السبت ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم إبراهيم ياسين

التـوحـيدي أو أزمة الـمثـقـف

أبو حـيان التوحـيدي شخـصية فـذة قـلما نجـد لها مثيلا في تاريخ الحـضارة الإسلامية، شخـصية يمكن بسهوله وصفها بأنها شخـصية عظيمة بكـل معاني الكـلمة، ولعـل عمق شخـصية هذا الأديب هي السبب الذي حـذا بكـثـير من المؤرخـين والباحـثـين قـديما وحـديثا إلى مقارنته بأدباء ومفكـري عصره بل وبسابقـيه، ولعـل هذه المقارنات إن دلت على شئ فإنما تدل على صعـوبة تصنيفه ضمن نطاق ضيـق، وكـلـنا نعـلم صعـوبة تصنـيف أمثال هؤلاء العـباقرة ضمن التصنيفات الضيقة، فكـل من يتعامل مع التوحـيدي ولو من خلال مؤلف واحد يدرك بعمق صعوبة تنميطه وتصنيفه إذ إن ما يثير الاهتمام كثيرا في هذا المفكر هو ذلك الإشعاع النادر الذي ينبع منه، وما يستفزنا هو ذلك الجانب المشع في شخـصيته وفكـره، والمقـصود بالإشعاع ليس فـقـط ذلك الجانب الموسوعي في ثـقافـته وفكـره، إذ الأمر أكـبر من ذلك بكـثير، إضافة إلى أن صفة الموسوعية صفة يشترك فيها كـثير من مؤلـفي التراث،

إن المقـصود بالإشعاع هو ذلك الجانب الذي يجعل من التوحيدي صورة وافـية دقـيقة الملامح لعـصر كـامل بكـل ما يحـمله من تناقـضات وما يحـبل به من غنى، إنه، إن صح التعـبير، صورة صادقة عن الحضارة الإسلامية في القـرن الرابع الهجري.

إن حادثة إحـراق التوحـيدي لمؤلفاته على سبيل المثال تمثل حدثا تاريخـيا أثار انـتباه الكـثير من المؤرخين؛ القـدماء منهم والمحـدثين على حـد سواء، بحـيث إن التوحيدي استطاع من خلال هذا الحـدث أن يعبر عن أعمق درجات الوعي بحـقـيقة الوجود الإنساني، تعبيرا عن رفض عميق وجدري لأن تتحـول حياة الإنسان بكل ما تحمله من معـنى إلى مجرد جسد يحـمل حـلية زائفة، جسد لا روح فيه،

إن التوحيدي يعـلن صراحة وبشكـل لا هوادة فيه عن رفضه لطغيان القـيم المادية على حـياة الإنسان، إنه إعلان لرفضه أن تـنقـلب القـيم والموازين، فحينما تـنقـلـب هذه الموازين ويصير توزيع الخيرات أمرا موكـولا إلى مقاييس الشطارة والظرف والخـفة بل والمكر والخداع، يصرخ أبو حـيان بكـل قـوة ليعـلن انسحابه من اللعـبة، لأنه في مثل هذه الظروف يعجز الكرام من الناس عن نيل المكانة اللائقة بقـيمتهم وقـدرهم، وتـتاح الفـرص للأنذال والساقـطين ممن يملكـون الاستعـداد للتضحـية بكـرامتهم وكـبريائهم ـ هذا إذا كانوا أصلا يملكون منها شيئا ـ من أجل لقمة عيش أو حظوة عند أمير أو وزير، التوحيدي يرفض وبكل إصرار أن تصير المقاييس البهلوانية" الظرف والخفة والشطارة…" مقاييس للتفاضل بين الناس، ويعلن أن ما ينبغي أن يتخذ حكما بين البشر يجب أن يكون شيئا آخر غير ذلك: الخلق والعلم والدين والعقل …

سمّها ما شئت لكنها قيم الإنسان الحقيقية التي جاءت الأديان السماوية والأرضية لترسيخها وجعلها قاعدة في حياة البشر، لهذا فلا غرابة أن يعلن التوحيدي وهو المثقف الحر، عن رفضه بكل قـوة متخذا كـتبه ـ وهي أغلى ما يملك ـ ليعبر عن رفضه، كتبه التي تمثل آخر ما فضل من معاناة عمر طويل بعد أن فقد الصاحب والولد، لقد قرر أن يضحي بهذا الولد البار معلنا بشكل مؤلم عن تفاهة الحياة من غير قيم نبيلة يرجع إليها ويحتكم إليها. ولعل طريقة التوحيدي في تصفية هذا الابن البار تدل على إحساس عميق بالجرح والألم، إنها تعبير عن مبلغ الشرخ الذي تعرض له عقل أبي حيان وفكره،

إن الهزة كانت عنيفة لدرجة أنه لم يجد سوى أن يقتل نفسه رمزيا ليعبر عن عدم رضاه عما يحدث، إن أكثر ما آلم أبا حيان حسبما صرح به هو أنه استصغر أهل زمانه واستخسر فيهم أن يترك لهم عصارة فكره، وهم الذين أساءوا إليه بكل ما استطاعوا دون شفقة أو رحمة، فهل من المعقول بعد هذا أن يجود عليهم بهذه الكنوز التي استقطرها من عرقه بل ومن دمه؟

إن موقفه موقف وجودي بكل ما تحمله كلمة وجودي من معنى، لا يهم بعد هذا أن نتساءل هل كان التوحيدي يعلم بأن كتبه قد خرجت من تحت يده وأنه يضمن أنها لن تنقرض من الوجود، هذا السؤال غير ذي جدوى ما دام فعل الإحراق بحد ذاته ليس سوى تعبير عن الرفض، الرفض الشديد والقاطع لتفاهة المجتمع وهو يخطو في طريق الماديات.

إن ما أحاط بحادثة إحراق التوحيدي لكتبه آلم كثيرا من النفوس، فـماذا نـقـول نحن في عصر العـولمة؟ وماذا سيقـول أبو حيان بل ماذا سيكـون موقـفه لو شاهد عصرنا؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى