الخميس ٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٧
بقلم عصام شرتح

الحس الجمالي في قصائد محمد سعيد العتيق

لاشك في أن الحس الجمالي من مؤثرات الشعرية المعاصرة التي ارتكزت على حساسية جمالية في الرؤيا والتشكيل، وتعد الحساسية الشعرية من مثيرات القصائد الحداثية التي تنوعت في شكلها وأساليبها الشعرية تبعاً لمثيرات جوهرية تمس العملية الإبداعية من وعي جمالي وإفراز معرفي شامل للكثير من الرؤى والمعارف، يقول الشاعر العراقي حميد سعيد:"إن الكتابة الإبداعية تنتج عن مخاض معقد جدا، حتى في حالة أن يكون النص الإبداعي شديد الوضوح؛ لأنها تصدر عن تمثل مجموعة من المعارف، وهي التي تكون محيط الوعي الذي يشكل مهاد الإبداع؛ ولكنها – في الوقت ذاته- تنتج وعياً. بينما الكتابة الأخرى (العلمية) مثلاً لاتمر بمراحل التمثل، بل تعتمد على الحفظ والمعرفة المباشرة، وما يصح على المعرفة، يصح على اللغة أيضاً، لأن اللغة في الكتابة العلمية مجرد وسيلة ثابتة، أو شبه ثابتة، أما في الكتابة الإبداعية فإنها وسيلة، غير أنها تتغير وتنمو وتنضج وتتوسع أفقيا وعمودياً من خلال علاقة الإبداع بالإنتاج- وتكون أحياناً غاية أيضا"

(1)

وهذا يعني أن النص الإبداعي لاينتج عن عبث، أو لحظة عابرة تمر وتنقضي بسرعة،وإنما ينتج عن خبرة ووعي واختمار شعوري عميق قد يدوم أيام وشهور وسنوات، لهذا يبقى للنص الشعري أفقه الجمالي الذي ينأى به عن روتين الحياة والواقع،وله خصوصيته الإبداعية التي تميزه،ورغم محاولة الكثير من المبدعين- وضع توصيف للكتابة الإبداعية- من منظور حميد سعيد- فإن الكتابة الإبداعية واصلت خروجها وتمردها عليهم جميعاً، لتفتح آفاقاً جديدة لمفكرين ونقاد جدد ورؤى نقدية جديدة، فالنص الإبداعي العظيم هو الذي يفرض شروطه على النقد والنقاد وليس العكس. وبتقديرنا: إن الكتابة الإبداعية تتحرك في جغرافية ليست واضحة المعالم،حتى وإن ظن المبدع غير ذلك، وأظن إن الشاعر خليل خاوي عبر عن عدم الوضوح هذا بحدس صادق وعميق (أحسه عندي ولا أعيه.. أحسه عندي وأدعيه"

(2).

وبهذا الوعي المعرفي يدلنا حميد سعيد على أن للإبداع عوالمه وطقوسه الخاصة، وهذه العوالم الخاصة لا يدركها حتى الشعراء أنفسهم، أي إن وقع الحالة الشعرية تفرض ذاتها على الشاعر، فلا يعي كيف ومتى يأتي المخاض الشعري، ومتى تولد القصيدة؟ وكيف تتشكل وتنتهي، إنها حالة قد تكون بعيدة عن إرادة الشاعر، بل وحتى عن وعيه الشعوري في كثير من الأحيان.

ولانبالغ في قولنا: قد لا يختلف اثنان أن الحس الجمالي هو الحكم الفصل في الكشف عن شعرية الإبداع وطاقته الفنية؛ خاصة إذا أدركنا أن الحس الجمالي هو جوهر ما يروم المبدع تحقيقه في منتجه الشعري؛ فالشاعر المبدع هو الذي يملك أقصى درجات الحساسية الجمالية في تشكيل نصه، بطرائق تشكيلية مبتكرة؛ تروم الوصول إلى قمة اللذة والإثارة الشعرية؛ في تفعيل نصه،ليكون أكثر قبولاً واستحساناً من قبل المتلقي.

ولعل من المفيد التأكيد أن الحس الجمالي- عند شاعر ما – يعني امتلاكه لأدواته الشعرية الحساسة التي تلتقط أدق المشاهد والمواقف وتحولها إلى رؤى وحالات شعرية نادرة،وبهذا يمتاز الشاعر المبدع عما سواه، فالشاعر لا تكمن قيمته في المواضيع التي يتطرق إليها، ولكن في أسلوب تعامله جمالياً مع الموقف أو الحدث الجديد الذي وقع تحت سطوته، فالقيمة دائما ليست للمواقف والمواضيع – بحد ذاتها- ولكن في أسلوب تحويل هذه المواضيع والمواقف إلى رؤى شعرية داخل مختبرهم النصي الإبداعي.

ومن يتأمل نتاج الكثير من شعراء الحداثة المعاصرين يدرك أن الحس الجمالي غاب عن الكثيرين منهم لاسيما في تشكيل الرؤيا الخلاقة التي تنطوي على قدرة فائقة على تلوين المواقف والأحداث، وتحويل الرؤى المعتادة إلى حالات جمالية ضمن القصيدة،كما لو أن الشاعر منحها بلمساته وأضفى عليها من مشاعره ورؤاه ما زاد متعتها وحرك مؤشراتها وفواعلها النشطة ضمن القصيدة،وقد لانبالغ : إن حساسية الشاعر محمد سعيد العتيق في تشكيل قصائده بما تنطوي عليها شعرية الرؤيا ليدلنا على امتلاك العتيق لحساسية جمالية عالية في نقل الحالة من سكونية اللحظة، أو روتينية الموقف إلى حالة جمالية خلاقة، ولعل ما يثبت لتا ذلك تعريفه للحساسية الجمالية والحس الجمالي قائلاً:" الشاعر المتوهج إبداعياً هو الشاعر الذي يملك حساسية فريدة على نقل الحالة الشعرية بإحساس جمالي،وإلا فليس بشاعر مبدع ومؤثر على الإطلاق،وهذا ما ينطبق على الشعرية،فالشعرية هي تحول دائم للرؤى والأفكار والأدوات الشعرية، ومن لا يشخذ أدواته ويجددها تصدأ بسهولة وتتآكل وتنهار"

وهذا الوعي المعرفي بأهمية نقل الرؤى والمواقف والحالات والمشاهد البسيطة إلى حيز شعري جمالي مؤثر لدليل على إدراك الشاعر محمد العتيق أن اللعبة الشعرية تنطوي على حساسية نادرة وحس جمالي عالي على إثارة الحالات الشعرية كما لو أنها تحاكي عوالم إبداعية لايطالها المبدع في أرقى تأملاته، وآفاقه المعرفية، ومن أجل ذلك تنوعت رؤى الشاعر وأساليبه ورؤاه، تبعاً للحساسية الجمالية والخبرة الإبداعية التي يمتلكها الشاعر في تشكيل نصه،وموقفه الوجودي، ولعل أبرز المؤشرات على امتلاك شاعرنا العتيق لهذا الحس الشاعري المرهف مايلي:

الحس الجمالي التشكيلي في (هندسة القصيدة):

قد لا يختلف اثنان أن هندسة القصيدة- من مؤشرات الحس الجمالي في التشكيل- لاسيما إذا كانت هذه الهندسة تمس الرؤى والدلالات قبل أن تمس الشكل النصي، ومن ثم فإن درجة الوعي الجمالي تؤدي دوراً مهماً في الارتقاء بالأساليب الشعرية،إلى درجة لامثيل لها، لأن دهشة الإبداع تبدو في حساسية الأسلوب، وحساسية الرؤيا التي شكلت هذا الأسلوب في شكل نصي متوازن أو متلاحم فنياً وإبداعياً، وهنا قد يتساءل سائل، كيف يهندس الشاعر قصيدته في الشكل والرؤيا. هل ثمة هندسة للشكل والرؤيا معاً، وكيف تثبت القصيدة قيمتها في هندستها الجمالية؟ لاسيما إذا كانت الدلالة مناقضة للأسلوب جماليا؟ هل ثمة هندسة جمالية تحكم أحدهما بمعزل عن الآخر، أي هندسة الشكل بعيداً عن هندسة المضمون؟
نقول للسائل: إن الحساسية الجمالية في التشكيل هي التي تهندس القصيدة في بنائها وتوجيه رؤاها ودلالاتها، فلا قيمة للشعر إن كان سيجري عشوائياً لا ناظم له،والشاعر المبدع لا ينتج نصاً عشوائياً بمعزل عن منظمه الإبداعي الداخلي،فكما لكل كائن حي قلب يضخ الدماء في الجسم فإن للقصيدة مركز بؤري يضخ الدلالات والرؤى بناظم داخلي دقيق، وهذا يعني أن القصيدة المبدعة تنطوي على منظم رؤيوي داخلي يحرك الرؤى والدلالات لتعود إلى المركز أو المحرق الذي ترتكز عليه القصيدة.

وللتدليل على فاعلية الهندسة الجمالية في قصائد محمد سعيد العتيق نأخذ قصيدته (صباحك نور) التي يقول فيها:

"لو تظهرينَ بأغصانِ خريفٍ
زهرةَ شوقٍ وَ حنينِ
لنْ أشعرَ بالموتِ المُمتدِّ على وجهِي
لنْ أزحفَ فوقَ الثَّلجِ وَ أغسلَ أحزانَ الطرقاتِ
الهاربةِ منَ الطينِ !!!!
لكنَّ دموعكَ بينَ الأوراقِ الصفراءِ
على سفحِ الشَّمسِ تنادينيْ
أسرابَ حمامٍ تنقرُ قمحَ شرايينيْ
فتهيمُ الرُّوحُ كعادتها
تنتظرُ البردَ (الكانونيْ)!!!!!
لو تظهرينَ وَ لو لثانيةٍ
أوقفتُ القلبَ عنِ العدِّ الزمنِّي المجنونِ
وَ ابَحتُ السرَّ المخفيَّ بحقلِ الأمطارِ
وَ قطفتُكِ قبلةَ عشبٍ عشتاريٍّ وَ فتحتُ جداريْ
خبَّأتُكِ فيْ دمعيْ و عيونيْ !!!!!!"

بادئ ذي بدء نشير إلى أن الحساسية الجمالية- في هندسة القصيدة- عند محمد سعيد العتيق- تعتمد على وعي جمالي وخبرة جمالية، فهذه القصيدة قد تبدو عبارة عن حالة شعورية، أو ترجمة شعورية لموقف عاطفي ما مر على مخيلة الشاعر فحوله شعرياً؛ على هذه الشاكلة الإبداعية من الألق والتميز والخصوبة الإيحائية، وهذا ليس بصحيح، فالشاعر هنا، شعرن الحالة بحسه الجمالي، لينقل شعوره جمالياً بلغة انزياحية تفيض برؤاها الخلاقة، ومواقفها المباغتة، وتبدأ هذه المؤثرات الناظمة لإيقاعها ا"لإبداعي منذ الفاتحة الاستهلالية، إذا ابتدأ الشاعر بصيغة التمني،وهذه الصيغة من مؤشراتها الجمالية أنها تربط الأنساق الشعرية، وتخلق توازنها الفني والتحامها الشعوري، لدرجة تثير المردود الإبداعي، وهذا التمني لم يكن فقط مفتاح القصيدة في الدخول إلى رحاب المعنى وفضاء الدلالات الغزلية؛ وإنما انفتحت لتبث المواجع الداخلية، ونبضات القلب الشعورية، بحالة من البث، والبوح الداخلي عما يعتصر قلبه من أمنيات ورغبات مكبوتة، أراد أن يحركها الشاعر إبداعياً بنسق متكامل يشي برغبة حقيقية وقيمة تعبيرية للإفشاء والتصريح، كما في قوله:[ لو تظهرينَ بأغصانِ خريفٍ /زهرةَ شوقٍ وَ حنينِ

لنْ أشعرَ بالموتِ المُمتدِّ على وجهِي]؛ والمتأمل في هذا النسق التصويري الحساس لأدرك إيقاعه الشاحر وتناغمه مع قوة الإحساس والطاقة الذهنية والقدرة على خلق المباغتة التصويرية على شاكلة هذه المباغتة:

(لن أشعر بالموت الممتد على وجهي) فعلى الرغم من أن هذه الصورة لاتتناسب إيحائيا مع الصورة السابقة لدلالتها على الموت والحزن،والكآبة في حين الصور الأخرى تدل على قمة التفتح والخصوبة والحياة،وكأن الشاعر يريد أن يكسر جلمود واقعه الحزين المميت، من خلال تفتح المحبوبة ونشوة تذكرها وصورها الوهاجة التي تضج بالخصوبة والحياة، ثم يتابع القصيدة بهندسة تشكيلية ومسار إبداعي نسقي متماسك،كما في قوله:

(لنْ أزحفَ فوقَ الثَّلجِ وَ أغسلَ أحزانَ الطرقاتِ/الهاربةِ منَ الطينِ) فهذه الدهشة الجمالية في التحريض الجمالي العاطفي يدل على حساسية بالغة في دمج الفرح / بالحزن،والأمل/ باليأس،والقلق/ بالسكينة،والنشوة/ بالعذاب، وهذا يدلنا على بلاغة رائعة في نقل شعوره الاصطراعي المحتدم بقالب جمالي استثاري مؤثر،ثم تأتي الدهشة التصويرية البالغة التي حولت القصيدة من جو شاعري مؤلوف على جو انزياحي يكسر أفق المتوقع، لدرجة رفعت وتيرة الشعرية على أشدها، كما في هذه الأنساق الشاعرية المرهفة:

(لكنَّ دموعكَ بينَ الأوراقِ الصفراءِ /على سفحِ الشَّمسِ تنادينيْ/أسرابَ حمامٍ تنقرُ قمحَ شرايينيْ).إن هذه القلقلة الجمالية المثيرة لا يخلقها إلا شاعر،ولا يثيرها إلا حس شاعري متوهج، لاسيما في هذه المفارقة التصويرية التي رفعت وتيرة النسق الشعري رومانسياً (أسراب حمام تنقر قمح شرياني) فقد خلق من الصورة المشهدية المألوفة لدينا قلقلة مشهدية مباغتة نقلت أثر هذه الصورة من حيز ماهو مشاهد ومرئي ومألوف في الواقع إلى حيز ماهو مرواغ وتخييلي وذهني بعيد، وهذا ما جعل القصيدة بمجملها مشدودة إلى سحر هذه الصورة لإثارة الإشعاع الجمالي والتوهج الإبداعي الذي تثيره القصيدة، ناهيك عن هندستها الشعورية المحكمة التي تشي بعمق ما تبثه وماتثيره من إشعاعات جمالية يتلقفها القارئ بمتعة جمالية لم يعهدها من سابق.

وكما قلنا من سابق ونؤكد عليه الآن إن قيمة القصيدة الحداثية أنها تفاجئك بالصورة المراوغة التي تنقل القصيدة بكليتها من حيز ماهو مألوف إلى حيز جمالي،ولانبالغ في قولنا ؛ إن صورة واحدة أو جملة تحول النص من شعرية باهتة أو مألوفة إلى شعرية وهاجة وخلاقة، وهذا يدلل على حنكة الشاعر وشعريته الفائقة.

ولو تأملنا في سيرورة الأنساق الشعرية السابقة بمحفزها الجمالي الشعوري الخلاق لأدركنا اعتماد الشاعر على عدة صور ومفارقات تصويرية شديدة المراوغة والانزياح لدرجة ألهبت شعرية هذه الدفقة جمالياً، وهذه التوهجات ساعدت الشاعر إلى خلق هذه اللحمة الجمالية إلى مسك ختام القصيدة، فهذا الارتقاء في الصور والانزياحات التصويرية ساعد الشاعر بالوقوف على الدهشة الجمالية في الختام، وهذا ما نلحظه في فاصلة القصيدة وقرارها الشاعري الأخير:

" لو تظهرينَ وَ لو لثانيةٍ
أوقفتُ القلبَ عنِ العدِّ الزمنِّي المجنونِ
وَ ابَحتُ السرَّ المخفيَّ بحقلِ الأمطارِ
وَ قطفتُكِ قبلةَ عشبٍ عشتاريٍّ وَ فتحتُ جداريْ
خبَّأتُكِ فيْ دمعيْ و عيونيْ !!!!!!""

إن من يدقق في هذه الفاصلة النصية الأخيرة يدرك القيمة الجمالية العالية التي استحوذت عليه القصيدة في إثارتها جمالياً،لتنسجم مع الجو الرومانسي العام الذي ابتدأ به القصيدة وارتقى به ببعض الصور الوهاجة لتكون الخاتمة متناسبة مع الفاتحة الاستهلالية ومؤكدة تلاحم الرؤيا وتكاملها من بدايتها لنهايتها، وهذا ما يحسب لها على الصعيد الإبداعي،ولاسيما في قوله: (وقطفتك قبلة عشب عشتاري،وفتحت جداري). لاشك أن قارئ هذه الصورة يدرك توهجها الإبداعي لترتقي بالصورة التي قبلها والصورة التي بعدها، وكأنها تشد الماورائي والأمامي في النسق ليتوهج شعرياً بجاذبية بعض الصور المتألقة في نسقها، التي تحرك الشعرية وتؤكد تمرد الشاعر الإبداعي وخلقه لهذه الدهشات الإسنادية التي أثارت الحركة الجمالية في قصائده لتتنامى شعرياً وصولاً إلى آخر جملة في القصيدة (خبأتك في دمعي وعيوني) فعلى الرغم من اعتيادية القفلة بهذه الصورة المعتادة لدى القارئ العادي، لكنها تحولت بفعل الصور المشعة إبداعياً لترتقي بها،وتبدو القصيدة مهندسة شعورياً وجمالياً في نسقها؛ وهذا ما يحسب للشاعر في هذا الأسلوب المراوغ الذي يدهشه به بين ما هو عادي و ما هو مفاجئ وصادم وغير عادي، ليخلق نصاً جمالياً بامتياز،وإن بدا الشاعر في بعض الصور تقليدياً لكنه في بعضها الآخر كان استثنائياً، وهذا ما يحسب لشعرية العتيق إيقاع مزاوجتها ما هو بديهي من جهة وما هو جمالي واستثنائي ومفاجئ من جهة ثانية،وكأنه يقول للقارئ: إن شعريتي تحمل جانبين متضادين، جانب اعتدت عليه في واقعك الشعري واليومي المعتاد،وجانب خفي استثنائي لا يدركه إلا العظام والمهمين من الشعراء الذين لا يدانيهم إلا مثل هذه الانزياحات الخلاقة الني تلهب النص وترفع سوية حساسيته الجمالية.

وصفوة القول: إن الحس الجمالي في هندسة القصيدة – عند محمد سعيد العتيق- تتمثل في بلاغة تشكيلها وجمعه بأسلوب رؤيوي خلاق بين ماهو متوقع وماهو مفاجئ وغير متوقع في تشكيلها سواء في استهلالتها المؤثرة أم في خواتيمها النصية المفاجئة،وهذا يدلنا أن شعريته ليست عشوائية،وإنما هي منظمة بخيط دلالي موحد،وشعور عاطفي منسجم مع حالة البث الشعري، وقيمة النسق وفاعليته في خلق الاستثارة والتأثير.

الحس الجمالي في تشكيل الصورة:

من البديهي القول: إن جمالية الصورة لاتتأتى إلا من حسن إيقاعها الفني وتشكيلها المثير؛ والشاعر المبدع هو الذي يمتلك أعلى درجات الإثارة والحساسية والرؤيا الجمالية في تشكيل الصورة؛ وليس معنى ذلك، أن تكون الصورة ترسيمية وصفية مشهدية للنسق الشعري؛ فالكثير من الصور تكمن لذتها في مخالفتها النسق الشعري؛ فالكثير من الصور تكمن لذتها من مخالفتها النسق الشعري الوصفي الذي تتضمنه؛ فالقارئ قد يدهش من صورة حركت شعوره أكثر من غيرها، وهذا ما يجب أن يعيه المتلقي في تلقيه للنص الشعري، والكشف عن حساسية الشاعر الجمالية؛ فبلاغة الصورة ليس بانسجامها وتواؤمها مع النسق الذي تدخله بقدر ما هي إزاحة أو رجرجة للنسق الشعري الذي تتشكل فيه؛وثمة مفارقة عهدناها في لغة الشعر القديم،وهي التآلف،والانسجام، بين الصور، لدرجة أن التشبيهات تكون ملصقة بمشبهاتها؛ وهذا النزوع لاقيمة له في عصرنا الحداثي والتكنولوجي في مجال الصورة، فثمة ثقافة للصورة، تتمثل في إزاحتها للمشهد وقلقلته جمالياً،وليس تشويها دلالياً أو رؤيوياً لاقيمة له؛ ومن هنا، تبدو درجة الحساسية والرؤيا الشعرية متفاوتة من شاعر إلى آخر؛ ومن مدرسة أسلوبية إلى أخرى، ومن قصيدة إلى قصيدة أخرى ضمن نتاج الشاعر نفسه، ولعل أهم ما يميز الحس الجمالي في تشكيل الصورة أن تكون مؤثرة في نسقها، محطمة لناموسها التقليدي المعتاد؛ ولصيرورتها التشكيلية التي اعتادها القارئ في تلقيه للنص الشعري.

وبتقديرنا: إن الحس الجمالي الفني- في تشكيل القصيدة، وخلق الصورة المراوغة هو ما يميزه إبداعياً عما سواه من الشعراء، وكم من الشعراء قد بزوا في صورهم وتشكيلاتهم الفنية الشعراء الأفذاذ؛ وهذا دليل أن عمق التجربة وآفاق المخيلة الفنية،والرؤيا الجمالية الفائقة، والحس الجمالي في نقل الشعور بوساطة الصورة المراوغة المثيرة هي التي تحفز الكثير من القصائد، وترفع سويتها الفنية، وللتدليل على ذلك، نأخذ قوله:

يوماً إذا هطلَ المطرْ
و تعانقتْ روحي برائحة الترابْ
ورأيتُ وجهك كالقمرْ
حل الربيعُ مع الشتاءْ
وَ شَذَا خيالُكِ في السماءْ
عيناكِ مثلُ النجمتينِ على المَدَى
يا نيعَ أحلامِ المساءْ
و أظن عينيكِ النَّهَرْ
من شرفتي قمرٌ يداعبهُ القمرْ
و سماءُ تسألُ ما الخبر!!"

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الحس الجمالي في تشكيل الصورة- في قصائد العتيق- تنبني على حراك رؤيوي شعوري حساس يرتكز على الصور المشهدية والوصفية والصور الأيقونية التي تباغت القارئ في مسارها النصي، وحساسيتها الشعرية المرهفة،وإيقاعها الرومانسي الذي يفيض حساسية جمالية وحراك رؤيوي عميق،

وهنا، نلحظ أن الشاعر يحاول أن يبث رؤيته التأملية من خلال تشكيله الصور الوصفية والمشاهد الرومانسية بإيقاع ائتلافي يأنس بوحه القارئ بسهولة، بحثاً عن شعريته السلسة دون تعقيد وتكلف ومراوغة جدلية تترك القارئ يتحسس الصور ببداهة دون إمعان تفكير، لاسيما في صوره الأخيرة:" و أظن عينيكِ النَّهَرْ /من شرفتي قمرٌ يداعبهُ القمرْ/و سماءُ تسألُ ما الخبر!!". وهذا يعني أن شعرية الصور في قصائد العتيق تنبني على إيقاعين متضادين أو متنافرين،هما إيقاع السلاسة والبساطة والبداهة الإسنادية لاسيما في السياقات العاطفية الدافئة،وإيقاع المباغتة والدهشة الإسنادية الصادمة التي تدل على عضلاته الشعرية القوية،ومخيلته الوهاجة،وهذا ردا على من يدعون أن الشعر فقط صنعة،وإنما هو حساسية رؤيوية وفن تحريك الشعرية بأدوات شعرية رائقة تتطلب الإثارة والمباغتة والدهشة والحنكة الجمالية، لاسيما إذا امتلك الشاعر حساسية راقية في تفعيل الأنساق الشعرية وتلوينها بالرؤى والدلالات المراوغة التي تشي بقيمة جمالية مركزة في تفعيل الأنساق وإثارة حراكها الرؤيوي الشعوري الجذاب، كما في قوله:

"حمَلَ النَّدى منْ جَوفِ فجرٍ ثمَّ غابَ معَ الرِّياحْ
أيمُرُّ منْ ثقبِ الضَّجرْ ؟
لا يَرتَميْ فـي حُضنِ أغنيةٍ وَ لا ينسَى البكاءْ
منْ كانَ يبحثُ عنْ سماءْ
حطَّتْ عصافِيري عَلى خطِّ المَدى
تمتَدُّ مثلَ عيونِهِ الحبلى بمجذافِ الرَّحيلْ
ما بينَ جنبيهِ الدُّموعُ تفيضُ مثلَ الحُزنِ
تسكنُ فـي مساماتِ الوداعْ
الشَّمسُ تسألُ ظلَّ موكبهِ المَهيبْ
أينَ اتِّجاهُكَ فـي مغاراتِ الغيابْ ؟"

لاشك في أن اللعبة الشعرية – في قصائد محمد سعيد العتيق- لعبة إثارة القلقلات التصويرية في نسقها الشعري الخلاق، ذلك أن التوهج الإسنادي لبعض الصور يرفع وتيرة الحرارة والإثارة والدهشة الجمالية، فالقارئ المبدع ينوع في رؤاه ودلالاته الشعرية،ويخلق متعتها الإسنادية من خلال حساسية الشعور وعمق الحس الجمالي في اختيار النسق الوهاج الذي يحرك الشعرية،ويلون مؤثراتها الخلاقة.

ومن يدقق في النسق التصويري السابق- سرعان ما يلحظ أن الصور،تتلون بين ماهو بديهي ومألوف ومحرك للشعرية،وبين ماهو متمرد عليها إيقاعاً ودلالة،فلو دقق القارئ في الصورة التالية:[ حطَّتْ عصافِيري عَلى خطِّ المَدى/تمتَدُّ مثلَ عيونِهِ الحبلى بمجذافِ الرَّحيلْ]،لأدرك أنه أمام صور وصفية مشهدية قصصية شائقة، فهذا التلوين بين حسه التصويري الرومانسي،وإيقاع صوره المباغتة هو مايدلل على حسه الجمالي في تشكيل المشاهد المؤثرة التي تثير الحساسية الشعرية وإن اعتمد أحياناً البرود التصويري الذي يخلو من حرارة الموقف والعاطفة لينوع فسي أساليبه بين الوصف والكشف والبوح الشفيف، لأنه يدرك أن إيقاع الشعرية متنوع بتنوع المواقف والحالات والرؤى،ومدى تأثيرها على عاطفة الشاعر في بعض المواقف والحالات بين سكونية الموقف وبردودته حينا وتوتره واشتعاله بالوهج والحماس حيناً آخر،ووفق هذا التصور يملك الشاعر محمد سعيد العتيق قيمه الجمالية الخلاقة التي تتعدد من نص إلى آخر،ومن رؤية إلى رؤية مثيراً الشعرية في الأنساق المراوغة في شكلها ومنحاها الجمالي.
ومن البديهي القول: إن درجة حساسية العتيق في التقاط الصور الدهشة هي التي جعلت الكثير من صوره تتجاوز إيقاعها البسيط المتداول، لتدخل في نطاق المشهد الشعري المكثف الذي يرتكز على خصوبة الرؤى وتنامي شعريتها.

وصفوة القول: إن دراسة الصورة والحساسية الجمالية في تشكيلها في شعرية العتيق تتطلب خبرة تأويلية عالية وبحث مستفيض قد يضيق ينا المجال في هذه الوريقات الصغيرة لأنها تحتاج إلى بحث طويل ومعمق، لأن الحنكة والمهارة والحساسية الجمالية في تشكيل صوره تتطلب إقامة أكثر في مناخات قصائده الإبداعية،وهذا يدلنا على أن القيم الجمالية متوالدة في قصائده على الدوام تبعاً لحنكتها ورؤيتها العميقة.

الحس الجمالي في تشكيل المشاهد المتحركة:

لاشك في أن اللعبة الشعرية في تشكيل المشاهد المتحركة لهي المحرض الأساس في خلق الإثارة الشعرية في توليف المشاهد وخلق مثيرها الجمالي الخلاق؛ فالمشهد الشعري الذي يمتلك حساسيته الفنية الرائقة هو الذي يتكون من مشاهد متداخلة،وصور معبرة عن حجم الحالة، أو الموقف الشعوري المأزوم الذي يجسده الشاعر في لحظة من اللحظات؛ فالقيمة الجمالية في تشكيل المشاهد المتحركة تكمن في تفاعل اللقطات على مستوى المشهد الجزئي، وصولاً إلى المشهد الكلي، أو الموقف الكلي الذي يجسده الشاعر؛وهنا، تتبدى مظاهر الإثارة (البصرية/ أو المشهدية) أو (الرؤيوية) في تجسيد المشاهد المتفاعلة التي تشي بقيم إيحائية على مستوى اللقطات الجزئية، وصولاً إلى المشهد الكلي؛ ورغم أن الكثير من اللقطات التي تبدو متنافرة في الكثير من المشاهد الشعرية عند شعراء الحداثة،ولاسيما نزار قباني، نلحظ أن النوسة المشهدية، أو القلقلة المشهدية المباغتة هي التي ترتقي بجمالية المشهد، لأنه تنقله من حيز المرئي البصري أو الحسي البصري إلى حيز الرؤيا وآفاق التخييل؛ وهذا ما نلحظه أيضاً بكثافة عالية في شعر أدونيس، في ديوانه:

( تنبأ أيها الأعمى)،وديوان ( وراق يبيع كتب النجوم)، فهذه الزلزلة والقلقلة والإزاحة في نسق المشاهد الجزئية هي ما يرفع سويتها جمالياً، نظراً إلى الأفق التخييلي المراوغ الذي يثيره الشاعر في نسقه الجمالي، ولانبالغ إذا قلنا: إن خصوصية التجربة الشعرية هي التي تبدو في الإزاحة،والزوغان، في الرؤيا، والإسنادات باللغة، وتوليف الأنساق،وهندسة القصيدة؛ من بدايتها إلى نهايتها؛ وهنا، تكمن الدهشة،والإثارة الإبداعية التي يولدها الشاعر في نسقه الشعري، ليشكل جوهر الرؤيا الرؤيا الشعرية، بكل ما تحتويه من رؤى ودلالات ومؤثرات جمالية خلاقة.

ومن يطلع على تجربة العتيق الشعرية يدرك حساسية الشاعر الجمالية في تلوين المشاهد المتحركة، لتغدو قمة في الاستثارة والحراك الفني، لاسيما عندما تكون المشاهد مشكلة من لقطات واقعية وأخرى متخيلة بإحساس يفيض عذوبة ورقة، وخيالاً على شاكلة قوله:

"خلعَ النياشينَ التي تعبتْ
منَ العبثِ المخبَّأِ
فـي بيوتِ العنكبوتْ
يا بحرُ أرشدني
بخوفكَ
كيفَ تَنحسرُ
الثَّواني وَ الدُّموعْ
عُذْرُ المُهَاجرِ
أنْ يمُرَّ
كظلِّ خيطٍ
لا نراهْ
جفَّ النَّدى
فـيْ فجرِ صمتِكَ
يا صهيلْ"

لابد من الإشارة بداية إلى أن الإثارة المشهدية في تنامي اللقطات الشعرية، هي ما ترفع شعرية قصائد العتيق على المستوى الإبداعي، فالشاعر يدرك أن اللعبة الخلاقة هي التي ترتكز على مشاهد ولقطات مرئية/ ومشاهد ولقطات متخيلة، فشعرية العتيق تجمع بين الصور البصرية العينية المشاهدة/ والصور المتخيلة، ولهذا؛ تتنوع الرؤى الشعرية،وتتنوع مغرياتها،تبعاً لحساسية المشاهد، وارتقاء رؤيته الإبداعية بين ما هو حسي مرئي/ وما هو ما ورائي متخيل؛ ومن أجل هذا نلحظ ارتقاء المشاهد واللقطات الوصفية إلى منابع إثارية خلاقة تشي بها على المستوى الإبداعي،كما في هذه اللقطة المتخيلة التي تشي بعمقها ودهشتها الجمالية:

(جفَّ النَّدى فـيْ فجرِ صمتِكَ يا صهيلْ"؛ وهذا يعني أن بلاغة المشهد بما يثيره في النسق الشعري من حساسية رؤيوية خلاقة يشي بها على المستوى الإبداعي؛ وهذا يدلنا : أن القيمة الجمالية ليست في تحرك اللقطة وسكونيتها وإنما في الدلالة والرؤيا العميقة التي تطالها في المسار المشهدي والرؤيوي الذي ينبني عليه المشهد، واللقطات مهما كانت متلاحمة أو متباعدة، ففي قوله: "خلعَ النياشينَ التي تعبتْ منَ العبثِ المخبَّأِ فـي بيوتِ العنكبوتْ"؛ فهنا على الرغم مت تباعد المشهد أو اللقطة عما هو متداول ومحسوس، لكن الشاعر شعرن الحالة وأثار حراكها باللقطات الأخرى ليكون الانسجام نقطة تمحرق الرؤيا، وتكثيف الدلالة، وهذا يدلنا على أن بلاغة المشاهد الشعرية في تأسيس رؤاها الفاعلة، ومحركها الجمالي الوهاج، مما يدل على قيمة عالية في تخليق المشاهد الأخرى

(يا بحرُ أرشدني
بخوفكَ
كيفَ تَنحسرُ
الثَّواني وَ الدُّموعْ
عُذْرُ المُهَاجرِ
أنْ يمُرَّ
كظلِّ خيطٍ
لا نراهْ"

فالقارئ هنا، يدهش من هذا الإسناد الرؤيوي والحراك في الرؤى الجامعة بين صورة (الخيط) المذبذب المهتزة،وصورة المسافر التي لاتستقر على حال، فكلا المشهدين يؤثران في سيرورة المشهد الشعري، وكأن القلقلة والحراك التخييلي هو ما يجعل الحركة الجمالية مهتزة بين جانب حسي/ من جهة،وجانب تخييلي فني من جهة ثانية، وهذا ما يحسب لمشاهده الشعرية المتحولة وخصوبة ما تشي به من رؤى وأبعاد رؤيوية مفتوحة.

وصفوة القول: إن الحساسية الجمالية أو الحس الجمالي في التقاط اللقطات المؤثرة هو مايرفع شعرية المشاهد الشعرية في قصائد العتيق، لترتقي درجة سامقة من الاستثارة والتأثير؛ وهذا يدلنا على أن خصوبة المشاهد الشعرية تكمن في متحولها المشهدي،من لقطة إلى أخرى،ومن مشهد إلى آخر، على مستوى الحراك البصري،وكأن الشاعر يصور المشاهد والأحداث بعدسة مقربة تجمع بين ماهو واقعي وماهو متخيل. وهذا ما يجعل مسارب الرؤيا الشعرية لديه متنوعة تبعاً لعمق مخيلته الإبداعية من جهة وكثافة منظوراته العينية البصرية الغنية من جهة ثانية.ومن هذا المنطلق تزداد إثارة الصور المشهدية في قصائد العتيق من كثافة اللقطات وتناغمها مع الموقف الشعري.

الحس الجمالي في خلق المناورات التشكيلية الخلاقة:

لا يخفى على قارئ الشعر الحديث أن الحس الجمالي في إثارة المناورات التشكيلية الخلاقة هي ما يميز تجربة من تجربة، ورؤيا من رؤيا، وقيمة جمالية من قيمة جمالية أخرى، فاللعبة الشعرية المعاصرة هي قلقلة مثيرة للدلالات والرؤى المعتادة؛ وهذا يعني أن المعمعة التشكيلية هي التي تخلق توازنها الفني ونقطة استثارتها في القصائد الشعرية المعاصرة التي تتنامى تدريجياً من نسق إلى آخر؛ ومن رؤيا حساسة إلى أخرى؛ فالمناورات التشكيلية البليغة هي التي تزعزع النسق شعرياً، وتخلق متعتها النصية، لاسيما عندما تكسر النسق رؤيوياً، لترفع وتيرته شعر ياً؛ فكم من القلقلات الجمالية والمناورات التشكيلية قد ارتقت قصائده بها؛ ولا نبالغ إذا قلنا: إن أغلب شعراء الحداثة مهما طالت واستطالت قصائدهم لاترتقي إلا ببضع مناورات تشكيلية قليلة، قد لاتتجاوز أربع جمل في قصيدة طويلة قد تطول صفحات؛ وهذا يعني أن من يطلع على اللعبة الشعرية الحديثة يلحظ تنوع المناورات واختلاف تشكيلاتها من قصيدة إلى أخرى، وبالمقابل كم من المناورات الفاشلة تودي بالنص إلى الحضيض، بسبب فشل الشعراء في اقتناص رؤاهم الخلاقة التي تباغت القارئ في إصابتها عمق المشهد الشعري،فتأتي الصدمة التشكيلية مؤثرة في نسقها بلاغياً.

وبتقديرنا: إن اللعبة الشعرية الحقيقية هي التي تتأسس على المناورات التشكيلية الخلاقة التي ترفع سوية النص الشعري، وهذا يعني أن للمناورات التشكيلية قيمتها إذا ما جاءت في موضعها المناسب لها تماماً، أي في مكمن إصابة الدهشة والرؤيا في الصميم وإلا لاقيمة لها إن لم تكن شعرية في نسقها، محركة للنسق الشعري جمالياً، ودليلنا، كم وكم من التجارب الشعرية قد فشلت في إبراز أحقيتها الإبداعية، بسبب استكانتهم للتراكيب المألوفة والتشكيلات البسيطة التي لاتتراوح حيز المشابهة البسيطة والتقليدية لدرجة تصل المشبهات حد التشبيهات العينية البصرية البسيطة،وهذا يضعنا على محك الرؤيا الشعرية التي تقول:

إن قيمة النسق شعرياً تتحدد بفواعل الرؤيا النشطة التي تثير القارئ،وترفع وتيرة النص، وترتقي بشعرية القصيدة، كما في قوله:

عُصفورةُ الشَّمسِ التيْ
غرقتْ بشَهقِ الريحِ
تعزفُ غَصَّةَ المَوَّالِ
تستهْديْ الصَّهيلْ
وَ تطيرُ متْرَعةً بحزنِ رماحِهَا
منْ خبَّأَ السَّهمَ المُقَوَّسَ بالنَّدَى
شربَ الصَّباحَ بجرعةٍ عطشَى
وَ ريشُ النُّورِ
ينتفُهُ الأصيلْ
مازالَ وقعُ قصيدتيْ
يحتالُ دهشَتَهَا
يُفَتِّشِ عنْ غصونِ النَّارِ
يُشعِلُهَا بلونِ البرقِ
كيْ تَفنَى
وَ تلمعَ في عيونِ القطرِ
في المَطرِ الكحيلْ
تختارُ صهوَتَهَا وَ تجلسُ
فوقَ هامِ غمَامةٍ خضراءَ
تكتبُ بالنجومِ ملاحمَ
الضوءِ المُغايرِ وَ البعيدْ
تعرى لتولدَ منْ جديدْ
أرأيتَ حينَ الشيءُ
يصبحُ ملفتًا مُتَفرِّدًا
لاشيءَ يشبهُهُ سوىَ
شعرٍ جميلْ"

لاشك في أن الشعرية المعاصرة في أوج انفتاحها وتمثلها إبداعياً تتحقق بفاعلية المناورات التشكيلية التي تثيرها في النسق الشعري؛من خلال الإثارات التصويرية المواربة التي تتركها في النسق، كما في قوله:[ عُصفورةُ الشَّمسِ التيْ/غرقتْ بشَهقِ الريحِ /تعزفُ غَصَّةَ المَوَّالِ/تستهْديْ الصَّهيلْ]، فاللذة التصويرية في قوله (تعزف غصة الموال، تحرك النسق، وتزيد من جمالية المشهد الرومانسي الوصفي الذي يعبر عنه الشاعر برقة وشفافية رومانسية رهيفة؛ ولو تأمل القارئ بسيرورة الرؤى الأخرى التي أثارتها الصور الأخرى لأدرك الحنكة الجمالية التي تثيرها الأنساق الشعرية في موقعها المناسب لها تماماً على شاكلة قوله:[ المطر الكحيل/ عيون القطر/ السهم المقوس بالندى]،ومن يدقق في هذه المناورات التشكيلية يدرك حساسية الشاعر المرهفة وحسه الجمالي العالي في قلقلة الذائقة التقليدية وإثبات جمالية النص وطاقته الخلاقة.

وصفوة القول: إن اللعبة الجمالية – في قصائد العتيق- لعبة حرفنة وإسنادات جمالية ترتقي بالحدث الشعري، وهذا ما يضمن إثارتها وقلقلتها الجمالية. لاسيما عندما يكون المشهد وصفياً أوتفصيلياً أو مشهدياً متداخلاً، وهذا ما يضمن لها البلاغة والقيمة العليا في الاستثارة والتأثير في نسقها الشعري المحتد بالمفارقات التشكيلية التي تبصم بصمتها الإبداعية وتمضي في فضائها الإبداعي المميز.

الحس الجمالي في خلق الرؤيا التكاملية المؤثرة:

لاشك في أن الرؤيا المتكاملة- على المستوى النصي- هي من أبرز مؤشرات الحس الجمالي في التشكيل؛ وهذه الرؤيا ليست مجرد لحظة آنية تتشكل إبداعياً لحظة المخاض الشعري، وإنما هي قيم توالدية استمرت ونمت بعد عدد من المحاولات والتطلعات والقيم الخلاقة التي أثارتها في القصائد الشعرية المعاصرة؛ وهذا يعني قدرة النص على إثبات الكفاءة اللغوية، والنقدية، والرؤيوية التي خلقت في النص، وأثارت كوامنه الجمالية؛ فاللذة التي نشهدها في بعض التجارب الشعرية المعاصرة،ولاسيما تجربة الشعراء التالية أسماؤهم:

( فايز خضور، وأبو عفش، ومحمد عمران) والآن في الكثير من وجوهها عند شاعرنا محمد العتيق، إذ نلحظ في قصائده رؤيا تكاملية في تخليق الاستثارة في بناء القصيدة؛ فالقصيدة- لدى هؤلاء- ليست تمثيل حالة شعورية ووجودية فحسب، وإنما هي صيرورة إبداعية متحركة،ورؤى موقفية ضاجة بالمتغيرات الوجودية والتشكيلية والرؤيوية الخلاقة التي تجعل النص قمة في الكفاءة والعطاء والتميز، وسبق أن أشرنا إلى أن لذة الفن تكمن في حساسيته الجمالية التكاملية الرائقة التي يسمو بها إبداعياً، محققاً جاذبية عظمى في تلقي النص،واستثارته جمالياً.

وبتقديرنا: إن اللعبة الجمالية التي تتأسس عليها الكثير من القصائد الحداثية في مفصلها النصي هي قيمة عليا تستثيرها النصوص الشعرية في حركتها الجمالية وحراكها الرؤيوي؛ وهذا يعني أن المهارة الجمالية هي إفراز من إفرازات الحساسية الجمالية في التشكيل والخلق الفني،وهذا ما نلحظه على نحو مؤثر/ وفاعل في قصائد محمد سعيد العتيق، كما في قصيدته التالية:
·
لابد من الإشارة إلى اللعبة الشعرية الخلاقة- في قصائد العتيق- تتمثل في الرؤيا التكاملية التي تكتنفها قصائده، من حيث الإيحاء، والعمق،والشفافية،ورهافة الإسناد؛ فقارئ الشعرية المعاصرة يدرك أن اللعبة الفنية في قصائد الشعراء لاسيما شعراء الحداثة الكبار أمثال أدونيس، تتمثل في رؤيتها التكاملية الخلاقة التي تشي بالحساسية والجمال،كما في قوله:

"يا عبيدَ الموتِ يا موتَى تعالَوا هاهُنَا
رمسٌ تعرَّى منْ خِمَارِ الصامتينَ
العابثينَ الحافرينَ القبْرَ للأحياءِ
فـي أعطافِ ظنِّي
أوقِدُوا شَمْعاتِ روحِي كيْ يموتَ الظِلُّ
فِي ليلِي وَ يحيَا فجرُ إصبَاحِي المُجنِّ
يا إلهِي.. كلَّمَا فَاضَتْ
عيونُ الوجدِ عمِّدْنِي....حَليبَ الصّبْرِ
فـي فستانِ أمِّي"

إن ما نلحظه – في شعرية العتيق على مستوى فاعلية الحس الجمالي قدرة قصائده على تلوين دلالاتها، برؤية إبداعية خلاقة يستقي مظاهر إبداعها بحراك شعوري مفعم بالحساسية والدهشة والإثارة الجمالية، فالقارئ لقصائد العتيق يدرك خلفيتها الجمالية،ورؤيتها التكاملية الفاعلة، وهنا جاءت مناداة الشاعر معبرة عن حالة البث والشكوى، والقلق، والحساسية الرؤيوية الخلاقة،من خلال دهشة ماتشي به الأنساق الشعرية من دلالات اغترابية، عبر عنها بحساسية مطلقة، كما في الأنساق التالية:[ أعطاف ظني= شمعات روحي= عيون الوجد = حليب الصبر]،وهذا يعني بلاغة الرؤيا الشعرية وحساسية المنظور الشعري، الذي تثيره الأنساق الشعرية من دهشة تكاملية تعبر عن احتدام المشهد بحراكه الشعوري، وإحساس رهيف، يمتد أثره إلى نهاية الدفقة الشعرية.

وصفوة القول: إن ثمة لعبة شعرية رائقة جمالياً تلعبها قصائده – على مستوى أنساقها الشعرية- تتمثل في اقتناص الصور والتشكيلات المتفاعلة في نسقها محركة بقية الأنساق الشعرية،برؤيا تكاملية تستحوذها قصائده على المستوى الإبداعي الخلاق. وهذا ما يحسب للكثير من قصائده على مستوى فضائها النصي المنفتح.

نتائج أخيرة:

إن التشكيلات اللغوية الخلاقة-في قصائد العتيق- تتأسس على مغرياتها النصية، وهذا يعني أن قيمة القصيدة إبداعياً تتحدد بمسارها النصي الجديد؛ ومن يطلع على قصائد العتيق يلحظ أن المناورات التشكيلية تأتي في موضعها المناسب لها تماماً، وهذا ما يحسب لقصائده على المستوى الإبداعي؛ ومن أجل ذلك تتفاعل التشكيلات النسقية التي تحقق متعتها الفنية في قصائده على المستوى الفني العميق.

إن شعرية القصيدة لدى العتيق تتمحرق على فاعلية الرؤيا الشعرية التي تثير القصيدة من خلال فاعلية التشكيلات اللغوية الخلاقة التي تشي بها؛ من خلال ما تبثه من رؤى ودلالات ومؤشرات جمالية تفاعل الرؤيا الشعرية.

إن درجة الإزاحة الجمالية التي ترتكز عليها قصائد محمد سعيد العتيق- تتأثر بالتشكيلات الخلاقة التي تتنوع في مثيرات الرؤيا، وهذا ما يمنحها ألقها الجمالي.
إن اللقطة المبئرة للصور- في قصائد العتيق- تستثير المشاهد المتحركة،وبقدر تنوع المشاهد والصور تتلون الرؤى والدلالات بالمظاهر والإشراقات المشهدية التي ترفع وتيرة النسق الشعري جمالياً.

إن من أبرز محركات الحس الجمالي في قصائد العتيق حيازتها على كم وافر من الرؤى الخلاقة التي تستثير اللذة المشهدية والصور الأيقونية المتنوعة في مغرياتها ومؤثراتها الفنية. وهذا ما يحسب لقصائده في حسها الجمالي ورهافة ما تشير إليه.

وخلاصة ما ذهبنا إليه:

إن قصائد العتيق لاهبة بحساسيتها الجمالية وفكرها الجمالي المشع الذي تنفتح من خلاله على أفق جمالي محتد، لاسيما في استثارتها جمالياً للمشاهد المتحركة والصور الأيقونية المؤثرة في نسقها لتكون ذات قيمة عليا في التحفيز والخلق الإبداعي المميز.

الحواشي:

سعيد، حميد،2011- الكتابة ومآلاتها، دار أزمنة، الأردن، ص24.

المرجع نفسه،ص24-25.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى