لماذا لا يعتبر انقلابا عسكريا؟
يتردد على السنة البعض داخليا وخارجيا، أن ما تم بعد خروج جموع الشعب فى30من يونيو2013م، وتعضيد الجيش له، بما أسفر عن انزياح أول رئيس منتخب بعد الثورة، وتمكين رئيس المحكمة الدستورية من تولى مهام رئاسة الجمهورية، التي سوف تتابع الإعداد والتجهيز لدستور جديد، وتشكيل وزاري جديد، والكثير من الإجراءات الضرورية اللازمة لتسير أمور الدولة.. حيث يصفون تلك الوقفة العسكرية بصفة "الانقلاب العسكرى".
بتلك الإشارات السريعة نتوقف للإجابة على السؤال:
لماذا لا توصف الإجراءات التي نهض بها الجيش، انقلابا عسكريا؟
إن حدث ثورة 25يناير، حدث جلل.. وقد أزاحت الثورة الغمامة، وانبعث الإنسان المصري الجديد.. على مختلف أطيافه، وتوجهاته الفكرية والعقائدية، معبرا عن حضارة تقدر بأكثر من سبعة آلاف سنة.
وبدأت مرحلة جديدة، تولى فيها البلاد رئيسا يمثل الاتجاه الاسلامى، وبالتحديد جماعة الإخوان المسلمون منه. وبعد ممارسته لمهامه فى عام كامل.. بدت السلبيات جلية، وشعر رجل الشارع قبل غيرة بوطأة حكم الإخوان المسلمين، على حياته اليومية، فضلا عما يمكن رصده على مستوى متابعة سلبيات الأوضاع السياسية خارجيا، وقصور فى الرؤى الاقتصادية.
فكانت دعوة الشباب مجددا، عبرت عنها تجربة شباب "تمرد" أكثر فاعلية وتنظيما، وبدأت المرحلة الثانية لثورة 25يناير. لعل أهم ملامحها: السلمية، الانضباط، الإصرار على هدف محدد هو إسقاط رئيس الدولة.. وبالتالي إسقاط أول تجربة للإسلام السياسي. أو هكذا بدت الصورة التي حاول الاتجاه الاخوانى تصديرها، بأن هناك مواجهة بين الكفر والإسلام!
فلما كان التقدير الرسمي لجموع الشعب التي خرجت إلى الشوارع تجاوز 30مليون مصري.. ولما كان الأمن القومي داخليا وخارجيا من مهام الجيش المصري، بدأت الدعوة الشعبية لتدخل الجيش وحسم الأمر. وهو ما أسفر عن البيان الأول والثاني للجيش، بإعطاء مهلة لمدة أسبوع ثم ثمان وأربعين ساعة، كي تتوصل الأطراف المتنازعة من المعارضة ورياسة الجمهورية إلى حل يرضى كل الإطراف. وانقضت الفترات المحددة دون حل يذكر، وهو ما استتبع بعدد من القرارات التي قرأها القائد العام للقوات المسلحة بعد مشاورات ومباركة عدد من رموز القوى الشعبية (شيخ الأزهر- بابا الكنيسة الكاثوليكية- محمد البرادعى ممثلا عن بعض الأحزاب السياسية- مندوب عن حزب النور السلفي- اثنان من شباب تمرد- الكاتبة سكينة فؤاد ممثلة عن المثقفين) وفى حضور قادة أفرع القوات المسلحة.
وتم انجاز ما تمناه جموع الشعب، وهو ما وقع موقع الصدمة عند جماعة الإخوان المسلمون، وموقع الحيرة مرة والتردد مرة والتشكك مرة عند الكثير من بلدان العالم وخصوصا الغرب الامريكى والاوروبى.. بادعاء أن ما تم يعتبر انقلابا عسكريا.. والسؤال المطروح بالتالي: لماذا لا يعتبر انقلابا عسكريا؟
.. إذا كانت الثورة هي: عمل يتسم بالعنف، جماعي، موجه ضد السلطة القائمة، من أجل أهداف مشروعة.. وهى ظاهرة إنسانية، أزلية/ أبدية، رصدتها صفحات التاريخ، ولا ينتظر أن تختفي.. وهي الإفراز الطبيعي نتيجة شعور غالبية أفراد الجماعات بعدد من الظواهر السلبية، بما يتصل منها بالعيش حياة كريمة (على وجهيها المادي والمعنوي).. وهي فى النهاية (سياسيا) تغيير الوضع الراهن - سواء إلى وضع أفضل أو أسوأ - باندفاع حركة عدم الرضا، والتطلع إلى الأفضل أو حتى الغضب. وهو ما قننه "أرسطو" على شكلين من الثورات في سياقات سياسية: التغيير الكامل من دستور لآخر.. أو التعديل على دستور موجود.
.. والثورة تهدف دوما إلى إسقاط وإبعاد السلطة القائمة، ليحل محلها سلطة أخرى مرضى عليها.. وبعد نجاحها فى إسقاط السلطة، إما تحمل صفة (السلمية) أو (الدموية)، وهو ما يقدر بالنظر إلى مجموع من يقتل/ يستشهد من الأفراد، بالإضافة إلى جملة الخسائر المادية الأخرى (المتوقعة).
وهو ما أبرز التعريف التقليدي للثورة: (وضع مع مولد الثورة الفرنسية) الثورة هي قيام الشعب بقيادة نخب وطلائع من مثقفيه لتغيير نظام الحكم بالقوة. وقد حدد المفكر "ماركس" تلك النخب والطلائع من طبقة "البروليتاريا" أو الطبقة العاملة التي راجت مع الثورة الصناعية.
كما أن التعريف الحديث للثورة: الثورة هي التغيير الذي يحدثه الشعب من خلال أدواته، مثل "القوات المسلحة" أو "المنظمات والتجمعات الشعبية مثل النقابات".. وقد تندلع الثورة من خلال قادة وشخصيات، غالبا تتبنى فكرا جديدا، مثل "غاندي".
وقد تبنت العقلية الجمعية الآن، نظرا لمعطيات وسائل الإعلام والاتصال الحديثة المفهوم العام، أن الثورة هي: الخروج على الحاكم والسلطة، أو الانتفاضة ضد الحكم الظالم.. (من غير تلك الشخصية التي تمثل رأس الحكمة.. وهى من أهم ملامح ثورة 25يناير2011م، لذا تعد منجز انسانى متميز فى تاريخ الثورات)
* إذن فان التجربة الثورية المصرية المعاصرة (الأخيرة) يمكن أن تتضمن جملة تلك التعريفات، وخصوصا التعريف الحديث منها.. ومع ذلك ما زالت الإجابة على السؤال الجوهري فى حاجة إلى إضافة. فأي نوع من الثورات هي ثورة 25يناير ووجهها المتجدد فى 30يونية2013م؟
لعل جملة أنواع الثورة هي: أما ثورة شعبية وهى تلك التي يتبناها ويسعى إليها ويحققها، جموع الناس فى بلده.. ويعبر عنها الآن بثورات "الربيع العربي" فى تونس- مصر- اليمن، وجملة ما ترصده وسائل الإعلام فى عدد من البلدان العربية. ربما أشهر نماذج الثورات الشعبية فى التاريخ الحديث هي الثورة الفرنسية عام 1789م.. وفى التاريخ المعاصر، ثورات أوروبا الشرقية عام 1989م.. ثم ثورة "أوكرانيا" المعروفة بالثورة البرتقالية في نوفمبر 2004م.
أما النوع الثاني هي الثورة العسكرية: وهي التي قد تسمى انقلابا، كما ثورة 23يوليو بمصر، وتلك التي شاعت وسادت فى قارة أمريكا الجنوبية (اللاتينية)، خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. وقد تبدأ الثورة العسكرية على شكل مقاومي، حيث تنشط المقاومة المسلحة فى مواجهة محتل أو مستعمر أو نظام مستبد.. مثل الثورة الجزائرية (1954-1962م) وغيرها.
* والآن ترى أي نمط من الثورات هي ثورة 25يناير بمرحلتيها؟
لقد أفرزت التجربة الثورية المصرية المعاصرة نمطا غير مسبوق، وهو ما أوقع كل المحللين فى الغرب والشرق فى حيرة.. فهي من نوع الثورة الشعبية، لأنها هكذا عبرت عن نفسها بخروج الجموع إلى الشارع.. ثم هي ثورة عسكرية لأن القوة العنيفة بدت فاعلة فيها على شكل تحرك قادة وقوات الجيش وبدت تلك القوة فاعلة بشكل يبدو وكأنه حسم الأمر كله؟!
.
لقد تحير الجميع أمام توصيف المرحلة الأولى للثورة فى عام2011م.. حيث بدت جسدا بلا رأس، فلا يوجد القائد المفكر القدوة والزعيم الذي أدار شأنها كما هي ثور الهند مع "غاندي"، ولا توجد مؤسسات رائدة كالنقابات العمالية والمهنية، ولا توجد تلك القوة العنيفة المتمثلة بالقوات المسلحة أو الجيش.
كما تحير الجميع الآن أمام توصيف المرحلة الثانية من الثورة مع 30يونيو2013م.. حيث خرجت الجموع الشعبية، وطالبت بعزل الرئيس المنتخب منذ عام واحد، وهى تحمل الملامح والصفات نفسها، ملامح المرحلة الأولى.. ثم ظهرت على سطح الأحداث القوة العنيفة (الجيش) وبدت فاعلة، بل وبدت منحازة إلى قوى جموع الشعب؟!
إلا أنه لا يمكن تجاوز الاعتبارات التالية:
.. سعت القوة العنيفة إلى دعوة الجميع للبحث عن حل عملي يرضى جميع الأطراف. .. التدخل بدا تدريجيا متعقلا غير منحاز لفريق أو لجماعة.
.. أعلنت عن هدفها الاسمي وهو حماية الأمن القومي (الداخلي منه).
.. ثم أعلنت عدم سعيها أو رغبتها فى إدارة البلاد أو الإمساك بزمام الحكم فيها.
وبالتالي يبرز السؤال المعترض: كيف يعتبر هذا التدخل وهو يحمل صفة القوة العنيفة، تدخلا لا يوصف بالانقلاب العسكري؟!
هنا كانت الحيرة أمام المحللين على كافة مستويات التحليل السياسي والعسكري والاجتماعي، والمتخصص فى تاريخ ثورات الشعوب.
لقد أفرزت مصر نمطا جديدا للثورة،لقد أنتجت أنموذج ناصع للانتماء الوطني،لقد أعطت درسا لكل شعوب العالم..
وإذا كانت التجربة السودانية، أفرزت نموذج نادر وجديد على الساحة السياسية العربية، وذلك بتسليم الجنرال "سوار الذهب" لمهام السلطة إلى أصحابها، بعد عام واحد من الاستيلاء عليها بالقوة العسكرية. فان التجربة المصرية أهدت إلى العالم كله، مقترحا بدور جديد للقوة العنيفة فى البلدان المقهورة.. وأضافت المعنى العملي للانتماء الحقيقي للأوطان.. ولا يبقى إلا انتظار يوم ترسيخ المؤسسات (قانونية- تشريعية- تنفيذية) وعودة الجيش إلى خندقه لمتابعة دوره التقليدي كما كان.