السبت ٢٩ تموز (يوليو) ٢٠٢٣
بقلم عبد الكريم المحمود

ملحمة عاشوراء

يا يوم عاشوراء كيف عزائي
ولك السماء بكت بفيض دماء
فدمٌ عبيط فوق كل بنايةٍ
أو تحت كل حجارة صمّاءِ
ولك الملائكُ في المآتم أعولتْ
والأنبياءُ وخلّصُ الشهداءِ
والجنّ من هول المصاب تناحبت
والمؤمنون بزفرة وبكاءِ
ولك الجنان تنهّدت بشهيقها
والنارُ من غضبٍ على اللعناءِ
وذوتْ زهور الأرض حزناً عندما
هبّ النعيُّ بريحه الصفراءِ
والشمس أخفت وجهها لتفجّعٍ
بغلالةٍ من غيضها حمراءِ
والطيرُ أمست بالنواح مثيرةً
في كل سمعٍ أوحشَ الأصداءِ
وبكت وحوشُ الأرض في غاباتها
ووهادها وجبالها الشمّاءِ
وبكل بحرٍ أجهشت حيتانُه
واحتدّ في أمواجه الهوجاءِ
ولك النبيُّ أسال دمعاً حينما
جبريلُ جاء بفاجع الأنباءِ
وأراه تربةَ كربلاءَ فلم تكن
إلا سَميّة كربةٍ وبلاءِ
فيها أجال بنو أمية خيلَهم
عند الصباح لفتنةٍ عمياءِ
لقتال آلِ محمدٍ وعميدِهم
سبط الرسولِ وقدوة العلماءِ
فبدا عليهم بالنصيحة مشفقاً
مستفتحاً بإنابةٍ ودعاءِ
لله رب العالمين ومن به
تنجاب كل مصيبةٍ دهياءِ
ومخاطباً شرّ العباد بأنكم
خنتم بنقض العهد دون حياءِ
إذ جاءني كبراؤكم بعهودكم
لغياثكم من سطوة السفهاءِ
فقد استباحوا المنكرات بفسقهم
وبغوا على الأخيار والشرفاءِ
واليومَ أنتم للطغاة جنودُهم
تلقوننا بالخيل شرّ لقاءِ
هلّا رجعتم للعقول وحكمها
أبقتلنا حكمتْ كخير جزاءِ
أم أنكم أُركستمُ في جبنكم
واستعبدتكم أرذلُ الأهواءِ
أترون في قتلي صلاحَ أموركم
ولكم يحلّ دمي وسبيُ نسائي
أوَلستُ سبطاً وابنَ بنت نبيّكم
وابنَ الوصيّ وخيرة الخلفاءِ
أوَ ليس جعفرُ ذو الجناح وحمزةٌ
أسدُ الرسول عمومتي وسنائي
أوَ ما علمتم أنني وأخي لنا
قال الرسولُ مبيّناً بجلاءِ
هذان مني سيّدان كلاهما
لشباب أهل الجنة الفضلاءِ
فاذا شككتم فاسألوا من قد روى
أقوالَه من صحبه النجباءِ
فأبا سعيدٍ وابنَ أرقمَ فاسألوا
أو جابراً وسواه من خبراءِ
فيخبّروكم بالّذي أنبأتكم
من قول خير الرسْل والشفعاءِ
ألكم قتيلٌ قد سفكتُ دماءه
فبثأره جئتم لسفك دمائي
أو تطلبوني بالقصاص جراحةً
أو هُلكَ مالٍ ملزماً لأدائي
لم يستمع منهم جواباً غيرَ ما
بعثتْ حوافرُهم من الضوضاءِ
ولهم زهيرٌ قد تقدّم ناصحاً
ومحذّراً من طغمةٍ حمقاءِ
ودعا لنصر ابن النبيّ وصحبه
ولخذل طاغيةٍ ربيب رياءِ
ذاك الدعيّ ابنُ الدعيّ يسوقكم
قسراً لأسوء خطّةٍ شنعاءِ
يبغي القضاء على بقيّة أحمدٍ
من آله وصحابه الأصلاءِ
يلقي بكم في حربهم متشبّهاً
بأبيه في أحقاده الجهْلاءِ
فهما عليكم بالعذاب تسلّطا
وبكم أدارا فادح الأسواءِ
إذ يقطعان أيادياً أو أرجلاً
ويمثّلان بخيرة الصلحاءِ
أمثال حجرٍ وابن عروةَ هانئٍ
وسواهما من صفوة العرفاءِ
إن ابن فاطمةٍ أحقّ بنصركم
من أدعياء سميّة الرعناءِ
فرموا زهيراً بالسباب وأردفوا
ذكرَ الطغاة بوافر الاطراءِ
ورماه شمرٌ بالسهام مسكّتاً
متبجّحاً بالكبر والخُيلاءِ
وأتاه من قبَل الامام نداؤه
أقبلْ فقد أحسنتَ في البُلغاءِ
لكنهم قومٌ أحاط عقولَهم
خوفُ الطغاة فليس من عقلاءِ
إلا أبيّاً كان من فرسانهم
قد أدركته رجاحةُ الفُهماءِ
فإلى الحسين أتى يسوق جوادَه
خجلاً لما أبدى من الايذاءِ
ومطأطئاً رأساً لديه وباكياً
ندَماً على ما جاء من أخطاءِ
ومن القدير عليه يطلب توبةً
وإقالةً من أرحم الرحماءِ
لبني رياحٍ كان فخراً حُرّهم
وله تحقق أنسب الأسماءِ
إذ كان حرّاً يوم فاز بعزةٍ
تهمي الثناءَ كديمةٍ هطلاءِ
فتقدم الحُرّ الشجاعُ لقومه
يلقي نصيحةَ أصدق النُصحاءِ
أنْ بئس ما نزعتْ اليه نفوسكم
في غدرها بالعترة الخُلصاءِ
هذا الحسين دعوتموه لمقدمٍ
وأتاه صارخُكم بكل رجاءِ
ثم انثنيتم حين جاء لنصركم
كي تُسلموه لقبضة الحقراءِ
ومنعتموه وأهلَه من مأمنٍ
وعن الفرات فما لهم من ماءِ
وتكاد من عطشٍ تُفتّ قلوبُهم
وابنُ الدعيّ بمأمنٍ ورواءِ
بل تطلبون من الحسين تنازلاً
عن دينه لمنافقٍ خطّاءِ
أو تقتلوه اذا أبى وصحابَه
ثكلتكم الآباء من بُلَهاءِ
فرمتْه بالرفض المقيت نبالُهم
تُنبي بفهم بهائم الصحراءِ
وقُبيل شبّ الحرب نارَ وطيسها
أفضى الوصيّ ببثّة البُرَحاءِ
إذ قال تبّاً يا جماعةَ سوءةٍ
لكمُ وتعسَ مذلّةٍ وشقاءِ
يا من غدرتم ناقضين عهودَكم
أن تبذلوا لنصيركم بسخاءِ
واليومَ أنتم تجمعون خيولكم
وسيوفَكم إلباً على النُصراءِ
وحششتمُ ناراً علينا بعدما
كنا اقتدحناها على الأعداءِ
ونصرتمُ أعداءنا في ظلمهم
لخسيس عيشٍ عندهم وغذاءِ
من غير عدلٍ عمّكم في حكمهم
إلا الحرامُ ينالكم بسواءِ
هلّا كشفتم ما انطوى بقلوبكم
لولائنا من بغضةٍ وجفاءِ
من قبل أن نغترّ في إصراخكم
ونسلّ سيفاً صادقَ الامضاءِ
لكن تداعيتم الينا كالدبى
أو كالفَراش بخفّةٍ وغباءِ
قبحاً لكم من أمّةٍ لطغاتها
تُنمى وشرّ عصابةٍ نكراءِ
ومحرّفي كلم الكتاب ومبتغي
إطفاء نور السنّة البيضاءِ
وعصابة الآثام والعهر الذي
وُضعتْ به الأنسابُ لابن زناءِ
ومفرّقي شمل البلاد وقاتلي
آل النبيّ وخيرة السفراءِ
فلهم غدوتم عامدين بنصركم
ولنا بسوء الخذل والبغضاءِ
لكنه خذلٌ عليه أصولُكم
وُشجتْ ومنه فروعُكم بنماءِ
وعليه قد نبتتْ نياط قلوبكم
وصدورُكم منه اكتستْ بغطاءِ
ركز الدعيّ ابنُ الدعيّ لفسقه
بين اثنتين بأسفه الآراءِ
إما بسلّة سيف بغيٍ فوقنا
أو أن نُقاد بذلّة الأسَراءِ
هيهات منا ذلّةٌ يأبى لنا
ربّ الأنام وصفوةُ الحنفاءِ
تأبى جدودٌ في الأطايب أصلها
وحجورُ ربّتْ طاهرَ الأبناءِ
من أن نفضّل طاعةً لمذبذبٍ
نجسٍ على قتلٍ مع الكرماءِ
والله لا أعطي يدي عن ذلّةٍ
بل لا أفرّ فراركم كإماءِ
وألاءِ صحبي قلّةٌ في عدّهم
لكنهم أممٌ من العظماءِ
يستأنسون بموتهم في مصرعٍ
عينُ الرسول تراه والزهراءِ
فبهم لردع الظالمين وكفرهم
أنا زاحفٌ بعزيمةٍ ومضاءِ
وبكم قريباً بعد قتل وليّكم
ستدور مسرعةً رحى الأرزاءِ
عهدٌ اليّ موثّقٌ من مخبرٍ
جبريلُ يخبره بغيب قضاءِ
يا ربّ فاحبس عنهمُ قطر السما
وابعث عليهم من سنين فناءِ
سلّطْ غلام ثقيف يسقي جمعهم
بكؤوس موتٍ للجناة ملاءِ
واجعله فيهم سيف منتقمٍ لنا
من كل وغدٍ بالأذى مشاءِ
وزعمتَ يا عمر بن سعدٍ أنما
ترقى بقتلي ذروةَ الوزراءِ
فتكون في جرجان والريْ والياً
لابن الدعيّ وأقربَ الشركاءِ
هيهات ما ترجو وحقّ الهنا
فلك البوارُ وعيشةُ التعساءِ
عهدٌ اليّ بأن رأسك صائرٌ
غرضاً بأيدي صبيةٍ ضعفاءِ
فاصنع صنيعك سوف تلقى ذلةً
بعدي ونار جهنم الطخياءِ
فاغتاظ من حرّ الوعيد بكِبره
عمرٌ وصاح لغارةٍ شعواءِ
ورمى بسهمٍ بادئاً في حربه
وله أراد شهادة الخلطاءِ
وانهال من رمي العتاة بإثره
مطرُ النبال بعسكر النبلاءِ
ما عاد من صحب الحسين مقاتلٌ
لم يدمَ من نشّابةٍ عشواءِ
فعلا نداء السبط في أصحابه
قوموا لموتٍ فيه عزّ بقاءِ
فتسابقوا لندائه في لهفةٍ
لحتوفهم جذلين غيرَ بِطاءِ
من كل مرضي الفعال موحّدٍ
ورعٍ تقيٍ طاهر الآباءِ
من كل حرّ رافضٍ لمذلةٍ
لا يستكين كسائر الجبناءِ
صافٍ سليم الأصغرين ودينُه
كالبدر يسطع في دجى الظلماءِ
متبصّر نهج الهدى بالمرتضى
يأتمّ لا بامامة السخفاءِ
يمضي على حدّ السيوف مجاهداً
أعداءَ دين الشرعة السمحاءِ
كالليث يقتحم الوغى مستبسلاً
حيث النصالُ تسدّ كل فضاءِ
وله الحسينُ مشيّعٌ لجنانه
فتراه مبتشراً بخير فداءِ
منهم بُرَيرُ بعلمه وبزهده
ذاك التقيّ وسيّدُ القرّاءِ
ما اهتزّ يوم الروع منه فؤادُه
بل كان مبتسماً لدى الغمّاءِ
مستبشراً بالموت في غصّاته
دار الخلود وجنّة السعداءِ
في نصر دين المصطفى ووصيّه
من أسْر كل منافق حرباءِ
فمضى بُرير بسيفه متحدّياً
جمعَ السيوف بساحة الدهماءِ
ناداه عِلجٌ من علوج أميةٍ
بتهكّمٍ من شامتٍ غوغائي
أرأيتَ صنع الله في إضلالكم
عن نهج آلِ أمية الأكفاءِ
حتى غدوتَ مقيّداً بحرابهم
لا تهتدي منها سبيلَ نجاءِ
فالحقّ فيهم راسخٌ ومؤكّدٌ
وبك الضلالُ وكاذبُ الغلَواءِ
فأجابه فوراً بُرير مباهلاً
أنّ المضلّ أحقّ بالارداءِ
وتبارزا فاذا بُريرُ بضربةٍ
ألقى برأس العلج في الرمضاءِ
لكنْ سنانُ الغدر غاب بظهره
فهوى شهيدَ العزة القعساءِ
أو مسلمٌ بطل الفتوح ومن له
شهد العدوّ بعفّة وصفاءِ
وشجاعةٍ في الحرب قلّ مثيلُها
وزهادةٍ أربتْ على النُظَراءِ
صحبَ الرسولَ ومنه زاد بصيرةً
ولدى عليٍّ كان في الجلساءِ
ومن الحسين مولّهاً في حبه
حتى فداه بأنفس الأشياءِ
بالنفس وسّدها الترابَ صريعةً
توصي له بمحبةٍ ووفاءِ
ما كان أوفى مسلماً لوليّه
في بذل آخِر غصّةٍ بذماءِ
وزهيرُ قد حلّ الحسينُ لعقله
عُقد الشكوك فعاد دون مراءِ
لا يرتضي رغَدَ الحياة وخُلدَها
وحسينُ لم ينعم بعيش هناءِ
ولديه هان الجمّ من أمواله
فإلى الحسين يُهان كلّ ثراءِ
ولألفُ قتلٍ دون سبط محمدٍ
أشهى له من عيشة النعماءِ
فلزوجه ألقى الطلاقَ مودّعاً
وعليه صار الصحبُ كالغرباءِ
إلا حسينأ صار في فسطاطه
أقصى مناه وغايةُ الحوباءِ
حتى أراق على الثرى في حبّه
دمَه ابتغاء تقرّبٍ ورضاءِ
فاختصّه سبط النبيّ بدعوةٍ
لا يُبعدنْك اللهُ في البُعَداءِ
وحبيبُ كان من الرسول بصحبةٍ
ومع الأمير بموضع الوجهاءِ
وافى عليّاً في جميع حروبه
بشجاعةٍ ونزاهةٍ ونقاءِ
إذ كان في صحب الأمير مقدّماً
في قادة الأجناد والرؤساءِ
بتقى عليٍّ صار أخلص عابدٍ
وبعلمه أضحى من الفقهاءِ
ولطالما سأل الاله شهادةً
جنبَ الوصيّ وهازم الخصماءِ
بل كان يبكي حسرةً لنوالها
عقبَ الحروب وخوضها بجَداءِ
فأتته من قِبَل الأمير بشارةٌ
ستنالها مع سيّد الشهداءِ
في كربلا معه ترى بنصالهم
غدرَ اللئام يشعّ في البيداءِ
ومضت سنونُ العمر يكثر همُها
وحبيبُ يحمل أثقل الأعباءِ
حتى أتاه على تقدّم سِنّه
سؤلُ الحسين بنصرةٍ وعطاءِ
فمضى يحثّ خطاه نحو معسكرٍ
فيه المنى من أصدقُ البشَراءِ
ما كان أسرع نيلَه لشهادةٍ
كان الحسين لها من القرناءِ
وسما أبو وهبٍ لأرفع موقفٍ
وبدا به من أحكم الحكماءِ
يوم اجتلى عند النُخيلة عسكراً
خرجوا لطاعة أجهل الزعماءِ
ويُسرّحون لقتل سبط نبيّهم
متعاونين تعاون الحلفاءِ
فرأى أبو وهبٍ وجوبَ جهادهم
كجهاد أهل الشرك والاغواءِ
فمضى لنصر السبط يصحب زوجةً
معه أرادتْ رحلة اللأواءِ
فلنصر آل محمد في حقهم
ستهون كلّ مشقّةٍ وعناءِ
ما كان أعظم أمّ وهبٍ حينما
حمي الوطيسُ وفار بالأشلاءِ
كانت تحرّض زوجها وتحثّه
لقتال أهل ضلالةٍ وعماءِ
نادته قاتلْ دون آل محمدٍ
خيرِ البرايا من بني حوّاءِ
وجرتْ لميدان الوغى في لهفةٍ
بعمودها تهوي على الزُنماءِ
تبغي الشهادة دون عترة أحمدٍ
مع زوجها في عزةٍ وعلاءِ
لكن أراد الزوج منها عودةً
نحو النساء ورجعةً لخباءِ
ورأته ليثاً واغلاً بدمائهم
يفري بسيفٍ في يدٍ سمراءِ
حتى اذا اجتمعتْ عليه سيوفهم
ورماحُهم بدناءة الوُضَعاءِ
هُرعتْ لمصرعه المضمّخ لبوةً
لم تخشَ فيه شراسة الرقباءِ
وبكفها مسحت معفّرَ وجهه
ولهى تهنّئه بحسن ثواءِ
فاغتاظ شمرُ الرجس منها آمراً
في قتلها زنماً من اللقطاءِ
فمضت شهيدةَ دينها وإمامها
فخراً لكلّ تقيّةٍ معطاءِ
وأجنّ حبّ السبط عابسَ شاكرٍ
ذاك اللبيبُ وأخطبُ الخطباءِ
أسدُ الأسود فلا يُقابل في الوغى
إلا بزجّ كتيبةٍ شهباءِ
جاء الحسينَ مجاهراً في حبّه
يُهديه روحاً صادقَ الاهداءِ
بالله يقسم ما على ظهر الثرى
أمسى قريبٌ أو بعيدٌ نائي
بأعزّ منك ولا أحبّ لمهجتي
ودمي فداء الطلعةِ الغرّاءِ
لو أنّ لي شيئاً أعزّ عليّ من
نفسي لهان اليك فيه فدائي
إني على هدي النبيّ محمدٍ
أُصفي اليه مودّةَ القرباءِ
من آله الأطهار أنت وصيّه
وتمامُ حجّته لدى البُصراءِ
فعليك من ربّ الأنام صلاتُه
وسلامُه في دائم الآناءِ
ومشى لساح الحرب عابسُ مصلتاً
سيفاً أثار الرعبَ في الغرماءِ
نادى ألا رجلٌ يبارز راجلاً
وعليه تبدو شيمةُ البسلاءِ
ورمى بمِغفره ومُحكم درعِه
يغري المُنازلَ أيما إغراءِ
لكنهم جبنوا وخاف أميرُهم
وتسابقوا بفرارهم كجِداءِ
فاشتدّ عابسُ في الجموع مطارداً
كطراد ضرغامٍ قطيعَ الشاءِ
لما رآه ربيعُ همدانَ الذي
شهد الشجاعةَ منه في البأساءِ
نادى يحذّر من لقاء غضنفرٍ
بطلٍ يصيب القرنَ بالضرّاءِ
ورأى ابنُ سعدٍ أن يُصار لقتله
رضخاً بكل حجارةٍ خشناءِ
فانهال من مطر الحجارة وابلٌ
يجتاح نارَ العشق بالاطفاءِ
وتعطّفوا بسيوفهم ورماحهم
تهوي عليه بخسّة الأدناءِ
فهوى صريعَ ولائه وبعينه
نحو الحسين بقيّةُ الايماءِ
ومن الهواشم عصبةٌ علويّةٌ
قطعتْ على الأرواح عهدَ ولاءِ
لله ربّاً والنبيّ محمدٍ
ولدينهِ ولآلهِ الأمناءِ
لا تنحني للظالمين وبغيهم
ترد الحتوفَ بعزّةٍ وإباءِ
نهضتْ تجالدهم بأروع مشهدٍ
يثني عليه الدهرُ كل ثناءِ
إذ كرّ شِبهُ المصطفى بجواده
ينقضّ صاعقةً على النذلاءِ
ونساءُ آلِ محمدٍ يندبْنه
وله الحسينُ مودّعٌ برثاءِ
أشبهتَ أخلاقَ النبيّ وخلقَه
وعلوّ منطقهِ على الفصَحاءِ
كنا إذا اشتقنا لوجه نبيّنا
نسعى لرؤية وجهِك الوضّاءِ
وعلى عليٍّ عينُه ملهوفةٌ
لمّا رآه يصول في الهيجاءِ
ويجدّل الأبطالَ خاطفُ سيفهِ
ما ردّه عطشٌ الى الاعياءِ
حتى أصاب الرمحُ غدراً ظهره
وبطعنةٍ من أخبث الخبثاءِ
فمضى به الفرسُ الذهول لخصمه
وغدا بساحة أرذل الرذلاءِ
تنهال من حقدٍ عليه سيوفُهم
ورماحهم من خسّةٍ ودَناءِ
وجثا لديه السبطُ يلثم نحرَه
بدمائه يرمي عنانَ سماءِ
ما عاد منه الى الثرى من قطرةٍ
بل قد حمتْه ملائكُ العلياءِ
واهتاج من قلب الحسين نداؤه
ثكِلاً يبثّ بآهة الصُعَداءِ
يا ربّ فاجعلْ قاتليه بفرقةٍ
واصببْ عليهم نقمةَ الأمراءِ
فألاءِ قومٌ قد دعونا نصرةً
ثم استباحوا قتلنا بعَداءِ
قد سارعوا في غدرهم لمعسكرٍ
ما فيه إلا فاسقٌ ومرائي
ما عاد بعدك يا عليّ سوى الأسى
يقضي على الدنيا بشرّ عَفاءِ
وبدا الحسينُ يكفّ من عبراته
وعليه سيما أصبر الصبَراءِ
ومن الخيام مشى له طفلٌ يُرى
من ذعره كحمامةٍ ورقاءِ
متلفّتاً ليمينهِ وشمالهِ
متذبذبَ القرطين في الوعثاءِ
فجرى اليه بسيف حقدٍ فارسٌ
جلفٌ زنيمٌ من بني الفحشاءِ
فهوى قتيلاً جعفرٌ بطفولةٍ
أمستْ تبذّ رجولةَ الكبراءِ
وسواه طفلٌ ما أتمّ فطامَه
يُرمى بحِجر السبط شرّ رماءِ
إذ غاب سهم الكافرين بنحره
ضنّوا عليه بنسمةٍ لهواءِ
فغدا ذبيحاً والحسينُ بكفّه
يلقى دماه بلوعةٍ ونداءِ
يا ربّ عذّبْ قاتليه لجرمهم
أنت السميع لما جنوا والرائي
يا ربّ أنت وليّنا ووكيلنا
لا نستعين سواك من وكلاءِ
واشتدّ من بيت الحسين ضراغمٌ
ترمي الحتوفَ بنظرة استهزاءِ
وتوادعوا نحو المنايا قصدُهم
كلٌ بسيفٍ في يدٍ جذّاءِ
فتيانُ جعفر أو عقيلٍ جلّهم
وبنو عليّ خيرةُ النقباءِ
فمضوا شهيداً تلو آخر لا تني
عزماتُهم في الحرب أيّ وناءِ
منهم أبو الفضل القطيعةُ كفّه
وتراه حاضن قربةٍ ولواءِ
ليبرّ وعداً للفواطم أنه
سيبرّد الأكبادَ بالارواءِ
ويظلّ حاملَ رايةٍ قدسيّةٍ
حتى تُضرّجَ من دم الأحشاءِ
آلى على الكبد الظميّة شربةً
أعظمْ بها من نُصرةٍ وإخاءِ
هانت لديه النفسُ بعد إمامه
وقلوبِ آلٍ للوصيّ ظِماءِ
قد صال ضرباً في العدوّ بسيفه
كالبرق منقضّاً من الجوزاءِ
فمجدّلٌ من ضربه ومهزّمٌ
بالرعب فرّ مرجّف الأعضاءِ
وقنى العدوّ بظهره قد كاثرتْ
وقع السهام بصدره اللألاءِ
فهوى بأعمدة اللئام كأنما
قمرُ السماء هوى على الغبراءِ
وبجنبه سقط اللواءُ مضمّخاً
بدمائه وعليه شِلوُ سِقاءِ
فبكى الحسينُ له وأبّن نادباً
فُقد الكفيلُ وسيّدُ الكفلاءِ
فالآن ظهري بان فادحُ كسرهِ
والآنَ قلّتْ حيلتي وغَنائي
وتسارعتْ خيلُ العتاة لرحلهِ
حَرَماً وأطفالاً بغير وِقاءِ
فَعَلا من السبط الأبيّ نداؤه
يا ويحكم يا شيعةَ الطلقاءِ
إن لم يكن دينٌ لكم ترعونه
أبداً ولا تخشون يومَ جزاءِ
فتحرّروا أو راجعوا أحسابَكم
إن كنتمُ عرُباً من العرْباءِ
ولتمنعوا جهّالكم وطغامَكم
عن عترتي ما دمتُ في الأحياءِ
فأحاطه جُندُ الفسوق بخيلهم
ورمَوه من متفرّق الأنحاءِ
فاشتدّ يهزم جمعَهم بحسامهِ
في ضربةٍ أو طعنةٍ نجلاءِ
وارتدّ من عطشٍ يسوق جواده
نحو الفرات لشربةٍ من ماءِ
لكنهم حملوا عليه لمنعهِ
وسقاه وقعُ سهامهم بدماءِ
وعليه أمطر وابلٌ من نبلهم
ورماحهم وحجارة الدُخلاءِ
فبدا لمشتبك النبال كأنه
من جلد قنفذَ مرتدٍ برداءِ
وتقاسمتْه ذئابُهم بنصالها
ضرباً وطعناً مقرَناً بعُواءِ
وعلاه سيفٌ من لعينٍ حاقدٍ
وتلاه رمحٌ من ذوي الشحناءِ
فكبا صريعاً بينهم ولسانُه
لهجٌ بذكر الله ذي الآلاءِ
واليه شمرُ الفسق أهوى قاطعاً
رأساً أبى عن ذلّة الاحناءِ
فالأرض كادت أن تميد بأهلها
فأقامها للثأر أمرُ قضاءِ
إذ يرفع المهديّ رايةَ ثأره
من كل طاغٍ فاسد الأطواءِ
ويقيم حكم الله رغم أنوفهم
مستحكماً في دولةٍ عصماءِ


الأعلى