هل الهوية المصرية فى خطر؟
منذ 25يناير2011م تعيش مصر فترة ثقيلة، ثقل المخاض..
ليس بالجديد أن نرصد ظاهرة البحث عن الذات –جوهر الذات المصرية- بينما تتصارع الأحداث وتتسارع، تلك التي تكشف عن جوهر الهوية، كما تبين الرتوش أو التعارضات السطحية والخارجية التي قد تغطى وجه تلك الهوية.
يعتبر الاقتراب من الواقع المعاش، سواء إعلاميا أو أدبيا أو حتى بالنظر إلى منجز الموظف الحكومي.. هو المعيار الحقيقي والوحيد الكاشف عن وعى (المصري أيا كان همه أو موقعه)، ذلك الوعي المعبر عن الصراع بين الواقع والمثالي أو بين العقلي والتنظير. إن هذا الوعي تشكله الهوية والانتماء لها، هذا الانتماء للهوية الذي يهدف إلى إعلاء شأن الواقع عله يقترب من المثالي، بل والرغبة فى تجاوزه.
هل لنا أن نتساءل عن ملامح الهوية، والمؤثرات المتنوعة عليها، خلال الفترة المعاصرة من تاريخ مصر حتى يناير2011م؟ ومن ثم لماذا تعتبر الثورة فى2011م بداية مرحلة جديدة، تجلت معها الهوية المصرية، حيث انسلخت عنها طبقة ثقيلة طوت داخلها الأصيل والحقيقي فى بنيان القيم الجامعية لهذا المجتمع؟ بدت بعدها "الهوية" المصرية أكثر إشراقا، أو لنقل أكثر تعبيرا عن نفسها.. وان لزم السؤال الآن: هل الهوية المصرية فى خطر؟
ما الهوية؟
يبدو السؤال عن الهوية وكأنه يعبر عن الخوف من الغياب في مواجهة "الآخر".. لكن السؤال نفسه يعبر عن قدر الطموح والرغبة في التحقق. وربما تتجلى الهوية وتعبر عن نفسها من خلال مصطلحي "الانتماء" و"الالتزام", وقد شاعا في القرن العشرين..
– «الالتزام» هو المشاركة في القضايا السياسية والاجتماعية, والملتزم هو الذي يتخذ موقفا في النزاعات المختلفة معبرا عن طبقة أو حزب أو نزعة".. تعريف معجم "لاروس".
– وفي الفكر الوجودي للانتماء والالتزام أهمية خاصة, حتى قال "جان بول سارتر":
"إن الإنسان مصدر الوجود, فهو الذي يعطى للأشياء معناها, ولا قيمة لأي شئ غير ذات الإنسان, لذلك يعد حرا.. عليه فالأديب ملتزم إذا ما اختار مهمة الكشف عن سر الإنسان والعمل على كشف ما يراه معيبا, وهو بنفس الدرجة يعد مسئولا".
البحث عن الهوية:
لقد بدأ القرن العشرين والمصري يبحث عن ذاته (هويته) في مواجهة الآخر.. بينما ينتهي القرن ومع بداية القرن الجديد.. مازالت القضية (الهوية) محل السؤال. فان كانت القضية في البداية تبحث عن كيفية الخلاص من المستعمر, أصبحت تبحث عن الخلاص الثقافي والفكري «شيوع أفكار غيبية وعقائدية تحت مظلة توجه سياسي ما، بالإضافة إلى ما وصف بالغزو الثقافي» ذلك في ظل ثورتي الاتصال والمعلومات. وهو ما آثار المخاوف على طرفي نقيض: بالانزياح نحو الثقافة السلفية أو الغربية بالمعنى العام، مما غلف وجه الهوية المصرية ببعض الغضون. لعله من المناسب ملاحقة تلك الفواعل التي تفاعلت مع الهوية المصرية، بالنظر إلى الفترة منذ عام1882م حتى 2011م.
لقد عبرت الهوية عن نفسها فى التجربة المصرية، بأحداث على مراحل ومرتكزات أساسية، ذلك من خلال تجربة الثورة العرابية 1882م، ثم ثورة 1919م، ثم ثورة 1952م، كلها ومعا طبقات لمرحلة واحدة، اتسمت بالآتي:
– مواجهة الآخر العدواني.. الحاكم المستبد، الاحتلال الظالم، الفساد الداخلي.
– عدم توافر الأمن (بالمعنى الشامل) والعدالة الاجتماعية (بالرغم من المحاولات التاريخية التي بدأتها ثورة52).
وكانت الرؤية الثاقبة للشيخ "محمد عبده" التي ترى بضرورة توافر النظر العقلي لتحصيل الأيمان, البعد عن التكفير, والاعتبار لسنن الله في الخلق، مع عدم إعطاء السلطة للشيوخ وإبقاء مدنيين عليها.
أما "فرح انطون" فقال بأن غرض الحكومة المدنية حفظ الأمن بين الناس، وحفظ الحرية ضمن دائرة الدستور, المساواة بين الناس بقطع النظر عن مذاهبهم ومعتقداتهم, وأن للسلطة الدينية اختصاصاتها المحددة.. مع النظر إلى أن العقل البشرى مطبوع على الاختلاف والكون مطبوع على التنوع.
فيما تبنت ثورة 19 شعارا مدهشا وبسيطا ولكنه دالا وفعل فعلته فى الأجيال المتتالية والى اليوم، ألا وهو "مصر للمصريين". وهو ما نقل فكرة الهوية من العمومية إلى التخصص، أو لنقل تسميت الأشياء بأسمائها. وتجلت "مصر" على الألسن بعد أن كانت فى القلوب.
ولما رسخت الطبقة البرجوازية البسيطة مع حصول بعض أفرادها على العلم والالتحاق فى دولاب العمل بدواوين الدولة، تقدمت تلك المجموعات لمواجهة العدو المباشر (الاحتلال الانجليزي) ثم إسقاط حكم غير المصريين (رموز وحكام عائلة محمد على) لمواجهة نظام فاسد.. إنها ثورة1952م.
وبذلك عبرت الهوية عن نفسها:
– إسقاط الأغلال غير المرئية المكبلة لهوية المصريين.. ومحاولات التعبير عن الذات والهوية، بالفنون ثم من خلال حالات فردية، ولم تتحقق بشكل مجتمعي.
– البحث عن الذات المصرية.
وتلك المرحلة الأخيرة استمرت حتى يناير2011م.
ملامح ومتغيرات ثقافية
لقد برزت على الساحة الثقافية وفى الأدب.. الدعوة إلى الإصلاح والنقد الذاتي, والبحث في أثر الصراع بين ذوات "الأنا الجمعي" من الطوائف والفئات والطبقات داخل المجتمع الواحد, على إبراز ملامح أو إعادة تشكيل "الهوية"..
وبرزت بالتالي بعض الفئات التي تحمست إلى الإسلام كهوية, وفئات طالبت بمصر المدنية. فلما تغلبت الثانية، حتى بدت الفئة الأولى التي تبنت ما عرف بالإسلام السياسي، تعمل داخل دائرتها الخاصة بها، وفى مرحلة طويلة عملت فى الخفاء (ولهذه الفئة جناحين بارزين هما "الإخوان المسلمون" و"السلفيون" أساسا، حيث عملت "الإخوان" فى الخفاء منذ 1954م حتى2011م، بينما أنشئت عام1928م)
كما برزت مع بدايات القرن الجديد (الحادي والعشرون), وتجددت قضية الهوية، وعبرت عن نفسها باسمها كما حدث فى بدايات القرن العشرين. ليس في الأمر ما يدهش, هكذا الأمم والشعوب, مثل الأفراد عليها أن تتوقف وتتأمل أحوالها بين الحين والحين, إذا دعت الضرورة إلى ذلك. وقد يبرر تلك الظاهرة وعلاقتها بالهوية، بعض العوامل التي منها:
– متغيرات اجتماعية واقتصادية، تتمثل فى معاناة المصريين خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وبات البحث عن الخلاص الفردي ملاذا عند البعض، تزايد حتى أصبحت ظاهرة تشوه حكمة "الانتماء" وبالتالي الهوية المرجوة.
– متغيرات ثقافية، تمثلت فى اضمحلال ثقافة الطبقة الوسطى (لاضمحلالها تقريبا) وهى الطبقة التي تحافظ على ملامح وخصائص المجتمعات. كما كان لدور الإعلام الرقمي المعاصر والمتطور أثره الفاعل، حيث رفع فى المقابل شعار "مواجهة الغزو الثقافي".
– العاملان أعلاه معا، بالإضافة إلى النمو الاخطبوطى لتيار الإسلام السياسي (وان ظل خفيا)، كان جليا لكل متابع خصوصا بعد نكسة عام1967م.
* خصوصية الثقافة:
لقد انشغل البعض بما يسمى "خصوصية ثقافة ما" وبالتالي خصوصية الثقافة العربية. وفى هذا كتب "أحمد أبو زيد" في كتابه "هوية الثقافة العربية".. وحدد الخصوصية بعدد من العناصر:
"اللغة".. حيث أن اللغة العربية لها أهمية خاصة مع العرب, وهى بالفعل عامل تماسك بين شعوبها. ولا يتنبأ الكاتب بانفصال اللهجات عن اللغة الأم كما حدث في القارة الأوروبية, فكانت الإنجليزية, والفرنسية والإيطالية وغيرها.. كلها عن اللاتينية.
"الدين".. إذا كانت العربية لغة القرآن, فان الإسلام هو الذي حمل العربية إلى مواقع فتوحاته الأولى.والدين هنا لا يلعب دور إتمام العلاقة بين الفرد وربه, أو هو أسلوب حياة فقط.. بل لعب الدين في الوطن العربي دوره في الربط بين أفراده والناطقين بالعربية. ولا إكراه في الدين, فوجود الطوائف والأديان المختلفة إلى جوار الإسلام, ليس إلا تعبيرا عن رحابة ذلك الدين وأهله, كذا تمتع سكان الوطن الكبير من غير المسلمين تعبيرا عن الحرية المتداولة فيما بين الجميع.
كما أن الدين الإسلامي يقدم نسقا ثقافيا متميزا تتحدد به: نظرة الإنسان إلى نفسه, مع ثنائية الروح والجسم, وأن الروح من أمر الله. وللجسد حرمته.. كما تتحدد نظرة الإنسان إلى الخالق وعلاقته به.. وأيضا نظرة الإنسان إلى الكون والكم المعرفي في القرآن عن الكون يستحق التأمل.. كما يحدد الإسلام النظرة إلى الآخر من مسيحيين وديانات أخرى, على أنها ديانات سماوية.
"التراث".. لقد تعاون الدين مع اللغة العربية في الحفاظ على كيان العالم العربي وهويته وثقافته خلال التاريخ العربي والإسلامي الطويل. ومازال يعيش فينا ذاك التراث القديم, ويعبر عن نفسه في الكثير من العادات والأفكار.
والبعض يتشكك في رابطة التراث تلك, فلم تتعرض اللغة أو الدين من تشكيك, قدر تعرض التراث, في كونه رابطة بين العرب. لذا يلزم الاعتراف بقدم وربما عدم جدوى بعض من ذاك التراث, إلا أن العربي أضاف إلى تجاربه الكثير بسبب التراث, ولا يمكن تجاهله.
وأصبحت القضية, بعد البحث عن الروابط الثقافية بين العرب, هي الانفتاح على ثقافة الآخر, أو العلاقة بيننا والآخر, أو ما يسمى بالغزو الثقافي. فمن الصعب عزل أية ثقافة أو أفكار خاصة بشعب أو جماعة, بمعزل عن بقية العالم, نظرا لثورة الاتصالات الهائلة الآن. وهذا الاتصال من الممكن أن يثرى الثقافات الخاصة. وربما لأن الغلبة للغرب فقد تخوف البعض واعتبرها غزوا ثقافيا. لكن الوعي بالقضية في حد ذاته يعتبر سدا آمنا للجميع.
ماذا حدث بعد ثورة 25يناير2011م؟
حدث أن نجحت فئات تيار الإسلام السياسي (يمثلهم الإخوان المسلمون) فى اعتلاء سدة الحكم.. هذا ما حدث بعد اقتراع بين مرشحين، أحدهما يمثل رمزا من رموز حكم قامت الثورة لإزاحته (ولا نزيد فى تحليل الأسباب).. وشعرت الجموع المصرية بالتهديد المباشر للهوية، حتى رجل الشارع غير المتخصص!
وهو ما تبدى فى مظاهر هددت الهوية مثل:
– التمكين لفصيل واحد من بين أفراد الشعب، ولأفكاره وتوجهاته.. وهو الممثل لتيار الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون).
– النظرة الدونية إلى المرأة، وهو ما تبدى فى بعض بنود الدستور الجديد، حيث تم إلغاء ما يتعلق ببند "الاتجار بالبشر" حتى لا يتعارض مع فكرة زواج القاصرات الذي تبنته (الإخوان). بما آثار التساؤل والدهشة.
– إقحام قانون "ازدراء الأديان" الذي سرعان ما كشف عن نية مواجهة جموع المسيحيين المصريين عن طريقه.
– العمل على ترسيخ مفاهيم تلك الجماعة للأجيال الجديدة، عن طريق التعديل والإضافة فى مناهج التعليم.
– أحادية الرؤية.. تلك التي تعتبر "مصر" جزء من كل هلامي، بمظلة نظام سياسي انتهى وتلاشى يسمى "الخلافة".
– إزاحة المكون الثاني للشعب المصري عن اهتمامات النظام الجديد، اعني إزاحة المسيحيين.
وكانت النتيجة المباشرة بعد عام واحد من الحكم لجماعة الإخوان المسلمين، شعر الرجل البسيط فى الشارع أن "هويته" مهددة، وكانت النتيجة أن جددت الثورة عزمها بوقفة الجيش والشرطة وشباب "تمرد"، وخرج فى 30يونيو 2013م لإسقاط الحاكم.
ربما تبرز من بعد ما يمكن إن يوصف بصحوة الوعي المصري بالهوية، وذلك بعد تضافر العديد من العوامل:
– شعور الفرد (العادي) بقدرته على التغيير، بعد أن بدت الأحزاب والجماعات السياسية (المنظمة) أنها اقل فاعلية على أرض الواقع.
– لعل جموع المسيحيين المصريين لم تحقق ذاتها وتحتفي بخصوصيتها، كما بدت بعد 25يناير2011م.
– تجربة الحكم الاخوانى لمدة عام كامل كشف أن المصريين لهم هويتهم التي تتسم بالتسامح والتراحم والتفاهم والتشارك معا بين جميع أفراد المجتمع، بل وتلفظ التعصب والواحدة.
– أن الفهم الخاص والعام للإسلام كدين سماوي، هو مجموعة القيم الفطرية الإنسانية التي هي جذر ثوابت هذا الدين، وهى المتجذرة فى عقل ووجدان المصري (فهو الذي قال بالتوحيد.. والذي استقبل الدين الاسلامى بلا معارك.. وتعايش مع كل المذاهب واحتفى بآل البيت.. وتعلم من تاريخه الزراعي أن الإنسان يضع البذرة فى الأرض، ثم يتوكل باليقين الثابت أن الله هو المعطى والرزاق).. حتى عرفت القاهرة يوما بأنها مدينة الألف مأذنة، والآن تجاوزتها!
هل بعد ذلك نتساءل: هل الهوية المصرية فى خطر؟