الثورة الرقمية والثورات العربية
منذ اللحظة الأولى لثورتي تونس ومصر، وقد نجحتا فى 19يناير/كانون و11فبراير/شباط عام2011م من إسقاط النظام، وحتى الآن وربما لفترات طويلة قادمة، يثار السؤال: ما دور المثقف فى كلتا الثورتين؟ مرة يردده البعض تعضيدا للثقافة والمثقف وثقة بهما.. ويردده البعض الآخر استنكارا وإنكارا لدورهما؟!
* لعل أهم محاور ومعطيات أدب المقاومة هو: "الحفاظ على الهوية، والدعوة إلى الحرية، والانتماء لأرض الوطن والقيم العليا فيه"
كما أن الشبكة العنكبوتية أو الانترنت من خلال أشكال التعامل معها: مواقع، منتديات، صحف الكترونية، مدونات، مواقع اجتماعية، بريد الكتروني.. باتت من الأهمية التي راجت أكثر كثيرا عما قبل، وشعر بذلك رجل الشارع قبل المثقف.
أما "المثقف" العربي.. لن يخدعنا المصطلح ويعيق فهم الواقع الآن، فقد أضافت التقنية الرقمية شريحة جديدة إلي المثقفين، وأعنى إلى مفهوم مصطلح المثقف، الذي لم يعد هو الكاتب أو الأديب أو المفكر أو الأكاديمي أو الفنان فحسب.. بل باتت هناك شريحة عريضة وهامة جديدة، هي تلك التي تضم التقني لفنون الكمبيوتر ومعطيات الثورة الرقمية، وكذلك المستخدم المتفاعل بوعي للشبكة (أيا كان عمره أو تخصصه).
* إن أعمال أدب المقاومة (شعرا ونثرا والفنون) قادرة على التسجيل والتأريخ لتجارب أقل ما يعبر عنها أنها تجربة مصير (أفراد/شعوب)، مثل الحروب والثورات وحتى الانتفاضات المحدودة (سواء لجموع الشعب أو لمجموعة ضيقة أو حتى لفرد أعزل.. من أجل تحقيق قيمة عليا ما) بحيث ترصد تلك الأعمال القدرة على الوفاء بالقيم والحفاظ على الأرض والشرف.
أما عن علاقة الانترنت وأدب المقاومة والمثقف معا، فيبدو معقدا بحيث يدخلنا سريعا إلى حلقة "العولمة" غير المحددة. فقد كثرت الآراء حول "العولمة"، ما بين القبول المفرط على أنها "دين الحداثة", والرفض المطلق على أنها "نذير الخطر الداهم".
لا تخلو النظرة الموضوعية إلى الثورتين من أهمية فحص خصائص وملامح تلك التكنولوجية الرقمية الجديدة "المعلوماتية"، التي أضافت ميزة فاعلية الفرد المتعامل مع الآلة (الكمبيوتر)، أي ميزة القدرة الإبداعية عند المستخدم (على العكس من التكنولوجيات الصناعية السابقة عليها خلال القرنين الماضيين)..
وجاء دور (المثقف) المسلح بمفاهيم المقاومة والواعي بالتقنية المتاحة أمامه.. حتى يمكن القول الآن، أن ثورتي مصر وتونس، أثبتا افتراضية نظرية تناولتها الأقلام حول مفهوم الثقافة مع التقنية الجديدة: أن أصبحت الثقافة مرادفة لمفهوم التنمية فى القرن الجديد، كما أصبحت تكنولوجيا المعلومات رافدا للثقافة، فلا حيلة إلا اقتحام عالم تلك التكنولوجيا الجديدة، خصوصا أنها عصية على الهيمنة من أية جهة أو دولة.. (وهو ما تحقق مع الثورتين).
إلا أن الأمر ليس يسيرا إلى هذا الحد، هناك الكثير من الجهد الواعي من أجل التعامل العميق مع تلك المعطيات والمزايا، ومنها:
.. (ضرورة استيعاب المعطيات التكنولوجية تقنيا، واستخلاص معطياتها المعرفية منها.. فالمعلومات الكثيرة لا تعنى المعرفة.. توظيف تلك المعرفة واستخلاص جوهرها من أجل حل المشاكل الحقيقية واليومية للإنسان.. تلك المعرفة تتوالد وتتجدد بفضل التقنية نفسها، والعقل العامل عليها.. أي أنها بلا سقف تتوقف عنده)
* بتلك المقاربات لمفاهيم أدب المقاومة والانترنت والمثقف، وضح أن شباب مصر وتونس، استوعبا الدرس، وفهما التقنية الجديدة ومفاهيم المقاومة من ذاته وبذاته، من خلال الآلة التي هيمن على مقدراتها وأخرج منها ما يريده، وهو ما جعلهم يتوقعون معرفة بلا سقف، تلك التي يتبادلها الجميع، مع تحفيز القدرة على فهم جديد ومتجدد للعالم، حتى وان بدت ذات طابع ايديولوجى، وأصبحت التقنية الجديدة سلاحا أيديولوجيا!
* أسباب نضج شباب الثورة (وأعنى بهم هؤلاء الأوائل الذين قادوا التحركات منذ أن كانت فكرة، وقد وضح أنهم على درجة عالية من فهم المعطيات العلمية والكامنة للتقنية الرقمية) تلك المعطيات التي تشرح بعضها ما يعرف ب "الفيزياء الرقمية".. التي هي فيزياء لا هي تراكمية ولا جدلية ولا تحصيل حاصل لفعل غيبي وفقا لأطروحات المثالية. أعنى أن قوانين الفيزياء الرقمية هنا تشبه قوانين الهندسة ألا اقليدية في غرابتها وحداثتها ودهشتها ثم واقعيتها العلمية (التجريبية) في الوقت نفسه.
ففي الفيزياء الرقمية، عند احتساب السرعة, تلغى المسافة, وهو صعب الفهم رياضيا, وفيزيائيا, وبالتالي فكريا وفلسفيا, أننا هنا أمام قوانين أخرى ستحكم المجتمع.. ستبدل أوساطها وقوانينها وفق منطوق دلالاتي أو تشفيري, يعيد صياغة القواعد كلها والعلاقات الاجتماعية بشكل عام, والاقتصادية وربما السياسية بالتالي.
فالطبقية (الافتراضية) الجديدة في المجتمع الرقمي, تعتمد على أفراد من ذوى الكفاءة الخاصة والذكاء الباهر.. وهما ملكتان لا تورثان مستقبلا، كما تورث أي طبقية فى المجتمع الراسمالى أو الشبه رأسمالى.. لأنهما ملكتان مكتسبتان من الفرد أو الذات المبدعة.. وهما الملكتان معا تمنح لأصحابها وللطبقة آفاق التطور غير المحدود.. وأخيرا هذه الطبقة الوليدة التي ستمتلك المعرفة والثروة (بدرجات متفاوتها) اللا متناهية، مقبولة اجتماعيا، وقوانين صراعها مرحب بها (على العكس من المفهوم الطبقي الرأسمالي والشيوعي).
وعلى هذه الخلفية, يمكن التنبؤ بثورات تجاه مجمل الأعراف والقوانين السائدة اجتماعيا. فإزالة المجتمع الذكوري (مثلا), سوف ينجزها المجتمع الرقمي.. عندما تجد المرأة نفسها في ساحة تنافس عادل مع الرجل، معتمدة على الكفاءة والذكاء وحدهما، وبالتالي سوف يتاح للمرأة انجاز ما لم تنجزه منذ قرون. وبالقياس يمكن مناقشة كثير من القضايا الاجتماعية فى عالمنا العربي.
فالحضارة بكل معطياتها ليست ظاهرة "غربية", وهو ما ردده "أوجسنت كونت" الألماني من قبل, مؤكدا أنها ظاهرة كونية (عاش الإنسان من الفوضى إلى الانعزال إلى الانتظام إلى الاتصال، وهى المرحلة التي تعيشها البشرية الآن, وزادت بعد كونت).
* لعل أكثر ما يثير التساؤل والحيرة، مع ضرورة البحث عن إجابة عليه، هو ما قال به الكندى "هنري منلر" الأستاذ الاكاديمى، فى كتابه "جيل الانترنت".. حيث قال: "إن التربية عموما والتربية المدنية" خاصة هي "المفتاح" من أجل دفع الشباب إلى الاهتمام بالقضايا العامة".. ويرى أن هناك سبلا عديدة لعرض المواقف والمسائل السياسية على الطلبة في قاعات الدرس ليبرز السؤال: إذا كان هذا هو الحال فى كندا وربما العالم الغربي (الخوف من عزلة جيل الانترنت) لماذا وكيف.. أنجز الجيل الانترتى العربي ما أنجزه؟ ليبقى البحث عن إجابة هدفا!! *بمكن تحديد صورة نجاح الشباب (مصر) على المواقع الاجتماعية فى الآتي:
1- نجحت تلك المواقع فى نقل واقع ما يحدث على العالم الواقعى (باستخدام المحمول فى التصوير والتسجيل) ونقله على شكل مقطوعات فيديو، وتبادله قبل 25 يناير.
2- ايصال صور ومشاعر التعبير عن الغضب والرفض عما يحدث، وتأهيل قبول الدعوة بالخروج إلى الشارع.
3- دعوات الخروج إلى الشارع، وتحقق ذلك فى وقفات احتجاجية (يلغت حوالي 5000وقفة فى عام2010م).. وهو ما أكسب البعض خبرة مواجهة الشرطة.
4- نجح الفيس بوك في تحويل الغضب الافتراضي إلى غضب واقعي من خلال الدعوات التي تبادلها الشباب لتلبية نداء التظاهر والتجمع للغضب ضد الفقر والبطالة والفساد، كما نجح في تجميع آلاف الشباب من خلال مئات الصفحات والجروبات تحت مظلة واحدة ومطالب عادلة.
5- تعطل موقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) الأربعاء (26-1-2011) بعد ساعات من إعلان شركة تويتر حجب موقعها في مصر مما أثار علامة استفهام لدى المستخدمين، الذين ربطوا بين تعطل الموقع ومظاهرات الغضب التي اجتاحت الثلاثاء البلاد.. مما حفز الشباب غير المشارك إلى الخروج للمشاركة فى ميدان التحرير بالقاهرة.
6- استثمر النشطاء التجمع الكبير للشباب في تعريفهم بحقوقهم القانونية وتدريبهم على مواجهة الشرطة في حالات الصدام وكيفية الاستفادة من الدعم القانوني من منظمات المجتمع المدني.. (مثل علاج تأثير الغازات المثيرة للدموع غسل العين بمشروب الكوكاكولا!)
7- تخصصت صفحات على الفيس بوك في نقل أحداث يوم الغضب لحظة بلحظة بمقاطع الفيديو والصور والتفاصيل الدقيقة وهو ما أحرج وسائل الإعلام الرسمية.
.. لعل سر نجاح المواقع الاجتماعية يرجع إلى: ربط الحدث بالصوت والصورة معا، كما اتخذ الشباب لغة خاصة به في نقل الإخبار وتطورات الحدث بعيدة عن القوالب الصحفية والإعلامية، وهو ما جذب الجميع. وهو ما عبر عنه بعض الناشطين فى اليوم الثاني لاندلاع الثورة.. إذن نحن أمام عدد من الحقائق:
أولا: إن الإعداد والتجهيز لخروج الشباب في هذا اليوم، يثير قضية فكرية، وهى خطورة وأثر ثورة التكنولوجية المعاصرة، سواء فى الاتصال أو الإعلام..
ثانيا: لم تكن مطالب الشباب فئوية أو محددة بمحاور لشريحة ما من المجتمع.. بل كانت دعوات إصلاحية عامة للوطن.. وهو ما يثير قضية "دور التكنولوجيا المعاصرة والمواقع الاجتماعية الأيديولوجي في الواقع المعاش للمجتمع".
ثالثا: والآن أصبح السؤال عن الدور الثقافي المتوقع مستقبلا؟.. لقد نجحت الثورة فى أن اكتسب الجميع الشفاء من كبوة (الخوف الغامض أو الرقيب الداخلي) والذي من شأنه أن يدفع الجميع للإبداع الحقيقي فى حل مشاكلهم اليومية، حيث صفة أو خاصية الإبداع ملكا للكبير والصغير، والمرأة والرجل على السواء.. فلم يعد من المستغرب الآن، أن ترى مجموعة من الشباب، ينظفون الشارع الذي يسكنون فيه.. وهى حالة ثقافية جديدة.
وربما سيبرز فى المستقل القريب دور المثقف الجديد ودور الثقافة.. من خلال الإبداع الفني والإبداع فى حياته اليومية.. سوف يتوجه المثقف إلى ترسيخ مفاهيم أدب المقاومة، ومناقشة القضايا العربية المصيرية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، مع المزيد من الاهتمام بالثقافة الرقمية.. حيث بان للجميع أهمية وخطورة الانتقال بسرعة إلى القرن الواحد والعشرين، وإعطاء قضايا الرقمنة والتعامل مع الواقع الافتراضي الاهتمام الواجب. كل هذا مع زيادة التلاقح الثقافي بين كل أقطار الوطن العربي.