هل أصبح الأدب المقارن قضية؟
قد يستقبل البعض هذا التساؤل حول "الأدب المقارن" بكونه للإستفسار.. وقد يراه البعض الآخر للبحث عن جوانب خفية فى هذا العلم الحديث.. وربما البعض الثالث يظنه من باب الإثارة ولفت الانتباه والفضول.
والحقيقة أن موضوع هذا التساؤل، ما تلاحظ مؤخراً فى محفل علمى، من المفترض أنه واحد من أقسام اللغة العربية فى الجامعات المصرية، تلك التى تتبنى كل ما من شأنه رفعة اللغة العربية وفنونها.
فقد دهشت كما دهش غيرى من قرار مجلس قسم اللغة العربية وآدابها، بكلية الآداب، جامعة بني سويف، في إجتماعه المنعقد يوم الأحد الموافق 14 أبريل 2013م، بخصوص وضع لائحة القسم الخاصة.. (حيث تقرر إستبعاد مادة "الأدب المقارن" من المواد الأساسية بالقسم). وهو ما يعنى أنه القسم الوحيد للغة العربية فى كافة الجامعات المصرية، الذى لا يرى أهمية "الأدب المقارن"!
كما يعنى تهميش حقل علمى لا غنى عنه لكل مثقف يتعاطى الفنون الأدبية، ومن باب أولى طالب الآدب، الذى يتم تأهيله للمشاركة فى الحياة الأدبية والثقافية، وربما منهم من يعمل معلما لأجيال جديدة.
إذن لماذا الأدب المقارن وما أهميته؟
إنه النافذة المطلة على الآداب العالمية، والقنطرة التى تنقل الجميع من دائرة فنون بلد ما، إلى كل فنون الآداب العالمية.. وهو ما يتيج التلقيح والتجاوز والتجريب والمقارنة الإيجابية، وفى النهاية التعرف على الآخر ثقافيا وفكريا.
وهو ما يجعل مثل تلك المادة الدراسية، التي يتعرف من خلالها الطالب على فنون اللغة العربية وآدابها مقارنة بآداب العالم وثقافاته.. تجعله ذو حس نقدى وذواقه قادر على استيعاب جوهر الاداب والفنون فى العالم كله.
وعلى الجانب الآخر، عدم دراسة تلك المادة، تحرم الطالب بجامعة "بنى سويف"، تحرمه من المنافسة مع مناظريه في أقسام اللغة العربية بالجامعات المصرية الأخرى، ويعوق تسجيله فيها فى الدراسات العليا، فى جامعته وفى الجامعات الأخرى.. وبمضى الوقت يتشكل جيل بعد جيل جاهل لفنون الآخر، ويبدو منعزلا عن كل جديد فى الآداب العالمية.
بينما فى كل المحافل، تعلو صرخة تعضيد الترجمة لآداب العالم كله، وأن الترجمة هى طريق التقدم والرؤية المتجددة.. ماذا لو تمت الترجمات ولا يستوعبها دارس اللغة العربية؟!.. سؤال لا يمكن تخيل الاجابة عليه.
والآن هل من الواجب الإشارة الى تعريف "الأدب المقارن"؟ لعله يتيح الفرصة لمن لا يدرك أهميته.
يكفى فى البداية أنه تم تدريس الأدب المقارن فى الجامعات الفرنسية إعتباراً من عام 1878م، بعد المؤتمر العلمى الشهير الذى حضره الكاتب الشهير الفرنسى"فيكتور هوجو"، والكاتب الروسى "تورجينييف"، وقد أيدا مقترح تدريس هذا العلم الجديد، ثم تابعت الكثير من الجامعات فى العالم تدريس المادة.. كما يعنى أننا بمصر وبعد حوالى قرن ونصف، تقرر إحدى الكليات عدم تدريس "الأدب المقارن"؟!
وقد قدم العلماء العديد من التعريفات لهذا العلم الجديد، من أجل المزيد من ترسيخ أدواته ومعطياته. وقد لخص الفرنسى "موريس فرانسوا جويار" مفهوم الأدب المقارن بتسجيل "تاريخ العلاقات الأدبية العالمية، تبين لنا أجمل النجاحات المحلية تعتمد دائماً علي الأساسيات الأجنبية"، وكأنه يشير الى أن الذات تعرف نفسها بغيرها، وإن كان ذلك الفهم فهما نفسيا، إلا أنه يمكن تطبيقه فى الفنون الآداب.
عرف الناقد الأمريكي "هنري رماك" الأدب المقارن: "الأدب المقارن هو دراسة الأدب خلف حدود بلد معين، ودراسة العلاقات بين الأدب من جهة ومناطق أخرى من المعرفة والاعتقاد من جهة أخرى، وذلك من مثل الفنون (كالرسم والنحت والعمارة والموسيقى) والفلسفة، والتاريخ، والعلوم الإجتماعية (كالسياسة والإقتصاد والإجتماع)، والعلوم والديانة، وغير ذلك. وبإختصار هو مقارنة أدب معين مع أدب آخر أو آداب أخرى، ومقارنة الأدب بمناطق أخرى من التعبير الإنساني".
فالأدب المُقارن هو علم الإنتقال من بلد إلي أخرى، من لغة إلي أخري، ومن شكل تعبيري إلي آخر. وهو فن منهجي يبحث عن علاقات التشابه والقرابه والتأثير، كما يسعي للتقريب بين الأدب وبين مجالات التعبير والمعرفة الأخري، وكذلك إلي التقريب بين الظواهر والنصوص الأدبية بعضها وبعض، سواء المُتباعدين منهم وغير المُتباعدين لهذه النصوص في الزمان والمكان. ولكن شريطة الإنتماء إلي لغات وثقافات مُتعددة من أجل الوصول إلي وصف أكثر دقة، ومن أجل فهم وتذوق أفضل لها.
ولا تفوتنا مقولة الكاتب الالمانى الشهير "جوتة" صاحب "فاوست" وغيرها، حيث قال:
"إني أحب تعلم الأداب الأجنبية وانصح كل شخص بأن يسعي إلي تعلُمها من جانبه"
أما وقد رسخ العلم فى المحافل العلمية، لم يستقبله البعض دون رؤية خاصة، وهو ما تجلى فى إنتاج وظهور منهجين لتداول هذا العلم، منهج المدرسة الفرنسية القائم على التناول التاريخى فى دراسة أدب دولة ما أو أدب لغة ما.. ومنهج المدرسة الأمريكية الذى يقوم على الدراسة بعيداً عن حدود اللغة أو الرؤية السياسية، والنظر إلى الآداب بمنظور عالمى، القائم على الوعى بفكرة وحدة التجارب الأدبية والعمليات الخلاقة.
أكثر من هذا فإن جوهر هذا التناول العلمى للأدب إنتقل إلى العلوم الطبيعة، كما فى العلوم الطبية ودراسة "علم التشريح" مقارنة بين الانسان والحيوان، بل وبين الحيوانات بعضها ببعض.. وهكذا شاع جوهر منهج "الأدب المقارن" فى التناول العلمى العام، نظرا للآفاق المتسعة التى يتيحها المنهج المقارن.
أليس بعد هذا كله نشعر بالكثير من الحزن على إجراء قامت به كلية علمية، بينما العالم يسعى لتقديم الجديد وتطوير مناهجه؟!