكرة أو العمل أو النص كوحدة متماسكة، خصوصا وأن هذه البنية تعتبر فردية، لكنها لا تخرج عن كونها بنية داخل بنية أوسع منها وأشمل، بحيث يكون الفاعل فيها أولا وقبل كل شيء فاعلا جماعيا يبسط نفوذه على مجموع البنى التي تمثل البنية العامة للفكر. وفي هذه الحالة يكون أفضل أن يكون المنهج بنيويا يدرس الفكر الفردي دون الخروج عن إطاره، ويكون توليديا أو تكوينيا بحيث سيربط هذا الفكر كبنية صغرى ببنية أكبر منها وأشمل، وذلك باهتمامه بكيفية تولدها عنها كجزء من كل أعم. وربما هذا هو مضمون عنصر الفهم والتفسير كما يحدده كولدمان، وكما جاء ذلك من خلال تطبيقه من خلال مجموعة من المفكرين مثل الدكتور ادريس بلمليح والطاهر لبيب وغيرهما..

(يتبع إن شاء الله ببحث عن تطبيق الرؤية للعالم في كتاب "الرؤية البيانية عند الجاحظ" لصاحبه الدكتور ادريس بلمليح.. عبر أجزاء)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى