الخروج عن النمطيّة في «عاش البلد مات البلد»
الشّاعر مروان مخّول شاعر مفاجئ منذ أن بدأ يكتب الشعر. مفاجئ لأنّه مجدّد أبدًا. نشرت له صحيفة "القدس العربي" مؤخّرًا قصيدة بالعنوان المذكور أعلاه، لفتت انتباه العديد من القرّاء لأسلوبها الفنّي والسّاخر (الايروني) وتلميحاته الذكيّة خفيفة الظل عن معاناة شعبنا الفلسطيني، وبسبب خروجه عن النمطيّة التقليديّة المعهودة لدى الكثيرين من شعرائنا.
في كتابه "عيون المرايا" يحاول الدكتور الناقد حبيب بولس ان يُعرّف وظيفة الشعر هل هي تقريب الامور للقارئ العادي والنزول الى مستواه فكرةَ وصورةَ ولفظاَ؟ أم مهمته رفع مستوى القارئ والأخذ بيده الى مستويات رفيعة ترى الى ما وراء الظاهر والعادي والمألوف. ويضيف: "إنها مسألة شائكة لم يستطع النقد النظري أن يحلّها لغاية الآن!" (ص -15).
"فالحداثة لديه هي عبارة عن خروج الشاعر بشعره عن السلفية، أي تكون رؤياه بطبيعتها ثورة خارج المفهومات السائدة" (ص – 16) ونقلاً عن أدونيس (ص – 9). ويقتبس عن بودلير رأيه "أن الشعر يجب ان يكون ذا غرابة والجميل غريب دائماً والغرابة هنا بمعنى الجدّة". (ص – 71)
أسوق هذه الاقتباسات المقنعة للدلالة على ان شاعرنا مروان مخّول نجح أيّما نجاح في الخروج عن المألوف النمطيّ الى تجديد فيه خلق كبير، على اعتبار ان الشعر إبداع أولاً وقبل كل شيء.
منذ مطلع هذه القصيدة يبدأ بإشراقة مجنّحةٍ عندما يقول:
أؤيد دولة يهودية/ من زيمبابوية الى جزر الماعز/ أسيادها من نسلٍ سماويٍّ/ تعالى على الأعراق بألفِ حجةٍ كُتبت/ على ورق الخريف
هذه البطاقة هي بطاقة دخول الى موضوع القصيدة الاساسي وهي لفت انتباه للقارئ العادي: لأنك أيها القاري ستجد في هذه القصيدة شيئاً جديداً غير مألوف لأن الشطر الأول فيه إثارة وخروج على الإجماع العربي في تأييد دولة اليهود بينما تدور كل المفاوضات حول إمكانية إقامة وطن قومي للفلسطينيين على الارض الفلسطينية الى جانب الثوابت الأخرى التي لا تنازل عنها وأولها حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة من المنافي وخيام التشرد والبؤس الى الدولة الفلسطينية المنشودة.
القصيدة مقسّمة حسب ما هو مبيّن الى ستة فصول او ستة مقاطع تبدأ جميعها بهذا الاستهلال.
ففي الفصل الأول ينسب اليهود الذين يؤيد دولتهم الى نسلٍ سماويٍ دمهم أبيض ذوو مشاعر انسانية مقابل الانسان العربي الذي يقول عنه: "أنا عبثٌ في خلايا التكاثر..." (واعتقد ان المقصود هنا هو عبءٌ)/ "جئت الى هنا عن طريق الخطأ/ أحمل زنى أهلي على كتفَيَّ/ وعلى عاتق البدو الجنوبيين جئت/ من لحم الفِلِسطو/ أنا.. لا شيْ"!
في هذا الفصل يقع شاعرنا بخطأ شائع في كلمة "لعلّني": فكلمة "علّني" معناها القاموسي أدخل العلّة في جسدي. أما كلمة "علّي" (بدون النون) فمعناها قد لا يكون أو قد يكون! هذا الخطأ شائع جداً لدى الكثيرين من كُتّابنا ولذا اقتضى التنويه!
يتابع مروان مخّول وصفه للانسان العربي بأنه لا يصلح لشيء سوى أن يكون طبّاخاً لأنه لا يدسّ السم في الدسم في صحن سيّد العمل الذي تنازل وقبِلَه طبّاخاً على مضض.
اذن نجد هنا ان روح السخرية وتسخيف الانسان العربي تصل ذروة التنكّر للذات في قوله "انا لا شيء" كما ذُكر.
في الفقرة او الفصل الثاني يعود الى نفس الإشراقة المجنّحة التي ذكرناها بتأكيده "أؤيد دولة يهوديّة/ أصلّي على النبيِّ محمّدٍ فيها/ أصلّي كما شئت لكن/ بصوتٍ قليل العلوِّ/ أصلّي.. وأدعو لهم بالخير من كل قلبي المكّسر/ كلما ضجّ السكوت/ في شرقِ نهرٍ مات ماؤُه"
هذه الصور والكنايات والرمز الشفّاف في وصفه لحكّام العالم العربي الذين يلتزمون السكوت شرقي النهر – نهر الاردن الذي جفّت مياهه حيث تضّخها اسرائيل مع مياه بحيرة طبريا في مشروع ري النقب، تعطي القصيدة زخماً وجمالاً وخفة ظلٍ!
ويضيف الشّاعر قوله: "أجول البلادَ.. بلادهم طبعاً/ أكنّس لغة الضاد من شوارع التاريخ/ فلا أوسّخ نعل الحضارات التي دخلت العاصمة/ بل وأضحك أنا الأهبل مِلء صدري عليّ/ وعلى سمرتي التي تَبْيضُّ/ إن أحوج الأمرُ/ فلا أحرج أهلي من بعدي/ ولا أخاف أو يخاف من طالعي أحد" !
إنه يعود الى السخرية لأن أصوات المآذن مُنعت من رفع الصوت بعد احتجاج السكان اليهود في المحاكم وادعاؤهم بأن أصوات الآذان تزعج راحتهم لذلك فصلاته تأتي بصوت قليل العلو!
لم يقل بصوتٍ منخفض بل يظهر هنا مدى خنوعه عندما يبالغ في وصف صوت الآذان لأنه قليل العلو!
في الفصل الثالث يكرر نفس الإشراقة منتقداً دور العمال العرب – الذين يكنّي عنهم بكلمة – "السواعد السمراء" – الذين يبنون ناطحات السحاب للسادة اليهود وللمستوطنين حتى في مستوطناتهم التي يقيمونها على الارض الفلسطينية العربية في الضفة والقطاع وهو يشبّه هذه البنايات بالخوازيق للساقطين من حيث الأبد! فمن هم هؤلاء الساقطون؟ مرة أخرى انهم نفس العمال العرب المحرومين من كافة الاعمال الحرة الا من الاعمال الشاقة الاعمال الزراعية والعمل في البناء، ولكن البناء لمن يكون؟! إنه للمستوطنات ولأصحاب رأس المال من غير العرب.
كذلك "يهزأ" من العمال العرب الذين تشويهم حرارة الشمس وتشوّههم لأن اعمالهم تتم تحت حرارة شمس الصيف الحارق. فالقصّار أسمر ومعلم العمار أسمر والبلاط كذلك حتى الطبّاخ، وقد حفظ كل منهم قصة المعراج عن ظهر قلبٍ لا ليتّقي شر الحياة الدنيا، إنما ليتعلم كيف الصعود الى جنة تحتاج طاهياً شاطراً مثلي ريثما تموت الوالدة.
إن الشاعر هنا يتمزق محترقاً على مذبح النقد الهازئ فيقلب الأمور رأساً على عقب لأنه لا يؤيد دولة اليهود الا من باب الصراع مع الذات والتمزق الداخلي الذي يقضّ مضجعه ليل نهار وهو يرى قطعان المستوطنين تعتدي على الاهالي الآمنين بينما ينام الضمير العربي في الاردن ومصر وفي كافة أرجاء الوطن العربي. هذه النقمة لا تعني بالذات ان شاعرنا يعاني من تصوّرات غيبية وسوداوية قومية ولكنه اذ يطرح هذه المشاكل والمعاناة الذاتية الوجودية الكبيرة لأنها تشمل مختلف قطاعات شعبنا العربي الفلسطيني، فإنه يفعل ذلك لأنه لا يستطيع ان ينفرد في معاناته وتمزقه المذكور لأن الانفراد قد يقتل المواهب ويوصل الى الإحباط ومن ثم الى اليأس. انه من الطبيعي ان يغيب الشاعر أحياناً وأن ينسحق مع اشياء الوجود (لا شيئيتها) الا ان غياب الشاعر الحقيقي وذي الرؤية الواضحة الصائبة لن يطول خاصة إذا ما عاد الى ذاته ليمسح احباطه بطرف كُمّه ويهزأ حتى من نفسه كما قال: "أنا الأهبلُ..." وبعدها سوف يغنّي ويتحدى ظلاّمه وظلاّم شعبه وذلك لأن دولة الظلم وسلب حق الآخر لا يمكن ان تدوم بحسب مثلنا الشعبي الذي يقول: "دولة ضلّت ما ظلّت"!
المقطع الرابع مكرّس كله لقطعان المستوطنين من جهة ولجبهة سخنين ومستوطنة مسجاف التي استولت على معظم اراضي المنطقة السخنينية وهي المنطقة التي أعلن عنها جيش الدفاع الاسرائيلي أنها منطقة عسكريّة وأنه يجري مناورات هناك من جهة أخرى! فيهزأ من هذه المستوطنة لأنها تُنير سماء سخنين بينما في الجهة الشمالية لا يوجد شيء سوى مزبلة كبيرة رائحتها تفطس الأنوف الحساسة.
واذا كان السبت مقدّساً عند الانسان اليهودي المتدين فإن هذا السبت المدّلل –كما وصف شاعرنا- يستطيع اذا ما جاء ان يُدخل اصبعه الطويل في دبر اليوم التالي أي يوم الأحد! ولذلك يهتف مع جماهير البسطاء من ابناء شعبنا "فليحيَ البلد"!
اذن ينتقل الشاعر في هذا الفصل من الشعر المنثور ذي الجرس الموسيقي الهزلي والناقم الى الشعر الموزون على البحر الكامل. والحقيقة هي أنني عندما وصلت هذا الفصل لأول مرة، التفتّ الى مَن حولي علّهم يسمعون الضجة التي أسمعها و/أو يلاحظون الكاريزما الكامنة داخل كلمات هذا الفصل.
أقول إن الشاعر لجأ في فصول قصيدته الأولى إلى قصيدة النثر التي بات استعمالها شائعًا لدى معظم شعرائنا وذلك بسبب سهولة الكتابة فيها. مع أن هذا الشعر المنثور يضج بالجرس الموسيقي والايقاع الجميل لدى شاعرنا.
إضافة إلى أنه انتقل في الفصل الأخير إلى القصيدة الموزونة على البحر الكامل الذي تفعيلاته متفاعلن (مكرّرة ست مرّات) وذلك لأن هذا البحر سهّل عليه عمليّة الانتقال من روح السخرية في الفصول السابقة إلى الجد والرّفض.
هنا يقف شاعرنا وقفة تأمل صوفية بعدما حصل له من معاناة وتمزّق وجهد فيحدّث ذاته بلغة الشكر: الشكر لكل ما ومن حفّزه للعيش الرّافض للواقع المؤلم هنا في الداخل، بل وحماه من خطر "طيور الفولاذ" التي كانت تضرب الانسان الفلسطيني بقنابلها من حين لأخر... ثم إنه في ذروة الشكر والهياج يقف شاعرنا منتفضًا على ما بدا منه وكأنّه خنوع وذل في الفصول السابقة فيستعيد شيئًا من كرامتة وكرامة شعبه وتعود روحه الوثّابة لتقدّم شكرها له على هذه الصحوة.
فهل نسمّي هذه القصيدة "عودة الرّوح"؟!
يحاول مخول هنا أن يثبت لنا ولنفسه أولاً أن من لديه إرادة فولاذيّة لا بد له من تحقيق النصر وتجسيد الامنيات. فالتجارب التي مرَّ بها علّمته الكثير الكثير من فلسفة الحياة فبات يؤمن أنه عندما يزداد عنفوان الصّراع فسوف يزداد مجد النصر.
الحقيقة أنه منذ أن قرأت الفصول الأولى من هذه القصيدة عاودتني كلمات شاعر العراق المنفي محمد مهدي الجواهري في قصيدته التي مدح بها الملك الحسين والتي مطلعها:
يا سيّدي أسعف فمي ليقول............. في عيد مولدك الجميلِ جميلا
واعتقدت أن شاعرنا مخّول إنما يقلب الموازين لولا أنه عاد في هذا الفصل إلى الكتابة الجادّة مبتعدًا عن أسلوب الايرونيا المذكور ليعود إلى ثورته على الورق، ثورته الهادئة والهائجة إلى أبعد الحدود.
أيها الأخ مروان مخّول أنت مبدع ومفاجئ وشاعر حقيقي.
لك الحياة!
كفر ياسيف
أواخر تشرين الثاني من عام 2010