الثمن
ألسنة نار تنبعث من كل مكان في الدار، صراخ متواصل حريق .. حريق!
وأخرى تستنجد.. تكاد النار تقضي على كل شيء.
وقع أقدام سريعة.. وأيدي تحاول إخمادها تارة بالماء وأخر بالرمل!
وعلى الجانب الآخر جلس رجل مسن تحت شجرة الصنوبر مطأطأ الرأس، ممسكاً بيده حجراً يهوي به على الأرض مراراً الألم يبدو جلياً في ملامحه.
وسط معمعة الأصوات وقع أقدام خيل .. الصوت يقترب شيئا فشيئا .. في لحظة توقف كل شيء.
فتى يافع يرتدي بدلة عسكرية سوداء اللون تقدم نحو الرجل المسن.
ـ سيد صالح حضرة المحقق يريدك على الفور، تفضل معي.
حاول الشيخ أن يقوم من مكانه إلا أن حركته كانت ثقيلة، فتوكأ على أحد جذوع الشجرة المتدلي إلى الأمام فاستند عليها، واستطاع ببطء شديد أن يحرك جسده المثقل حجرة صغيرة .. جدرانها تترسم عليها الشقوق، وتلتقي في نقطة البداية مكتب متواضع عليه قبعة يبدو على مقدمتها مجسم نسر.. هاتف يدوي يربض جانب المقعد.
وقرب النافذة ذات الزجاج المشروخ ، وقف رجل طويل القامة مشرئب الوجه، يضع يديه خلف ظهره..
فُتح الباب ودخل أحدهم وألقى تحية عسكرية.
تقدم ــ سيدي المحقق: هناك من بالباب ينتظر الأذن بالدخول؟
ــ وبلا تردد استدار المحقق: ادخله على الفور..!
وبخطى ثقيلة وجسد منهك، وقد غطى السواد أماكن واضحة في وجهه ويديه.
تفضل اجلس يا عم صالح: قائلها المحقق بحنان.
جلس الرجل مطأطأ الرأس، فاقترب منه المحقق، وبصوت دافئ سأله:
أخبرني: ـ من المتسبب في الحريق الذي كاد يودي بحياتك؟
أجاب الرجل بألم: ـ لا أعلم سيدي المحقق.! أنت تعلم جيدا منذ سكنت هذه القرية لا يوجد لي أعداء.
تنهد المحقق وربت على كتفه، قائلا: اعلم هذا لذا أحضرتك إلى هنا حتى أتحقق من الأمر..
هل تشتبه في أحد ما أصدقني القول؟
أنا اعتبر ما حدث مفتعلا!
صمت الرجل المسكين وبعدها أطلق تنهيدة طويلة، كادت تشق صدره.
وانسفحت دمعة حارة، حاول أن يخفيها ولكنه أخفق.
عاود المحقق ليؤكد: يا عم صالح ـ الشخص الذي أقدم على هذا العمل مؤكد بلا ضمير ولابد من معاقبته الذي يريد أن يلحق بك السوء.
ولم يكمل عبارته قرع الباب، وعلى الفور دخل جندي يتأبط قبعته قائلا: ـ سيدي وجُدت بقرة السيخ صالح ملقاة قرب الضفة الثانية للنهر وقد سُمت.
امسك الرجل المسن رأسه بكلتا يديه ، وأجهش ببكاء طويل.
أشار المحقق للعسكري بالانصراف واقترب منه قائلاً : ـ ها أيها الرجل الطيب.
قد أصبحنا وحيدين أخبرني.. مذ عرفتك وأما أرى فيك صورة أبي الذي رحل منذ سنسن .. وأنت تحمل في صدرك هذا طيبة قلب لم أعهدها من قبل.. ودماثة خلق نادرة.
في تلك الأثناء قرع المحقق جرس المكتب وطلب شاي.
تردد المحقق في بادئ الأمر ثم قال هل لي بسؤالك أود معرفة العلاقة التي تربطك بإخوتك؟
رغم أن سؤاله أثلج صدر الرجل لمسكين، إلا أنه أدجاب:
أرجو ألاّ نفتح جراحا دامية مر عليها سنوات عديدة؟
عندها صمم المحقق على أن يستمع إلى تلك الجراح التي أخفاها الرجل المسن أعواما طويلة.
قال الرجل: ـ سيدي قبل وفاة أبي كنا أربع أشقاء، غير أن جشع النفوس يغلب على بعض الصفات الجيدة فكل إنسان لديه نقاط ضعف والبعض تستحوذ عليه.
شحذ محقق كل سمعه وأخذ ينصت باهتمام بالغ.. وأكمل الرجل المسن هناك داء عندما تمتلكه النفس، فإنها تضعف وتنهار كل القيم والفضائل الحميدة، الجشع وحب المال.. نعم يا سيدي المال الذي فرق بين الناس حتى أقرب المقربين!
كنت يا سيدي ساعد أبي الأيمن، عندما حصل على الأرض التي اشتراها من إخوته، ودفع لهم فيها ما أرادوه.. وكنت عندها ابن الثانية عشرة من عمري.. كنت أفلح الأرض وأزرعها وأوليها كل الرعاية والعناية.. فكان أبي يحبها مثلما أحبنا.
وفي يوم ما جمعنا أبي بعد صلاة العشاء قائلاً: ـ يا أبنائي ليس لدي ما اتركه لكم سوى هذه الخيرة..
فسأله: ـ أحد إخوتي .. وماذا تعني الخيرة؟
ــ أجاب والدي: ـ بابتسامة باهنة الخيرة التي تغدق بالخير، فعليكم جميعا بالتعاون وأن ترعوها وتعطوها فبقدر عطائكم تعطيكم.
قرأت في عيون إخوتي عدم الاهتمام واللامبالاة .. والبعض منهم يتشدق، وكانت نظراتهم تدلل على عدم اكتراثهم بالأمر.
وقد هم كل واحد منا بالخروج فاستدعاني أبي قائلاً: ـ أريدك يا صالح، فلبيت طلبه وجلست بقربه، وأنا استمع لنصحه.
قال: هذه أرضك فأنت من رعاها وحباها وزرعها، لا تفرط فيها يا بني مهما كان الثمن.
لم انس كلماته التي ترن في أذني حتى هذه اللحظة.. ومضت الأيام ورحل أبي، تاركاً لي عبء ثقيل وأمانة قلما يتحملها الناس.
وجاء إخوتي يطالبونني ببيعها حتى يأخذ كل منهم حصته.. ولكني رفضت!
وتابع يقول: ـ استخدموا كل السبل للضغط علي ّحتى أبيعهم الأرض دون جدوى.
وأخيرا توصلت لحل يرضي جميع الأطراف.. طلبت منهم أن يبيع كل واحد حصته في الأرض لأحد المزارعين وبذلك يحصلوا على المال .. توقف عندها صالح عن الحديث يلتقط أنفاسه ثم أردف لم تشبع نفوسهم الجشعة .. بل عادوا بعد مدة ليست بطويلة يطالبونني بمزيد من المال بحجة أن المزارعين خدعوهم في قيمة الأرض!
ــ قاطعه المحقق متسائلاً: ــ وأنت ماذا عن حصتك أيها الرجل الطيب؟!
ابتسم الرجل في هدوء قائلاً: ـ كما أوصاني والدي فقد عدت للمزارعين الذين تربطني بهم علاقة متينة منذ زمن بعيد.. فاشتريت حصة إخوتي لأنهم يعلمون مدى ارتباطي بالأرض.. وكيف جاهدت وكافحت حتى حصلت على المال لأستعيد ما بددوه.
هاهم عادوا من جديد يريدون أن يشاركوني فيها بعدما أضاعوا حصتهم.
وعندما رفضت مطلبهم أحرقوا داري، وقتلوا البقرة التي كنت أبيع لبنها حتى استفيد من ثمنه.
تنحنح قليلاً ثم قال: ـ صدقني حضرة المحقق: لست نادما على شيء .. لقد فوضت أمري لصاحب الأمر.
وهم بالوقوف ليستأذن.. حتى يدرك صلاة الفجر قبل فواته!
فاستأذنه المحقق: ـ مهلا يا عم صالح..!، كنت تنازلت عن حقك فهذا شأنك.. أما نحن فلن نتنازل عنه أبدا.
وعلى الفور استدعى الإخوة الثلاثة الذين حضروا وهم مكبلين، كل منهم قد كبل بيد الآخر.
سيدي: ـ هاهم الثلاثة وجدتهم عند الضفة الثانية من النهر، وكادوا يهمون بالفرار.
ننظر المحقق نظرة ازدراء، وخاطبهم بلهجة حادة: ــ لن أطيل عليكم فلديكم أحد الخيار ين ..
ــ تساءلوا بصوت واحد في ماذا؟
ــ قال : ــ أم التعويض.. أو الحبس.
ــ نظروا إلى بعضهم البعض وقالوا: ولم التعويض؟
عندها انتاب الغضب المحقق وقال: إذا الحبس!
صرخ أحدهم بخوف: سيدي ـ سأبلغك بكل شيء فهل تسمعني، لم ينه كلمته حتى وكزه أحدهم في صدره، فخر على الأرض يتأوه..
وأخذ يسرد للمحقق الأعمال التي قاموا بها في حق أخيهم صالح، وأن شهوة المال غلبت على نفوسهم الضعيفة.
وعلى الفور أمر المحقق بزجهم في السجن .. جزاء الخسائر التي ألحقوها بالقرية.. أما صالح فقد منّ الله عليه بشراء أرض جديدة، وعُوض بدار أخرى بدل.. وحصد كل من إخوته ثمن ما جنته أنفسهم.