الخميس ١١ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم السيد نجم

التاريخ الحربي للإنسان!

تعامل الإنسان مع فكرة الصراع والحرب وصنع تاريخه, فكانت له طقوسه قبل وأثناء وبعد تلك الحروب. على مر التاريخ حاول الإنسان التعبير عن تلك الحروب والتعامل معها حتى قبل أن يعرف الكلمة المكتوبة. وهو ما تجلى في فنون الكلمة من أساطير وملاحم وفنون الحركة من رقص وإيماء وكذلك بفنون الموسيقى والإيقاع.

مازالت جدران الكهف الشهير "التاميرا" باستراليا يحفظ لنا أول ما سجله الإنسان: ذلك الثور المقوس الظهر والبطن، أقوى ثور رسمه الإنسان حتى الآن. كما كانت منحوتات الآشوريين لأسود قوية في مرحلة أكثر تقدما. وان حلت مصارعة الثيران محل مصارعة الأسود في مرحلة متقدمة والى الآن, إلا أن قبائل «ماساي» الإفريقية تجعل من قتل الأسد احتفالية لها طقوسها المتميزة, مثلما أصبح «المتادور» في أسبانيا الآن رمزا لكل البشر يذكرهم بأجدادهم أيام مصارعة الأسود وحروبه الصغيرة.

في التراث الشعبي لأمم الحضارات القديمة, تجنح المثولوجيا الهندية (البراهما) إلى مزاج حربي حاد، حيث يمجد الحرب ويزكى الصراع من أجل انتصار الإنسان والحياة في نهاية الأمر. أما الميثولوجيا الصينية فتجنح في معظمها إلى إزكاء السلم, ربما بتأثير التعاليم البوذية المضادة لمفهوم الحرب. كان "كونفوشيوس" يقول:

«الجنرال العظيم حقا هو الذي يكره الغزو وليس حقودا انفعاليا»

لقد جرت العادة في كل الحضارات المعروفة على توافر بعض الطقوس المشتركة, كأن يتم تقديم القرابين الكثيرة قبل وبعد المعارك وبعد الانتصار. المدهش أن بعض القبائل والأمم القديمة تقدم القرابين من الأسرى وجزء من الأسلاب التي يحصلون عليها، وغالبا ما يتم ذلك وسط فرحة وتهليل أفراد الشعب وتحت أغطية أبخرة البخور وشذى العطور داخل المعابد أو خارجها وفى حضور رجال الدين والقادة.

الطريف أن بعض الأمم المتقدمة مازالت تحتفظ وتمارس طقوسها القديمة وبقدر مدهش من التفاصيل. فقد عرف عن اليابان أن يطلب القادة أثناء الحرب العالمية الثانية من الطيارين الشبان الذين يتقدمون تطوعا للمشاركة في الغارات الانتحارية المعروفة باسم «غارات الكاميكازى» بالحضور عشية الرحيل في محفل جنائزي. كانوا يلبسون اللون الأبيض الذي هو لون الحداد ويتنازلون رمزيا عن كل ما يملكون على الأرض. وفى اليوم التالي وعلى أرض المطار يتسلمون صندوقا أبيض اللون يمثل المرمدة التي تعد لحفظ الرماد «رماد الموتى بعد حرقهم على حسب تقاليدهم في حرق الموتى» بعدها يصعدون الطائرة لتنفيذ تلك المهمة الانتحارية!

في دراسة انثربولوجية لقبيلة "شاكو" الهندية بقلب أمريكا الجنوبية, رصد العلماء ما يمكن أن نعتبره جملة من الطقوس التي يتبعها طرف ما قبل وأثناء وبعد المعارك في العديد من المناطق بالعالم القديم. إن قوام حياة القبيلة يعتمد على الحروب سواء بالإغارة على الجيران أو ردا على غارات القبائل المتجاورة. قبل الهجوم, ترسل القبائل بعض الشباب لجمع المعلومات ودراسة نقاط الضعف والقوة عند القبيلة الأخرى. وهو ما يمكن أن نطلق عليه الان بفنون الاستطلاع الحربي. ثم يتم اتخاذ قرار الحرب وتحدد الخطة، حيث يقسم الشباب إلى مجموعات صغيرة بقيادة أحدهم. وتبدأ عملية الإخفاء والتمويه. وفى ليلة اليوم الأول لبداية الحرب يمضونها في الرقص والغناء والموسيقى الحماسية على آلاتهم الإيقاعية. أهم ما يهتمون به هو دهان أجسادهم ووجوههم باللون الأحمر (لون الدم). وفى تلك الليلة أيضا لا تبخل السيدات بجهدهن في طهي أشهى الأطعمة, وتقديم الشراب و كأنها ليلة عرس!

أثناء المعارك يتقدم قادة المجموعات ولا تنتهي المعركة إلا بالموت أو الانتصار. كما لحظ العلماء أن الرايات تلعب دورا هاما في المعارك وأن اللون الأبيض هو لون الانتصار. الطريف أن تلك القبائل لا تعرف فكرة الاحتلال ويكتفون بالغنائم وجمع الأسرى، وهم من يكلفون بانجاز الإعمال الشاقة فيما بعد.

لعل توزيع الغنائم من أكثر الطقوس شيوعا في الحروب القديمة. بينما عرفت بعض القبائل والحضارات القديمة أن معيار تقسيم الغنائم على المحاربين هو عدد الأسرى أو عدد الأيدي المقطوعة من الأعداء! عملت بعض الأمم الأخرى أكثر رقيا على الاستفادة من من هؤلاء الأسرى كقوة اقتصادية. بمضي الوقت تعدلت فكرة توزيع الغنائم على المحاربين. ففي الحروب العربية بعد الإسلام .. أمر الخليفة عمر بن الخطاب كبح جماح الجنود لأن واجب الجهاد كان يناديهم في كل مكان. رفض تقسيم الأراضي بينهم, ومنعهم من احتراف الزراعة حتى لا يميلون إلى الرخاء و التقاعد عن الحرب. انتهت فكرة توزيع الغنائم الآن, وأصبحت الأنواط والنياشين المرشوقة على الصدور بدلا عنها!

وتسجل صفحات التاريخ كيف كانت نهاية القادة الأقوياء بعد الهزيمة. قديما كانت بعض القبائل تحفر المقابر الجماعية لدفن أنفسهم بعد الإحساس بقلة الحيلة. ويروى "هانز لينج" الذي عمل في خدمة "هتلر" عن اللحظات الأخيرة قائلا:«كان سيدي قد قتل صباح اليوم كلبه «بلوندى», قبلها استدعاني الفوهلر وقال: (لينج.. عندي أمر خاص لك. لقد قررت أنا وفراو «براون»أن نموت معا..»

وهكذا كانت البداية والنهاية والطقوس في زمن الحروب!!

إذن منذ أن عاش الإنسان في الكهوف وفوق فروع الأشجار، وحتى بعد أن عرف الاستقرار والركون إلى ضفاف الأنهار، وبعد بناء الحضارات الكبيرة والمعقدة، والتاريخ البشرى مليء بالصراع. ذاك الصراع الذي تبدى في الصراع بين الإنسان والطبيعة ثم بينه في جماعة وقبائل وعشائر ثم دول وأمم مع بعضهم البعض. هي الحرب إذن، ولا حيلة إلا بمواجهتها ومحاولة التعرف عليها.

هي ظاهرة التعبير عن الصراع، إلا أن الحرب مشحونة بعاملين يزكيان السلوك العدواني: العامل السيكولوجي أو النفسي الانفعالي والعامل الأيديولوجي الذي يعطى للعدوان مبرراته. العامل الأول يوجد في الأفراد كما في الشعوب, فقد عرف عن ميثولوجيا الصين الميل إلى «السلم» على العكس من الهند الميل إلى العنف. أما العامل الثاني «الأيديولوجي»فهو الذي يفسر مقولة في تعريف الحرب: (إن الصراع وحده لا يكفى لإشعال الحروب، لأنه –أي الصراع- تابع لإرادة وإدارة سياسية تسبقه, أي أن الحرب تلي فكرة الحرب. كما أن هذا العامل هو ما يتجلى أثناء الحروب بما يعرف ب «العقيدة القتالية» أو «الشعار».

الحرب هي قانون أثبتته الأحداث والتاريخ على أنها أزليه، يعبر عنه صراع الجماعات. لكن الصراع وحده لا يكفى، انه تابع الإرادة وإدارة سياسية تسبقه، فالحرب تلي فكرة الحرب. وقد قدم البعض وصفا وتعريفا للحرب:

الحرب، هي البديل عن عدم وجود تشريع قانوني قوى قادر على حل النزعات بين الجماعات والدول، وبالتالي فالحرب مسعى «غير واع ربما» لفرض قوانين بعض الجماعات «الدول» على أخرى أو لفرض قوانين جديدة.

الحرب، هي النزوع إلى العنف النفسي، فالعنف أو الميل إلى السلوك العنيف كما هو في الأفراد، يوجد في الجماعات والأمم.

الحرب، هي العقد العنيف لتحويل بعض الدول والأمم إلى سوق تجارية لدول أخرى، أو لجعلها مصدرا لمواردها الخام.

الحروب، هي صوت مرتفع في مقابل عجز صوت الحكمة.
وقد لقيت «فكرة الحرب» اهتمام كل الأديان السماوية. ففي «اليهودية» إقرار بشريعة الحرب والقتال في أبشع صور التدمير والتخريب والهلاك والسبي.. كما جاء في سفر التثنية، الإصحاح العشرين، عدد 10وما بعده:«حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح, فان أجابتك إلى الصلح وفتحت لك, فكل الشعب الموجود فيها يكون لك بالتسخير, ويستعبد إلى يدك, فاضرب جميع ذكورها بحد السيف, وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة , كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك, وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب الهك...»

وتوجد فكرة الحرب في «المسيحية» ففي عهودها الأولى كانت رافضة لفكرة الحرب: «..من ضرب بالسيف سيهلك أو يجن...» ثم تبنى القديس "بولس" فكرة الدعوة إلى احتمال استخدام القوة «مع زيادة عدد المسيحيين، مع اضطهاد جنود الرومان لهم» ثم كان القديس «توما الاكوينى» صاحب فكرة «الحرب العادلة» وهى تلك الحرب التي يقررها الحاكم الدنيوي، والغرض منها هو الحق، وأن يسعى الجنود في معاركهم إلى فعل الخير. الآن تعلن الكنيسة أن عدالة الحرب تحددها عقول أصحاب الرأي الراجح بالمشورة، ويقررها الحاكم.

أما «الإسلام» فكان لفظ «الجهاد» بديلا للدلالة على الحرب. وفى بداية الرسالة كان التوجيه الإلهي إلى الرسول«صلعم» في مكة هو «وأصبر لحكم ربك بأعيننا..» سورة الطور آية 48. وفى المدينة تقرر الإذن بالقتال حين يطبق الأعداء: «(ذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير..» سورة الحج,آية 39. وفى السنة الثانية من الهجرة، فرض الله القتال وهو كره للمسلمين:«كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبو شيئا وهو شر لكم، والله أعلم وأنتم لا تعلمون» سورة البقرة آية 126.

أما الإسلام فقد استخدم مصطلحا آخر هو "الجهاد" بدلا عن "الحرب", وجعله فريضة على المكلف، فرض كفاية «من يقوم بها يكفى عن الأمة كلها». «الجهاد» من الجهد والمشقة في مقاتلة الأعداء. إلا أن الإسلام وضع ضوابطه وحدوده في مجال الجهاد.. كأن جعل الجهاد في مجالين، الدفاع عن العرض والشرف والأرض.. والدعوة لدين الله. كما حدد الإسلام القواعد المنظمة للجهاد, وهى في مجملها: قتال الذين يبدؤون بالعدوان والمعتدين.. لا يجوز مقاتلة من لا يبدؤون بالعدوان, لأن الله تعالى حرم الظلم.. في الجهاد حرب مشروعة وغاية تنتهي إليها.. أثناء المقاتلة, إن جنحوا للسلم على المسلم أن يجنح لها, مع عدم قتل النساء والأطفال والشيوخ المقعدين.. الإكراه ليس وسيلة للدعوة في الدخول إلى الدين.. كما نهى الرسول «صلعم» قتل الرهبان مثلما نهى قتل النساء والأطفال. وبذلك يكون الإسلام قد سبق كل المواثيق التي عرفتها البشرية وسعت إليها المجتمعات الحديثة في مجال التشريع والقانون الدولي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى