الثلاثاء ٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٢
بقلم عبد الكريم المحمود

الجَمال المعذّب

حين بدأت السير على ضفة النهر ، كنت أتوقع أن أصيل هذا اليوم ، كذلك الأصيل الصيفي الذي قضيته الأسبوع الماضي هنا في هذه الغابات المترامية الأطراف ، فالنهر الجاري عن يميني هو ذات النهر ، والمزرعة الكبيرة عبره هي ذاتها بارضها الخضراء وأشجارها من السدر والتوت، وكذلك الغابة المترامية عن يساري بعدد هائل من شجر النخيل ومساحات متناثرة من الحشائش الطويلة . ولكني فوجئت أن هذا الأصيل ليس كالأصيل الماضي ، فقرص الشمس كانت تخفيه في الأسبوع الماضي سحابة مديدة من دخان اسود كان ينبعث من مصنع الطابوق الواقع خلف المزرعة ، أما الآن وقد تعطل المصنع عن العمل ، فقد ظهرت الشمس وبدا قرصها متوردا كوجه فتاة خجلة ، وهي الآن تطوي خطواتها الأخيرة بشوق الى لقائها الموعود مع الافق . أما تلك السحابة السوداء فتحل محلها الآن قطع من السحاب الأبيض يتصافح بعضها مع بعض بأيدٍ بيضاء وقد لبس كل منها بردة برتقالية أو بنفسجية ، وها هي تنساب نحوي في السماء الزرقاء بحركة جماعية وئيدة .
وانتبهت الى اني أسير ببطيءٍ وتؤدة ما كنت أسير بهما في الأصيل الماضي ، وحين بحثت عن السبب داخل نفسي ، تفاجأت بأن الرائحة الكريهة التي كانت تفوح في الأسبوع الماضي من بقع الزيت والنفايات التي غطت وجه النهر ، قد زالت بعد أن جرفها تيار الماء الى مكان سحيق . ويضوع الآن شذى عبقريّ ينشره أول نسيم بارد بعد سموم الصيف اللافحة ، أحسّ بهذا النسيم يلامس وجهي ورقبتي ويمر عليهما مثل ريشة ناعمة فتسري في جسمي ارتعاشة خفيفة على أثرها ينشرح الصدر وتنبسط الأسارير . وفي الضوء الباهت استطعت أن أرى قطيعا من النمل يحيط بواحدة من التمر الساقط تحت نخلة عالية وكان بعض القطيع يسحب التمرة من الأمام وبعضه يدفعها من الخلف فراحت تسير باتجاه واحد نحو مسكن النمل عند جذع النخلة وأخذت أتأمل المشهد بامعان فتذكرت بأني رأيت هذا النمل في الأسبوع الماضي وهو يدفن نملتين مسنتين وراء مسكنه بعد أن أخرجهما من بين أخاديد نقشت على شكل حذاء بشري وشرعت أفكر في حركة النمل البدائية ، ولكن صوتاً جميلا متناسقاً انتزعني من تأملي ، فرفعت رأسي باتجاه الصوت ، فرأيت بلبلين في اعلى النخلة ينقران تمرة واحدة وهما يغنيّان بلحن عذب ، ولم اكد اصدق عينيّ حين رأيت احد البلبلين وقد تدلى من عنقه قرص معدني صغير .. يا الهي.. انه ذات البلبل الذي رأيته الاسبوع الماضي في السوق وأنا في طريقي الى هنا ، وكان يعرضه احد باعة الطيور في قفص حديدي وهو يتقافز في القفص بحيرة وذهول ويمسك قضبانه بألم ويحشر جسده بين القضبان بقوة محاولا الفرار .
وراح البلبلان يغنيان بنشوة وينظران الى وجه الشمس وهي تلتقي بالافق فيضمّها الافق بلهفة . وكانت على شجرة السدر القريبة ، حمامة ذات طوق ترقد في عشها وتستمع لغنائهما بإعجاب . وحين وقع بصري على عش الحمامة تذكرت بأني رأيت هذا العشّ في الأسبوع الماضي وفيه بيضتان صغيرتان ، ورأيت رجلا ضخم الجثة يهزّ جذع السدرة النحيف لكي يسقط خمس نبقات تخلفن في اعلاها ، وتركتُ البيضتين تصدم احداهما الاخرى داخل العش الذي راح يهتز بقوة . فليت شعري اما تزال البيضتان سالمتين ! وكأن الحمامة عرفت ما يدور في نفسي فرفعت جناحيها الى اعلى فتفاجأت بأن هناك فرخين صغيرين ينامان بأمان تحت ريشها الناعم .
وعندما سرحت بصري في المزرعة الكبيرة عبر النهر ، كانت اوراق السدر والتوت ما تزال خضراء طرية في اغصانها مطمئنة لما فعلته مع الثمار طيلة الفصل الماضي ، وهي تبدو الان مصمّمة على ان تواجه مصيرها المشترك بشجاعة ورضا بعد أن أدت رسالتها .
ووقع بصري في المزرعة على محراث يدوي ترك تحت شجرة من أشجار التوت ، فتذكرت بأني قد رأيت هذا المحراث في الاسبوع الماضي وهو مربوط على بقرة بيضاء يسوقها احد الفلاحين في المزرعة ، كانت البقرة منتفخة البطن بشكل غريب فلم تقوى على جر المحراث إلاّ بمشقة بالغة ، وراح الفلاح يصيح بها وينهال عليها ضرباً بعصاه وهي تنقل خطواتها بصعوبة وتنوء بحملها وقد بان عليها الاجهاد والتعب . تُرى اين ذهبت تلك البقرة المسكينة ؟ وتنازعتني الظنون بشأنها وانا امسح المزرعة ببصري مسحاً دقيقاً ، حتى فوجئت بأمر لم اتوقعه حين رأيت البقرة البيضاء وقد زال الانتفاخ عن بطنها وعادت رشيقة جميلة، وها هي تنظر الى طفل صغير يرتضعها ويغمز ضرعها بفمه مرة بعد اخرى، ويهز ذيله فرحاً ، تنظر اليه برضا وقد انفرجت شفتاها عن ابتسامة تشبه ابتسامة الانسان .
وحين قصرت بصري عن المزرعة وسحبته إلى شاطيء النهر الجاري امامي ، تذكرّت باني قد رأيت في الاسبوع الماضي مجموعة من الضفادع وهي تجلس على هذا الشاطيء ، تراقب ماء النهر الملوث وتنق نقيقاً شجيّاً . تُرى اين هي الان تلك الضفادع الحزينة ؟ وبعد ان دار التساؤل في رأسي لحظات ، رأيت تلك الضفادع وهي تسبح في ماء النهر الصافي بهدوء وفرح .
وذكّرني الشاطيء الاخر للنهر أيضاً بان فيه زهرتين من النرجس ، رأيتهما في الاصيل الماضي وقد ترك احد صيادي الاسماك وتداً حديدياً يفصل بينهما بعد ان رفع شبكة الصيد التي كان يربط احد طرفيها بذلك الوتد ويربط طرفها الاخر بوتد ثانٍ على الشاطيء المقابل ، وبدأت ابحث عن الزهرتين ببصري وأتفحص الأعشاب والحشائش النامية على الشاطيء ، وفاجأتني الدهشة حين رأيت الزهرتين تتعانقان فوق الوتد برقّة وصمت وكلاهما ينظر نحوي بخجل ، مما اشعرني انا بالخجل ايضاً فرفعت بصري عنهما برفق ، وجعلت انظر الى ماء النهر فتنبهت بأن النهر لم يعد غاضباً كما رأيته في الاسبوع الماضي ، بل هو الآن هاديء تماماً يتماوج ماؤه الازرق بلين ورقة ، وتجري الموجات بعضها اثر بعض بهدوء وانتظام ، وراحت الحشائش والازهار الفتية على شاطئيه تتمايل تمايلا يناغم موجات النهر في ارتفاعها وانخفاضها ، مما اثار لديّ رغبة ملحّة بتنظيم خطواتي مع حركة النهر ، وعندما فعلت ذلك شعرت بأن النهر والحشائش والازهار الفتية واشجار السدر والتوت، صارت جميعاً تمشي الى جانبي الايمن ، وأن النخيل يمشي الى جانبي الايسر ، وكان السحاب الابيض المتصافح بالايدي قد وصل فوقنا تماماً ، فرحنا نجري جميعاً باتجاه واحد نحو البحر .
كان الهدوء والصمت يخيمان على المكان بأكمله عدا وسوسة في سعف النخيل وغصون الاشجار تقطعها بين الحين والاخر اصوات الطيور العائدة الى اعشاشها قبل حلول الظلام الذي بدأ خياله ينداح على صفحة السماء ، فبانت حانية على الارض كما تحنو الام على طفلها الرضيع .
كان البلبلان ما زالا يغنيان ، وقطيع النمل ما زال حاملا التمرة ، والحمامة ما زالت جاثمة في عشها ، واوراق السدر والتوت ما زالت صامدة في اغصانها ، والبقرة البيضاء ما زالت ترضع طفلها ، والضفادع ما زالت تسبح بهدوء في النهر ، والنرجستان ما زالتا متعانقتين ، وسار الجميع معنا : أنا والنهر والحشائش والاشجار والسحاب ، في موكب واحد نحو البحر . وشعرت بروحي تنساب في عالم ملائكي وهي تصاحب هذا الموكب السائر في طقس تعبدي بغاية الهدوء والانسجام .
وفجأةً مُزّق الهدوء وبُدّد الانسجام ، وعجّت ضوضاء صاخبة . فتوقف الموكب عن المسير ، وقطع البلبلان غنائهما وطار كل منهما باتجاه ، ورمى قطيع النمل تمرته وولّى يتصادم وهو يدخل مسكنه ، وطارت الحمامة من عشها بذهول تاركة فرخيها يستغيثان ، وتساقطت عدة ورقات من شجر السدر والتوت على الارض ، وفرّت البقرة فزعة عن طفلها الذي تحير في مكانه وهو يناديها بصوت رخيم ، وفزّت الضفادع مذعورة في النهر فتعكّر ماء النهر واضطرب ، وأطبقت النرجستان عينيهما وهما تفترقان بدهشة ، وانفصلت ايدي السحاب الابيض وهو يتبدّد في ارجاء السماء .. يا الهي ما الذي حدث! اني اسمع دويّ طلقات نارية تشق الهواء ويطنّ صداها في الفضاء ... وهُرعتُ باتجاه مصدر الصوت وحين كنت احث الخطى متوغلا في غابة النخيل ، كان آخر خيط من النور قد اختفى، ووضعت السماء على وجهها برقعاً أغبر، وراح القمر يختفي وراء غيمة سوداء ... كان الطلق الناري ما يزال مستمراً وانا الاحقه ركضاً .
وبعد لحظات اعترضتني جمهرة من الناس سادهم الهرج والمرج وغاصوا في معمعة مبهمة وهم يحيطون برجلين يتصارعان ، كان احد الرجلين يشهر مسدساً ويحاول تصويبه نحو رجل أعزل ، لكن الرجل الاعزل امسك المسدس بكلتا يديه ورفعه الى الاعلى وهو يحاول انتزاعه جاهداً ، فراحت الطلقات تتوالى في الهواء وبعد هنيهةٍ صمت المسدس على الرغم من ان اصبع صاحبه ما تزال تضغط على الزناد ، فاستحال الصراع بين الرجلين الى ركل بالأرجل ولكم بالأيدي حتى سالت الدماء على وجهيهما وبدا عليهما التعب، عند ذاك تدخل بعض الجمهور ففصل أحدهما عن الاخر . وسمعت صاحب المسدس يصرخ وهو في سورة الغضب مخاطباً الرجل الاعزل : لابد ان اقتلك ايها الكلب ... لابد ان اقتلك انْ لم تردّ اليّ العشرة دنانير . فأجابه الرجل الاعزل غاضباً : لقد رددتها اليك ايها الحقير ولاشيء لك عندي . فردّ صاحب المسدس : أنت كذّاب ايها السفيه . فأجابه الاعزل بل انت الكذاب ايها التافه . وبعد ان استمعت الى هذا الحوار النزق ، وأمعنت النظر في وجه الرجلين ، تذّكرت بأني قد سمعت هذا الحوار ورأيت هذا المشهد الدامي بين هذين الرجلين ذاتهما ، في هذا المكان ، وفي مثل هذا الوقت من العام الماضي .


الأعلى