الأحد ١ أيار (مايو) ٢٠٠٥
بقلم رياض أبو بكر

الرجل الغريب

قصة قصيرة

كانت هناك قرية صغير، جميلة ورائعة، تسمى قرية "الحقلاج"، هذه القرية امتلكت كل ما يمكن أن يجتذب المرء إليها، فقد كانت واسعة، بيوتها متباعدة عن بعضها البعض، متناثرة على سطح جبل، الربيع يكسوها في المواسم الربيعية وأشجار الليمون ترصف الوادي، تغذيها باللون الأخضر الزاهي، تجعل منها مشهداً يستحق الوقوف على شرفتها، بالرغم من وجود المسافات الطبيعية التي تفصل بيوت القرية إلا أن هناك جسورا قوية تربط مشاعر وعواطف ومواقف سكانها.

لم ترق أي من القرى والبلدان المجاورة للمكانة التي حظيت بها هذه القرية، فالهدوء يسكنها، والراحة النفسية والطمأنينة تعتريها، والأمن يحيا بكنفها، سكانها يعملون بالزراعة وبعضهم بالرعي، فترى كل رجل وبيده "زوادته" ويلف رأسه بكوفية بيضاء متوجهاً مع بزوغ الشمس وتلألأ الفجر إلى غرسه والى المرعى ليفلح ويزرع ويرعى الماشية، وقبل المساء حين يغالب الشمس النعاس لتغوص في عمق البحر، يرجع رجال القرية إلى سكناهم وتتوافد الماشية من رحاب السهول إلى أعالي الجبل الذي تزينه القرية.

منذ القدم وأهل قرية الحقلاج يعتادون على طقوس خاصة بهم، فيجعلون مع كل ظاهرة طبيعية وضعا خاصا بهم ولهم، ففي الشتاء يتنقلون من بيت لآخر ويقضون ليلة هنا وليلة هناك، عند هذا الرجل وعند ذاك الرجل، أما في فصل الصيف يتخذون من بُقع معينة حاضنة لسهراتهم ويتسامرون وضحكاتهم تكسوا المنطقة جمالاً فوق جمالها، فيشعلون النار التي تنثر ضوءها الباهت فوق التراب الأحمر وعلى ملامح الصخور البيضاء.

هذه القرية الرائعة، كان يسودها التكافل الاجتماعي، فلا يجوع أحد أفرادها ويشبع آخر ولا يلبس فرد ويعرى آخر، هذه المبادئ كانت من أولويات سكانها كما أن القرية اعتادت على قضاء حاجاتها من إنتاجها، ومسالمة إلى حد يفوق الحدود، كما إنها لم تكن موجهة من قبل قائد معين أو سيد أو شيخ، فلا زعيم فيها ولا عبد، إنما بعض الفوارق قد تكون طبيعية مثل الشجاعة والنباهة والذكاء والغبن.

في الليل تتزاحم هبات النسيم تسابق بعضها لكي تمر عبر القرية، فتنتظر الليل لحظة بلحظة حتى تعتري القرية وهي تحمل في جعبتها الاشتياق كالحبيب الذي ينتظر بفارغ الصبر تقلبات الليل والنهار حتى يرى حبيبته من جديد.

وفي ليلة من الليالي الصيفية وبينما كانت الضحكات والنكت الخارجة من أفواه رجال القرية تكتسح المنطقة وتصدح في السماء، قدم من الجهة الغربية للقرية وهو المدخل الوحيد لها رجل نحيف طويل القامة يرتدي لباساً لم يُشاهد من قبل الأهل قبل ذلك، يلبس قبعة سوداء حتى أن الشعر الذي يكسو ذقنه كان متناثراً ومرتباً بشكل غير ما اعتاد عليه سكان القرية.

سكت الجميع حتى أن "دلة القهوة السادة" أطفأت النار وهي تغلي دون أن يلحظها أحد.
قدم الرجل فقال:

عمتم مساءً يا قوم

رد أهل القرية:

أهلا وسهلا، تفضل واجلس

سأل خليل عبد الصمد والمكنى بأبي محمود وهو من أشد رجال القرية دقة وسرعة في الانفعال وعميق الملاحظة، حاد الذهن:

من أين أنت؟

فأجاب أهل القرية بدلا من الرجل:

دعه يجلس وسنعرف فيما بعد.

جلس الرجل وفي عينيه شيء من غموض، بساطة أم دهاء، صدق أم رياء، صباح أم مساء، كل ذا كان يستوحى من ملامحه الأولية فيبدو تارة بأنه يخبئ شيئاً عظيما وتارة أخرى يشعرك بعدم امتلاكه غير حركات لسانه، وبما أن عادات أهل القرية تستوجب أن يكرموه ويستضيفوه قبل الإلحاح عليه بالأسئلة حتى مرور ثلاثة أيام، فقد كان ذلك.

أكرموه كثيرا وأسكنوه قلوبهم غير أن قلوبهم كانت بطبيعتها تمنح العطف لكل عابر سبيل، كلما اقتربوا منه كي يستجوبوه عن سبب قدومه والمكان الذي قدم منه كلما أجاب بعبارة لم تكن تتغير وهي "هذه حكاية طويلة ولا أريد أن أشغلكم بها، المهم أنني أحببتكم ويشرفني أن أصبح واحدا منكم"

الرجل غريب الأطوار غامض الأفكار جذب اهتمام الناس به، فكلما سرح المزارعون إلى مزارعهم أو الرعاة إلى مراعيهم كلما تحدثوا به عند اجتماع رجلين أو اكثر، أحدهم يلحظ شيئا ما وأحدهم لا يلحظ، كما أن من يلحظون الغرابة في الرجل لا يستطيعون التعبير عما يجول في خواطرهم، هناك شيء هم أنفسهم لا يدركونه.

مع مرور الأيام أصر الرجل على عدم ترك القرية معتبرا أنه قد لقي فيها الملاذ الدفيء وأن فيها "ما يعوضه عن كل ما خسره" كما كان يذكر دائماً، تعاطُف أهل القرية معه كان قويا جدا فلم يترك أحد جهدا إلا وقد بذله لمساعدته، فمنهم من أمّن له مكانا يبيت فيه، ومنهم من أعطاه قطعة من الأرض كي يزرعها ويعمل بها، فشاركهم كل مناحي حياتهم.

فقد كان يشاركهم السمر ويُظهر لهم إبداعات وتقنيات جديدة في كل شيء كأن يضع "دلة القهوة" على مثلث من الأحجار ليشعل النار تحتها وقد كانت من قبل تغلي بجانب النار، والنسيم قد طرأ عليه شيء ما فغيره، فقد أصبح خجلا حين ينوي المرور على سطح القرية حيث المنطقة التي كانت تحتضن الجلسات في الليل ذلك لأنه اعتاد على وجوه محددة المعالم، ولذلك تغير مجراه ليمر عبر الوادي ليهز أغصان الشجر هناك وهو يرقب الضحكات الغزيرة من بعيد.

البسطاء أي أهل القرية أحبوا الرجل بكل جوارحهم ولكنهم يرون الظواهر الطبيعية تتغير شيئاً فشيئاً لأسباب لم يتمكنوا من تفسيرها.

هناك رجلان امتازا بموقفين نقيضين اتجاه الغريب وهما خليل عبد الصمد "أبو محمود" الذي كان يبدي عدم ارتياحه للرجل لعدم إجابته على أسئلة أبي محمود وهي من هو؟ من أين؟ ولماذا قدم ؟ و"معتاد المشرقي" الذي كان يبدي إعجابه الشديد بالرجل ويرافقه في كل مكان وقد زوجه ابنته الوحيدة والتي كان اسمها "قوامه" مع أنه قد تقدم لخطبتها الكثير من فتيان القرية لكن أباها رفض أن يزوجها لهم.

أبو محمود امتاز بشدة الذكاء وسرعة الانفعال وقد كان يعرف كثيراً من أهالي القرى المجاورة لتعامله معهم في تجارة الماشية وهذا ما اكسبه خبرة ليست ضئيلة بالبشر ومراميهم وتصرفاتهم لذا تولد لديه نوع من عدم الانجذاب والنزاع بينه وبين الرجل الغريب وصديقه معتاد المشرقي وهذا ما حدا به إلى هجر مجالس القرية والانزواء ولم يكن يُعجب للحظة بالعلاقات الوطيدة التي كانت بين أهل القرية والرجل الغريب.

كما أن أهل القرية استرسلوا في إبداء عدم رضاهم عن تصرفات أبي محمود وكانوا يقدمون الأعذار للرجل على سلوكه ويقولون: "هكذا هو" أي أبو محمود لطمأنة الرجل.
مرت أعوام على هذا الحال، الرجل الغريب يزداد نفوذاً في القرية وقرباً من الناس وأبو محمود يزداد بعداً عنهم، الغريب يقترب والقريب يغترب، وقوامة ابنة معتاد المشرقي لم تفهم ما يصول ويجول في ذهن زوجها وما يصبو إليه ولم تتعرف على أفكاره والذي اصبح يكثر من الاجتماعات والجلسات في القرية بدعوى لملمة أمورهم ونصَّبوه مختاراً لهم وكان يظهر بمظهر الحريص جداً على مصالح ومستقبل القرية. كل شيء في القرية تغير ولم يكن هناك شخص واحد قادر على تحديد هذا التغير أهو إيجابي وذو منفعة أم لا، اهو للأفضل أم للأسوأ.

اتهِمَ أبو محمود بعدم الانصياع لمصالح القرية مما جعل أهل القرية يعتبرونه عدوا للجميع، مع كل ما أحدثه الرجل الغريب من تغير فقد كان وضع القرية وملامحها من قبل أكثر وضوحاً لسكانها، ذلك انهم لا يفهمون ما يجري، الخوف والأمل في آن واحد.

وفي يوم من الأيام جرت مشاجرة بين معتاد المشرقي وأبي محمود الأمر الذي أوصل الخلاف إلى الذرة وتلك المشاجرة كانت بشأن المختار وقد اجتمع أهل القرية على أثر ذلك وقرر الرجل الغريب أي المختار إحضار أبي محمود للاعتذار من معتاد المشرقي بطلب منه، ما كان من أبي محمود إلا أن رفض الاعتذار بشدة واستشاط غضبا وبينما كان أبو محمود يتجول يوماً ما في الحرش القريب من القرية التقى هناك الرجل الغريب "المختار" وهو يركب حصاناً بحجة النزهة، وقفا أمام بعضهما البعض دون أن يجري حديث بينهما في اللحظات الأولى للقاء، ترجل المختار باتجاه أبي محمود، كانت نظراتهما حادة يواجهان بعضهما وجها لوجه كأن الدنيا من حولهما زالت ولم يبق إلا هما. النظرات المتبادلة كانت أدق وأوضح من سابقاتها، كأنها كانت تبعث ما في داخل و ذهن كل منهما، فقال الرجل الغريب لأبي محمود:

 لماذا أنت هكذا ؟

 كيف هكذا؟

 تقف في وجه مصالح أهل القرية الذين هم أُناسك

 لست أنا من يقف في وجه مصالح قومي

 بل أنت كذلك

غضب أبو محمود سائلاً: من أنت؟ ومن أين قدمت؟ ولماذا؟

فرد الرجل:

 هذا لا شان لك به

ازداد غضب أبي محمود، وجهه احمرّ كثيراً

أجبني أو ..

الرجل ينظر لأبي محمود بازدراء -أو ماذا؟

تنهنه وتنهد أبو محمود قائلاً:

 إذن أنت غر…

وفجأة أخرج الرجل الغريب من معطفه الأسود مسدساً وأطلق رصاصة بالقرب من الجانب الأيمن لأبي محمود، مما أذهله فلم يعتد أهل القرية على رؤية شيء كهذا من قبل.. فالسلاح عادة ما استخدموه لدرء خطر الخنازير عن الحقول.

كان أبو محمود جريئا ولم يرتدع و استمر في توجيه السؤال نفسه وقال:

 أنت أم ….

وقبل أن يكمل أطلق الرجل الرصاصة الثانية كادت أن تطيح بهامته حيث اقتربت ومرت بالقرب من رأسه.

بقي أبو محمود يتوق لمعرفة ماهية الرجل وقال:

 أنت إس …..

كانت تلك الحروف الأخيرة التي خرجت من فمه، فقد اسقط الغريب عليه الرصاصة الثالثة والتي كانت هذه المرة في القلب، أوقفته عن الكلام وتفجر دمه ينبوعا على قميصه الأبيض الملطخ بوحل الأرض، ركب الرجل حصانه قاصدا القرية وتسجى أبو محمود بين صخور الحرش ينزف، غادرت أنفاسه القرية وفارقت روحه الحياة، ربما من أجل الحياة.

قصة قصيرة

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى