رسالة عبر بريد الظلام
كثيرةٌ هي الألوان، من الفرح إلى الأحزان، لون سجنٍ وسجان، لون قهرٍ وحرمان، لون غدر الزمان، لون الدنيا في نظر العميان، لون تجبرٍ وطغيان، لون متيقظ غرق في النسيان، لون البحر ماتت كائناته والمرجان، لون صدق ميت ظمآن، لون صخرٍ بات في الدجى العريان، لون طير غادر إلى غير مكان، لون الأسود تأكلها الفئران، لون قمرٍ أسقطه الدوران.
هكذا كان لون الدنيا في مقلتي رمزي، حيث عاش الحزن بين أطرافه، وكان يتساءل دوماً: هل أنا الأوراق المبعثرة على جدران حائط في بيت خلا من السكان؟، أم شجيرة وسط صحراء لم يسقها إنسٌ ولا جان، أم الدموع الغارقة في عيون أطفالٍ يتامى، أم فوهة بركان.
تصدّع قلب رمزي الطيب، وانحنى جسده ناراً أطفأها المطر، أصبح مدينه زوارها ليسوا البشر، وغابة أنهارها عِبر، ونحتاً قائماً على حافة حجر، صرخ بوجه الدنيا: ماذا أقول وعلى فمي ارتكزت الكلمات؟!، تخاف الخروج والزلات، هل أنا بالذات أم العالم كله ويلات؟!، ماذا أقول وقد نزلت قدماي في المتاهات؟!، هل كنت أحيا لأموت كلّ يوم؟!، هل كنت أحيا ليقتلني اللوم؟!، أم كنت أحيا لأُقتل بحلم غارق بالنوم؟!، ما ذا بعد يخبئ الزمان لي؟، أهل بعد موتي سيهدم القبر؟!، ويرسم دمائي على حائط الدهر، يعزيني أنني أعيش تحت مظلة الإله صانع القدر.
عندما تصنع صوتك الحزين الممتلئ بكآبة الواقع والمغَطّى بحزن السنين لا تجد صدًى لهذا الصوت ولا سمعاً، الكلّ من حول رمزي الشاب المخلص الوفيّ قد تخلوا عنه، فالصداقة والعلاقة جلها تتوثق ويقوى موطنها حين تحتاج للتضحية، ولكن زمان التضحيات قد غادر والمروءة أصبحت في طي الذكريات ومات يومٌ قد أعزنا وسقطت أوراقنا والبطاقات.
ضاعت شرفات منزل رمزي، وماتت كلّ روحٍ كانت تعشق زهر الرمّان وتعيش في ساحات البيت المتواضع، سُرقت الفرحة من شفاه الطيور التي كانت تضرب جرس الصباح، ولم يبقَ في المكان ما يوحي ببقاء الحياة لبشرٍ أو طير أو حتى لحشرة.
أُجبرت الأرض على حمل الوحوش وفقدت الياسمين ورقّة النرجس على حافة الصخر النديّ؛ فماتت أشجارها وباتت صفراء كالصحراء، اختطفوا منها معانيها، فهي أسيرةٌ بين أيديهم، والأرض والبيت ذهبا ذهاب الرياح، وغادرت الطيور موطنها وغادرت المياه مجراها، وغادرت الأزهار الأتربة التي تغذيها.
فالسمعة الحسنة والرائحة الطيبة التي كان الشاب رمزي يبعث بها على من حوله ضاعت بين أرجل أبناء عمّه وتقطعت أوتار أحلامه، استطاعوا اللعب في عقول الناس وإقناعهم بأن البراءة كانت مجرّد غطاء تستتر من خلفه أنياب رمزي وأسرته، استطاعوا أن يغيروا المواقف وأفقدوه الأمن وزينة الروح.
ذاك البيت الصغير احتوى بأروقته عطفاً وحباً كانا يميزان الحياة الريفية القديمة وقد اكتست جدرانه بطين الوفاء ولبنة الأخوّة، فقد عاش والد رمزي مع أخيه ساجد - عم رمزي الذي كان يلقب بأبي دمعة - بساطة الحياة وجمالها الحقيقي بعيداً عن التزوير والتزييف وقد كان لعمّ رمزي من العمر ما يزيد أباه بخمسة أعوام جعلت الأكبر معلماً وهادياً للصغير، وجده قد رباهما على حبّ الأرض وغرس الزيتون وجني ثمار السهل في الصيف، علمهما كيف تكون حبّات العرق وسيلةً لتقاسم العيش، كذلك كان حبّه لولديه عظيماً ويخاف عليهما من كلّ هبّة ريح.
العلاقة التي تربط والد رمزي بعمّه وطيدة وهي بغنًى عن الوصف وأبلغ من الحروف، وقد تعدت الأخوة إلى الصداقة والجيرة، فوالد رمزي كان مستعداً لدفع حياته ثمناً لمساعدة أخيه في ضيقه ولم يألُ جهداً ليسانده في مجابهة مشقات الحياة ولم يرضَ أن يتركه وحده في معترك الزمن ومأساة الحياة، اثنان كانا ينبضان بقلبٍ واحد، لكن أبا رمزي انزلق لدى مفترق الحياة ليعيش في متاهات الفقر، وبرغم ذا فقد دفع بأخيه نحو الحياة الكريمة ومنحه كلَّ ما يمكن للمرء أن يمنح أخاه، هي تلك البساطة التي توسّدت عليها حياتهما، ومع كبر السن ومسير قطار الزمن اختلفت المبادئ وتدفقت الكآبة والشرور إلى مسكنهما، كانت زوجة العمّ ساجد الذي يملك القلب الطيب الظريف والعطف والصوت الحاني على أبي رمزي إحدى قريباته وتدعى دلال.
قد كان لأبي رمزي إعاقة دائمة في يده اليمنى بسبب قيام أحد زملائه في المدرسة بضربه عليها وكنتيجة لذلك ترك دراسته منذ الصغر وأخذ يتجول بعربة بيع الذرة بين أروقة الحارة وسوق البلدة وعمّه تاه في طريقٍ مظلمٍ جرَّ عليه الفقر والحاجة بعد زواجه وقد أنقذه أخوه الأصغر وأمّن له بيتاً وأرضاً بغية تسديد ثمنها بالتقسيط وبذلك كان بيت رمزي وبيت أسرة عمّه متلاصقيْن يفصلهما جدارٌ رقيق.
اتسمت دلال بالشراسة والعنف ذلك لأنها انحدرت من أسرة تقتني الحقد والكراهية والنميمة في جنبات بيتها، وأخذت تلك المرأة الشريرة بشدّ يدي زوجها العمّ ساجد نحو الظلم بتزييف الوقائع له وقلب الحقائق وقد وقع ذاك القلب الطيب رهينةً في راحة الشريرة، وتحوّل العمُّ إلى إنسانٍ سريع الانفعال تأخذه الكلمة وتسرح وتدور به أرجاء الأرض، ونجحت الريح في تفتيت صخر الأخوة، وبعد نشوء الأسرتين إلى جانب بعضهما البعض حيث كان لساجد بعد زواجه بخمسة وثلاثين عاماً اثنا عشر ولداً نصفهم ذكور والنصف الآخر إناث، ولأبي رمزي تسعة أبناء خمسة أولاد وأربع بنات كان رمزي ثالثَهم سناً.
قد جعلت دلال أمام عينيهما تدميرَ البيت الواحد موجَّهةً بذلك من قبل أبيها وأخوتها، ولم يرُق لها بقاءُ العلاقة مع العمّ ساجد وأسرة شقيقه رائعة جميلة، فبرغم حبّ أسرة رمزي الشديد العميق لعمّه واحترامهم الفائق له، إلا أن أبناء عمه ساجد كانوا على العكس من ذلك، إذ بدأ الحقد بالتراكم في قلوب أبناء العمّ ساجد وأضحوا يخبئون في جوفهم الغضب على أسرة عمّهم ماجد – والد رمزي - بلا مبررٍ أو دوافع سوى أن أسرة ماجد تقدمت على أسرة العمّ ساجد بالأخلاق والقيم النبيلة والسمعة الرائجة، فساجد عمل كسائق سيارة أجرة وكان حاله ميسوراً بالمقارنة مع حال شقيقه ماجد التي شكّلت مضرب أمثال الفقر، إذ أن والد رمزي عمل عاملاً عتالاً بظهرٍ منحنٍ حتى أن بعض نساء الحي كانت تصفه بالنصف إنسان.
أكلت صروف الدهر من جسد أبي رمزي وحبات العرق كانت لا تفارق جبينه مختلطة بغبار الشوارع والإسمنت والرمل، لكنه وفّر لأسرته البريئة أسباب البقاء برغم صعوبة ذلك، وما كان يحققه لأسرته بات مثاراً للحسد من قبل أبناء العمّ الذين دفعوا بوالدهم لإفقارِ أسرة عمهم وحرمانها من الحقوق المشتركة كميراث وغيرها.
أسرة ماجد أسرةٌ بسيطةٌ ضعيفةٌ لا حول لها ولا قوة وحُرمت من أدنى مستوًى من متطلبات الحياة، أفرادها مرسومةٌ دموع الحزن في أوجههم، يقاومون الحياة ويأبون الاستسلام وكانوا يعتبرون بأن الإنسان يكفيه أن يكون إنساناً حتى يستحق العيش وكانوا يحلمون بغدٍ مشرقٍ ليتخلصوا به من براثن الفقر وهجمات الانهيار، وأحلامهم متواضعة قد يملكها أي بشر، فالثقافة والعمل والأخلاق كانت رموزاً لهم ومصابيحَ تنير الدجى المظلم، وأعينهم مكسورةٌ لا تنظر إلا إلى التراب الأسفل حين يقفون أمام الغير خاصة الكبار منهم.
لم يرضوا أبناء العمّ ساجد بأ
ن يتقاسموا الخلقَ العظيم مع أبناء عمهم ماجد، بل امتهنوا العربدة والتمرّد ضد جميع الناس من سلبٍ وضربٍ ونهب، وعزلوا الأخلاق الحميدة من مبادئ الحياة، وأبوهم لم يأخذ حقَّه الكافي في تربيتهم بقدر ما ملكت أمهم، فلم يحترموا كبيراً أو مسناً أو صغيراً أو قريباً حتى أن أباهم تعرّض للضرب والبطش بأيديهم وكان الناس يلتفون عليهم لإنقاذ أبيهم من سكين بيد أحدهم أو عصا، ويذكر رمزي أنه رأى عمّه ساجد يذوق الضرب المبرح من قبل أبنائه علناً أمام المارة.
الصفات التي ملكها أبناء عمّ رمزي خاصة كبيرهم " سامي " فاقت كل حدود السوء، وقد كان لأقرباء زوجة العم ساجد الأثر الأكبر في زرع تلك الصفات السيئة، فالعم ساجد كان عاطفياً تتغلب عاطفته على عقله وكانت امرأته تتلذذ في رؤيته ممتثلاً لأوامرها في إثارة نزاع أو الدخول في شجار محتدم.
الصفات العكسية التي تحلت بها أسرة ماجد عن تلك التي حملتها أسرة أخيه جعلت من أسرة الأول أناساً مستعدين للتنازل عن أي ثمن في سبيل تجنب الشر والخوض فيه، وقد كان أشقّاء رمزي يدركون الحسد والغيرة في عيون أبناء عمهم عندما يتمكنون من تحصيل أعلى العلامات والدرجات في مدارسهم، فقد حصل رمزي على الدرجة الأولى بين ذكور المحافظة في الثانوية العامة" التوجيهي " بامتياز وقد كان مثل هذا الأمر حدثاً مؤسفاً بالنسبة لأسرة عمه وقض مضجعهم.
رمزي: لا نعرف أسباب قسوة أبناء عمنا علينا ومكيدتهم، أهل هي بالفطرة أم مكتسبة؟!.
عندما كبر رمزي التحق بأفضل الجامعات في فلسطين وبسبب تفوقه حصل على منحة دراسية تعفي أباه من دفع رسوم الجامعة، أضحى رمزي يحس بقدرته على التحوّل إلى فردٍ فعال في سبيل خدمة المجتمع وقضيته الفلسطينية العادلة وشعر أن باستطاعته أن يتعامل مع أكبر الأمور وأصغرها، فقد سكن في مكانٍ قريبٍ من الجامعة في رام الله حيث تبعد عن بلده الأم في محافظة جنين شمال فلسطين، وغَرُب وجهه عن بلدته التي لم يستطع الذهاب إليها إلا مرة كل شهر تقريباً، ولدى احتكاك رمزي واختلاطه بالغير من مختلف الوجوه بدأ ينظر إلى الماضي الذي عمّق الهوة بينه وبين أقاربه وعزم على تعزيز الروابط مع الأقارب والجيران بشكل قوي؛ ذلك لأنه وجد أسباب العداء لا تستحق القطيعة وإن كانت في بعض الأحيان حادة، أراد رمزي أن يفتح صفحةً بيضاء وأن يصلح ما أفسدته الأيام، لذا عندما تخرج من الجامعة وجد نفسيه بلا عمل حيث الأوضاع الاقتصادية بعد الانتفاضة صعبة للغاية ولا يعمل إلا من يعتمد على مقربين له من الحكومة ورؤوس الأموال، فلم يكترث لحاله من يملكون المراكز الحساسة بسبب انحداره من أسرة فقيرة لم تكن ذات قيمة عند هؤلاء.
فكّر رمزي ملياً وقرر أن يشارك أبناء عمه همومهم وأن يساعدهم في أعمالهم، ما أثار استغراب العديد من الجيران وأهل البلدة بسبب معرفتهم التاريخية بالفوارق بينهم، فقد شاركهم كلَّ مشقة من بناء البيوت وصناعة الفخار وكأن روحه أصبحت مسخرة لأبناء عمه ساجد ولخدمة مآربهم، وفرش قلبه آنذاك على طبقٍ من ذهب ليقدمه لأبناء عمه الغير مخلصين.
كان رمزي يقول دائماً: حقاً أحببتهم بلا وعي. لكن بعد مضيّ زمن ليس طويلاً على العلاقة المميزة، منح رمزي عقله جزءاً من المساحة كي يقدر تلك العلاقة خاصة بعد أن أوقعه أبناء عمه في معضلات عدة نتيجة اعتدائهم على الغير، لذا بدأ بالتراجع لا سيما وأن أبناء عمه ساجد لم يثمنوا معروفه لهم بل قابلوه بالشتائم والأذى والإساءة وكأنهم كانوا بانتظار الدقيقة التي يمكث فيها رمزي تحت إرادتهم، وبدأ رمزي حينئذٍ يدرك أسباب الخلاف الذي طال وكبر بينه وبين أسرة عمه ساجد، فوجد ذاته في مواجهة عقولهم وفكرهم وثقافتهم التي تحبذ السيطرة والزنا وجميع سبل الشر.
وما كان يزعج أبناء عم رمزي هو محبة أبيهم له ولأخوته والذي بذل كل ما يمكنه من أجل تأمين وظيفة لرمزي بعد أن تخرج من الجامعة، يوماً بعد يوم بدأ الحقد لدى أبناء العم ساجد يطفو على السطح بعد أن سئموا من التمثيل بإنسانيتهم وولج التناقض والنزاع إلى أوسع أوجهه، وتغير مجرى العلاقة التي كانت تربط رمزي بأسرة عمه ولم يكن ذلك لأسبابٍ مادية، بل الاختلاف جلّ الاختلاف في الأفكار والمبادئ، فهم يتفاخرون بالسمعة السيئة والبطش بالناس ولا يحترمون أبا رمزي الذي هو عمهم، وكانوا يرون العالم بوجه المال فقط ولم يقدروا المعروف الذي أسداه رمزي لهم وعملوا على سكب نظرتهم للكون في ذهن رمزي لكنه أبى ذلك ما أدى إلى اتساع الهوة.
بدأت أسباب التشتت في الماضي تتمثل نصب أعين رمزي، وقد تحالف أبناء عمه مع أقرباء أمهم ضده، وبدءوا يفسدون حياته واتخذوا من النميمة عصا يضربون بها على سمعة أبناء عمهم ماجد، ولم يراعوا ما يعانيه رمزي منذ الصغر من فقرٍ مرير وأزمنة بائسة، على العكس من الرغد والترف الذي سكن بيوتهم.
كان يسئ أبناء عم رمزي وزوجته دلال شدة مقاومة أسرة عمهم ماجد وصلابتها أمام سيل القدر الجارف، رمزي كان يخبر أشقاءه: لا أستطيع الجلوس على كرسي في مطعم أو مقهًى من المضايقات التي أتعرض لها من النادل أو صاحب المقهى وهو يرمقني بازدراء لعدم طلبي فنجان قهوة، ذلك لأنني لا أملك ثمنها فيقول النادل لي: اللي معوش بلزموش.
لم ترُق الحياة ولم يلقَ رمزي ما يرسم بسمةً على شفاه أسرته التي تعيش الكفاف بعينه، لكن على أي حال العمل غير متوفر وأبناء عمه أصبحوا أعداءً له، لذا بدأ يبحث عن بعض الذكريات الجميلة كي يعيد ترميمها؛ فكانت مع أسرة جده طالب والد أمه، إذ قضى معهم أجمل أيامٍ حين كنت صغيراً، ذلك لأنهم يعملون بالزراعة وقد كان رمزي يحب البر والطبيعة ويهوى صيد الطيور والبحث عن أعشاشها، فقد كانت الطبيعة تسري كمجرى الدم في عروقه.
بعد أن عمل رمزي يوماً شاقاً مع أبناء عمه في زراعة الفاصولياء، حزن كثيراً حين قوبل بالشتائم من قبلهم في لحظة كان ينساب العرق من جبينه، فتركوا بعضهم وبعد أن علمت أسرة جده المكونة من جده وابنيه - سائد وعاهد - وأسرتيهما بمقدرة رمزي على زراعة الفاصولياء عرضوا عليه أن يعمل معهم مقابل أجرٍ زهيد جداً، فقبل ذلك.
تفاقمت عداءات أبناء عم رمزي ولم يبقَ منهم من يمكن التحدث معه إلا أبوهم، لأن رمزي لا يملك سوى أن يحني رأسه وهامته احتراماً لعمه، لكنّ حقدَ أبناء العم ساجد وأمهم دلال الشريرة بدأ بالترجمة إلى تصرفات تهدف إلى الإطاحة بأسرة رمزي معتبرين أن أم رمزي هي التي جعلته يعمل مع خاله ويترك أبناء عمه، فقد حاولوا خلق العديد من الذرائع لمهاجمة أسرة عمهم ماجد بغية تكسير عظامها وضربها وإيذائها جسدياً لأن الكلامَ لم يعد يسد رمقهم.
ففي يومٍ من الأيام دعا سعد- أحد أبناء عم رمزي وهو الأوسط سناً – رمزي إلى الحضور إلى بيتهم بهدف تجنب قتلٍ قد يقوم به بحق أسرة رمزي؛ ما أذعر رمزي وأخافه، فقد كان يتهرب من الخوض في أي حديث من هذا القبيل وقد كان تهديد سعد مستنداً إلى ما رُوي عن أم رمزي بأنها تذكرُ أسرة ساجد بالسوء، ما كان من رمزي أن اعتذر لأسرة عمه مع علمه أن أمه لم تتسبب لهم بأي أذًى منها أو من أشقائه، ولكن ذاك السلوك من رمزي كان لتجنب الشرر الذي يتطاير فوق أهداب أبناء عمه الذي اعتبروا أن رمزي آخر من يمكن التفاوض معه من أسرة ماجد، وعبّر رمزي لهم عن استعداده لدفع كلّ ما يترتب عليه إن تعرضوا لأذًى من قبل أخوته.
]
ففي كلّ يوم كان أبناء ساجد يبتكرون محاولةً جديدة للنيل من رمزي وباقي أفراد أسرة ماجد، لكن بعد ذاك النزاع القروي السخيف والمعارك التي لا مبرّر لها، حصل رمزي على عملٍ في مجال شهادته الجامعية في مدينة رام الله التي كان يدرس فيها وبعيداً عن بلدته في جنين التي لا يمكن أن يبقى ساكناً فيها نظراً للمسافة التي تفصلها عن العمل.
رمزي" أخيراً سأخرج من ثوب الفقر والمعاناة، أخيراً ستضحي أسرتنا كباقي الأسر، أخيراً سننجو من براثن الظلم والقهر"، هكذا اعتقد رمزي حين وجد عملاً وسرح في حدائق أحلامه البسيطة، وصدحت أصداء فرحته في كلّ وادٍ أحببه وعلى أغصان كلّ شجرة عشقها، فأحسّ بأن أرجله ستستطيع حمل جسده المتهالك، لكن هل سيفرح حقاً ؟!!.
شهرٌ واحد قد مضى على استلام رمزي للعمل في مؤسسة طبية، كان ذاك شهر رمضان المبارك، ينتظر رمزي العيد بكل تشوق مبتسماً في ذاته" لن تهزمي يا عيد هذه المرة، بل سأشتري لي ولأشقائي وشقيقاتي كل ما حلموا به، لا يا عيد ستكون غير كلّ من سبقك من الأعياد".
بعد مرور عشرين يوماً من شهر الصيام ومن العمل أي قبل تقاضي أول راتب، سأل زميلٌ لرمزي في العمل عن موعد زيارته لأسرته فأجاب رمزي بأن ذلك سيكون في نهاية الشهر، لكن الزميل ذكّر رمزي بروعة أن يتناول ولو وجبة فطور واحدة مع أسرته، لذا قرر أن يجد لرمزي مبرراً لذهابه إلى البلدة، وبذل كلّ ما بوسعه من أجل إقناع مدير المؤسسة بذلك، ومع نفاذ كلّ المبررات التي اختلقها الاثنان، إلا أنهما وجدا واحداً هو أن في بلدة رمزي عملاً مع أحد الأطباء يمكن إتمامه من خلال زيارته إلى هناك، وكانت الظروف تصاغ من خلف رمزي لينتظره حدثٌ ما.
سافر رمزي في اليوم التالي إلى بلدته ووصل متأخراً وقت الإفطار بسبب الحواجز الإسرائيلية على الطرقات، فوجد أسرته كان همٌّ يدور بها، لكن حاول الجميع إسعاده وعدم البوح له، فسألهم عن أخبارهم وعن أسرة عمه وعن جميع الأقارب والجيران، وتعمق في سؤاله عما إذا تصافحوا مع أسرة عمه لأن رمزي أراد أن يسامح أبناء عمه إن تخلوا عن ظلمهم وقهرهم لأسرته، لكن لم يكن ذلك، بل على العكس فقد توجه إلى بيت جده أبي ساجد ليطلب منه السماح على غيابه عنه، وقد استقبله جده بالدموع التي أغرقت قميصه الأبيض لأن لقاءهما كان بعد حوالي سنة قرر رمزي ترك جديه فيها بسبب اتهامهما له وبشكل غير معهود بسرقة بيتهم، وقد اعتذر جد رمزي وجدته عن ظلمهما لحفيدهما وشرح رمزي لهما عزة نفسه آنذاك التي لم تقبل الظلم أبدا، وفجأة دخل أحد أفراد أسرة العم ساجد وكان ذاك سعد، فقام رمزي ليسلم على ابن عمه لكن الثاني قابل رمزي بكلمات عنيفة: أمك .. سأقتل … آخر مرة.
لم يفضل رمزي الخوض في المشاكل حتى لو بهدف حلها ذلك لأنه تمتع بطبيعة بسيطة جداً، حتى إذا تشاجر اثنان أمامه يحس بأن ذاك كارثة عظمى، فخاف من مناقشة ابن عمه في الهراء الذي يتمتم به وخرج قاصداً السوق في الليل حزيناً مستاءً من استمرار الرغبة لدى أبناء عمه في إثارة الفتن، حتى حين رجع رمزي إلى البيت لم يسأل أهله عما تحدث به ابن عمه.
وفي صباح اليوم التالي كان رمزي على اتفاق جرى في الليل مع أصدقاء له لقضاء نزهة في الطبيعة والسهول والحرش القريب من البلدة، فوجدوا في طريقهم دبابة عسكرية إسرائيلية أطلقت النار عليهم فهربوا ولم يرُق لهم التمشي في الحقول ورجعوا إلى شرفات البلدة قبل صلاة العصر، فاقترح رمزي اقتراحاً يقضي بذهابه إلى الطبيب الذي يودّ العمل معه وعسى أن اليوم التالي سيكون أكثر أمناً للنزهة ليرجع بعدها إلى مكان عمله في رام الله، وبالرغم من إصرار أصدقاء رمزي على عدم تركه لهم، إلا أنه أقنعهم بكون ذلك لاستغلال الوقت الضيق، وكأن القدر يسير به إلى حيث يريد.
في طريق عودة رمزي إلى البيت وقبل أن يصله بأمتار وإلا بخاله عاهد يقف على شرفة منزله القريب من بيت رمزي وبيت عمّه ساجد أيضاً، فدعا خال رمزي ابن أخته بصوت مرتفع للتوجه إليه، وقد كان ذاك اللقاء الأول بين رمزي وخاله عاهد منذ أن وجد عملاً، ما جعله يسرع إلى تلبية نداء خاله، وفي طريق رمزي إلى خاله تمتم بعض الأطفال الصغار بوجود خلاف أو مشكلة لم يتعرف رمزي عليها بعد، فتصافح الاثنان بحرارة، كان عاهد يريد أن يخبر رمزي شيئاً ما لكنه تردد في ذلك، وكانت نظراته غير المعتاد، فدعا رمزي لتناول وجبة الإفطار معهم تلك الليلة، فقبل رمزي بذلك، لكن رمزي أخبر خاله بضرورة أن يذهب إلى بيته فأصر عاهد على أن يبقى رمزي معه، لكن رمزي جعل له عذراً بضرورة خلع ملابسه المتسخة واستبدالها بأخرى، ما كان من خاله عاهد إلا أن تركه وشأنه على أمل العودة بعد ذلك.
ارتدى رمزي ملابسه بغية الذهاب إلى الدكتور لقضاء العمل المناط به من قبل المؤسسة التي يعمل لديها، لكن خاله الذي كان يملك قلباً طيباً بالرغم من تهوره ورداءة تصرفه أحياناً قد أعلمه حين كان يعمل لديه قبل أشهر من اللقاء من تخوفه من تغير طباع رمزي وبأن التعالي قد يجتاحه حين يحصل على وظيفةٍ على غرار تصرف أبناء شقيقاته الأخريات، ومن أجل ذلك أراد رمزي أن يثبت لخاله عاهد العكس وأن يكون عند حسن ظنه؛ لذا لم يستطع الفرار من الوعد الذي قطعه له بالرجوع.
لدى لقاء رمزي بأسرته بدا له وكأن هناك سراً لا يريدون إفشاءه، وبعد الخروج بعشرة أمتار من باب منزله نادت شقيقة رمزي لتطلب منه شراء بعض الحاجيات من السوق وقد مرّ آنذاك أحد الكاشحين من أقرباء أبناء عمه من طرف أمهم ونظر إلى رمزي بعين يتكدس الحقد في أطرافها، لم يكترث رمزي لذلك وعندما وصل منزل خاله ليخبره بأنه سيعود بعد قضاء عمله، لم يجده، فأخبر أبناءه بذلك.
عندما قطع رمزي مسافة ليست بالطويلة من منزل خاله إلى السوق، نظر خلفه فوجد خاله يسير بخطوات هادئة كأنما أفعى تنساب بين السنابل، وما أثار استغراب رمزي وتعجبه عدم إيماء خاله عاهد له أو دعوته بالتوقف للسير معه، فانتظره، تبادلا الحديث والضحكات وقد اطمأن عاهد على حال ابن شقيقته رمزي ووضعه في العمل وأخبره بأنه يودّ الذهاب إلى السوق لشراء الأعلاف للماعز، وبينما كانا يسيران باتجاه الدكان الذي كانا يرتادانه للشراء، كان رمزي متذمراً من الوقت الذي سيضيع قبل إتمام العمل مع الطبيب الذي على مقربة من ذاك الدكان.
الأيدي متشابكة وعاهد يوزع ابتساماته على المارة، واجتمع مع رمزي بعد افتراق لبرهة قصيرة مع أصدقاء كل منهما، وتابعا المسير، وفجأة دفع عاهد ابن أخته رمزي عن يمينه دفعة كادت أن تمرّغ جسد رمزي بغبار الإسفلت، فقد رمزي صوابه ولم يعِ ما يدور، وصرخ خاله عاهد منادياً: أبا دمعة_ أي العم ساجد_ ... توقف ...... سأقتلك الآن، وقد كان عاهد متجهاً باتجاه عم رمزي والذي لم يره بسبب شرذمة فكره وتصويب نظراته باتجاه خاله المندفع كالبرق، وقد كان عاهد يحاول إخراج شيء ما من تحت قميصه، حيث كان منجلاً حاداً، ففي ذاك الوقت تذكر رمزي هراء الأطفال الذي لم يكن آبهاً به عن مشكلة حدثت بين أسرة عمه ساجد وأسرة خاله عاهد، أُصيب رمزي بالذهول والخوف والارتباك، وهرع ليمسك بخاله مما جعله يستشيط غضباً ويدعو رمزي للتنحي جانباً لكن رمزي أمسك بخاله بشكل متين وهو يرجف ويدعوه لعدم المس بعمه ذي القلب الرقيق حتى أن الخال عاهد أضطر لحمل الحجارة بعد فشل مفعول المنجل، وقد أزعج رمزي كثيراً أن يُشتم عمه أمام جموع الناس الذين احتشدوا وكل ذلك لم يرَه.
اعتقد رمزي أن الحشود المتجمهرة تمسك بعمّه ساجد من جهة وخاله عاهد من جهة أخرى، تلفت عاهد حوله وهو يلقي على رمزي بالذم ما أخاف رمزي منه حتى اعتقد أن خاله قد يضربه بمنجله الأحمق، فأضرر للصراخ لردعه عن إلحاق الأذى بالعم ساجد، والمتجمهرون لم يساعدوا رمزي في رد خاله ووقفه عن جموحه، وبعد أن وقف رمزي بوجه خاله عاهد فوجئ به مسرعاً إلى حيث المكان في الخلف، حينئذٍ رأى رمزي عمه للمرة الأولى يجري مع ابنه الأصغر والذي لم يتجاوز العشرة أعوام وبعد أن حاول خال رمزي ضربه بالمنجل، وتلك كانت المرة الأولى التي يراه بذاك الحجم من الغضب ولم يعِ منه إلا بضع كلمات تلخصت في شجار ما وهجوم وضرب وغيرها.
هجم عاهد باتجاه العم ساجد كالنسر المنقض على فريسته وبسرعة البرق، ذُعر رمزي ووقف لأنه لم يبقَ ما يستطيع فعله، ووضع كفيه على وجهه معتقداً أن حلماً يعيش به سرعان ما سيتبدد، فوقف الخال منادياً العمّ ومقابلاً له وجهاً لوجه، فهرب عاهد وبيده المنجل الشرس.
بومضة لم يرَ رمزي أسرع منها وبضربة شريرة كم تمنى رمزي لو مات بها، ضرب خاله عاهد عمه ساجد بخاصرته وصاح الاثنان، عاهد: قتلته، ساجد: قتلتني، وتلفت الخال بنظرة ارتكبت جريمة بحق البشر كلهم، وتمايل جسد ساجد في الهواء ليُطرح أرضاً، وصرخ ابن عم رمزي الصغير: أبي ..أبي، واحتشد الناس، ركض رمزي مسرعاً نحو عمه: لا ….لا….لااااااااااا، صرخ، حين رأى الدم بأم عينيه يتدفق من جسد عمه الغالي، وأمسك بابن العم محتضنا إياه: ماذا حدث أيضرب خالي عمي؟!!، متى سأصحو من هذا النوم المزعج.
حمل الناس العم ساجد ورمزي يلطم على وجهه والسوق مقتض بالحضور، حاولوا إدخاله إلى سيارة متواجدة في المكان، بذل رمزي جهده كي يدخل السيارة لكن كان العشرات ممن اصطفوا يودون أن يشاهدوا ما يجري، وسمع رمزي أحدهم يقول:ابتعدوا… ابتعدوا عن السيارة كي تمر..إنه ينزف، فحمل رمزي جهاز هاتفه النقال كي يتصل بالإسعاف، وعندما كان يصرخ بوجه من يجيبه قائلاً: عمي..عمي.....بسرعة، انطلقت السيارة إلى مكانٍ ما لإنقاذ العم ساجد.
جلس رمزي في وسط السوق وأخذ يضرب وجهه ويمزّق شعره ومدامعه تذرف، قد كاد يُجنّ بل جنّ، لحظة يفكر بالانتقام واللحاق بخاله الذي لم يدرِ أين اتجه، ولحظة تراوده نفسه الذهاب لإحضار أبناء عمه من الجهة الأخرى للبلدة حيث يسكنون، لكنه فضّل اللحاق بالسيارة التي نقلت عمه، وأخذ يركض في شوارع البلدة وأزقتها لا يعلم من هو وماذا يجري، وكلما مرّ بشبان في حي كلما أرشدوه للركض باتجاه المنطقة التي قد يكون عمه نُقل إليها، فذهب رمزي إلى جمعية طبية، فأخبروه أن عمه توجه إلى المستشفى، فقرر أن يستقل سيارة أجرة وذهب إلى مكتب التاكسي الوحيد والقريب من مكان الحادث، طلب من السائقين أن يوصلوه إلى المستشفى في مدينة جنين لكنهم أخبروه بصعوبة ذلك بسبب تمركز دبابات الاحتلال الإسرائيلي في الطريق وأن الطرق الأخرى تؤذي سياراتهم لكثرة الحجارة المرصوفة بها، توسل رمزي ودموعه تغرقه لمكتب التاكسي حتى أن أحداً من المارة أقنعهم لكون المصاب عمه.
بقي على أذان المغرب ساعة والسيارة تتحرك من المكتب ورمزي يرجف خائفاً يتمتم في نفسه: ماذا سأقول لأبناء عمي … لم استطع الدفاع عن أبيكم، وهل سيرحمونني وهم ينظرون لحظة للانتقام مني خاصة وأن علاقتي مع من ضرب أباهم قوية وجليلة.
في الدقائق الأولى اتصل رمزي بالإسعاف وأخبروه أنهم في طريقهم إلى البلدة ولم يلتقوا بعْد بالمركبة التي تنقل عمه.
في ذاك الحين الحزين جاء رمزي اتصالٌ على جهازه الخلوي من امرأة جارة لهم وقد كانت تعرف أرقامه من استخدامها كوسيلة للاتصال مع أهله، وهي قريبة جداً من منزلهم ومنزل عمه.
فقالت: أ صحيح ما يذكر الناس بأنك ضربت عمك؟! أيعقل هذا؟!.
رد رمزي بصوت كاد أن يفتت الصخر وتلون وجهه بلون بنفسجي أقرب للميت: ماذا…. ماذا… خالي ضرب عمي وكيف تقولين أنا؟!.
فقالت: لست أنا من يقول ولكن أبناء عمك بل أسرته جميعها تضرب وتكسّر في بيتكم وبيدها السكاكين والحجارة والأدوات.
انتهت تلك المكالمة الحمقاء البائسة وود رمزي لو أنه قُطّع إرباً قبل سماع ما سمع.
إن معضلة كالتي يراها ويعيشها رمزي لا يستطيع الوقوف بوجهها لا سيما وأنه يملك قلباً رقيقاً غير قادر على الولوج في أي شيء يتعلق بالمشاكل، لذا ارتبك إلى حد تدفق الهلع والخوف والحمق والجهل إلى أجزائه كلية، فتجرد من جل قواه العقلية، أخذ رمزي يتخبط وهو داخل التاكسي لكنه استمر في الطريق إلى المستشفى، كلما كان يمشي أكثر كلما يرتجف أكثر وعند مفترق البلدة السفلي رأى رمزي سيارة أحد أبناء عمه إذ كان زهدي وهو الأكثر ليناً بين أبناء العم ساجد، وقد كان أبناء ساجد يملكون ثلاث سيارات للعمل، ودعا رمزي السائق للتوقف عسى أن يجعل زهدي يذهب معه أو يلحق به، لكن زهدي لم ينتبه بالرغم من الإيماءات إليه، ولم يكترث رمزي لذلك بسبب الخوف من أبناء عمه أصلاً.
فوجئ رمزي بدبابة للجيش الإسرائيلي في الطريق توقف السيارات وبقي لوقت زاد من حدة واحتدام الخوف في داخله، فقام بالاتصال مع الإسعاف وأخبروه أنهم نقلوا عمه إلى المشفى وأنه بحالة جيدة، اطمأن وجدان رمزي قليلاً وقال لذاته: إن عمي سيخبر أولئك المجانين بما حدث.
فخاف أن يصل المشفى وقرر اللجوء إلى صديق له في قرية قريبة تقع بين بلدته والمستشفى، الناس يفطرون ويتناولون وجبتهم ورمزي لم يرض أن يذوق شيئاً برغم إصرار صديقه على ذلك، بعد أذان المغرب بحوالي ساعة ذهب رمزي وصديقه إلى المسجد في قرية الصديق وقد كان جهاز هاتف رمزي النقال قد أُفرغ من الطاقة وأُغلق، فحمل جهاز صديقه واتصل بالمشفى قبل دخوله إلى المسجد، وتحدث مع قسم الطوارئ، فأجابه المسؤول هناك: الذي تسأل عنه فارق الحياة.
رمزي: رباه يا رباه…. هل متنا جميعا؟ً… عماه انتظر..ألم تعلم أن آخر كلمة نطقتها كانت هي الأخيرة لدينا؟!.
الصمت خيم على خيال رمزي والأرض تسير فوق نعشه، عقارب الساعة توقفت وتوقف نبض الحياة، السماء تبرق دمعاً لا إنذاراً بقدوم الشتاء، الخبر يلتف كأفعى تخنقه" لا لا لا"، الظلام أحل وخيم على بسمات الصغار، التحف رمزي الكفن عله يقبله، واحتسى الحسرة رغماً عن أنفه، توقف ريعان الشباب، والأنين طاب: يا ويلاه قفي يا دمعةً في العين لحظة واخبريني هل حقاً ما حدث، سئمت الحلم فيا ليت القمر يرجعني إلى الواقع.
أُغمي على رمزي ولم يصح إلا داخل المسجد والناس ملتفون حوله، كم تمنى رمزي لو لم يصح قط، أخذ يبكي بحرارة وبصوت عالٍ أزعج المصلين ولم يجد سوى السجود لله والصلاة، لم يكن بجانبه أحد من أقربائه أو حضن أمه أو كف أبيه أو وجه أخيه الصغير، خرج رمزي من المسجد وصديقه يمسك بيمينه، تمنى رمزي أن يصبح مثل أي رجل في الشارع، كان وقع تلك الحادثة أكثر إيلاماً من غرس السكاكين في جسده.
أضطرّ رمزي للرجوع إلى البلدة، ولأول مرة في حياته يرى في أعينه حرارة الثأر من قاتل عمه واتصل بشقيقه فؤاد الذي يصغره بثلاث سنوات وكان يدرس في نفس الجامعة التي تخرج رمزي منها، أخبر رمزي شقيقه بضرورة العودة إلى البلدة برغم معرفته بصعوبة ذلك وقال لأخيه: لقد قتلوا عمي، وتخيل أن أخاه الأكبر يحمل بيده عصاً وأباه كذلك حين سيتصل بهم، لكن عندما تحدث رمزي مع أخيه الأكبر عبر الهاتف النقال وهو على مشارف البلدة لم يكن مصدقاً آنذاك ما قاله شقيقه الأكبر: نحن في مصيبة وشر عظيم، فقد مات عمي وأخرجونا أبناؤه من البلدة وكانوا ير يدون قتلنا.
فقال رمزي متسائلاً : أخرجوكم؟!، وأبي شقيق الفقيد؟.
قال شقيق رمزي الأكبر:كذلك أخرجوه وقاموا بالهجوم على منزلنا ومحاولة إحراقه.
فأخبر رمزي أخاه بضرورة ذهابه لأبناء عمه للوقوف بجانبهم فقال أخوه: لا تفعل ذلك، فقد تصاب بأذًى منهم.
ففُجع رمزي وأمر السائق الذي بالتوقف وخاف ورجع بالرغم من وصوله إلى مدخل البلدة حيث كان متجاهلاً لما أخبرته به جارتهم من قبل، ذلك لأنه احترق حين علم بوفاة عمه.
رجع رمزي وهو منكسر وحائر ومتذمر: آه لن أشارك أبناء عمي في وقت حاجتهم إلي، ما هذا الجبن؟! وما هذا التخاذل؟!.
لكن على أي حال فالواقعة كبيرة ولن يحتمل رمزي التفكير فيها بتأنٍ، وبقي تلك الليلة خارج البلدة، الناس يقدمون المواساة لأبناء عمه وهو وأسرته دموعٌ بلا مواساة، فأسرة رمزي أقامت تلك الليلة في قرية مجاورة للبلدة عند أسرة قرينة أخيه الكبير.
ذاك اليوم كان مشؤوماً في عيني رمزي البريئتين ، تشتت أفراد أسرته في تلك الليلة الكئيبة، لم يجد من يساعده في الرجوع إلى البلدة لمشاركة أبناء عمه عزاءهم، فقرر الخروج إلى المكان الأبعد حيث مدينة رام الله التي درس فيها اعتقاداً منه بأن هناك من يمكنه أن يساعده.
كان يؤرق رمزي في تلك الليلة التي غرق في ظلامها أنه لم يستطع رد الموت عن عمه، كان يشعر بأنه مدان بذلك حقاً، مع أنه لم يدخر جهداً لذلك، أخذت تلتهم العبرات من جوانب رمزي ولم يرُق النوم له وكل ذا ولم يدرك بعد ما جري ويجري، أناس يخرجون وأبناء عم ينتقمون وما الداعي لتلك المشاجرة التي أودت بحياة عمه، رأسه مليء بما يشبه الحلم، كلّ حركات عقله توقفت ، هل لأن الجاني خاله؟!، أم هناك ما لا يعرف به.
في فجر اليوم التالي وأي فجر ذاك، صلى رمزي وودع صديقه ليذهب إلى المكان الأبعد في رام الله كي يرجع إلى بلدته في جنين ومعه من يمكنهم تفسير الأمور هناك، مسافة قصيرة ويصل حاجز الاحتلال بالسيارة ثم ينتقل بعد ذلك بالحافلة الأكبر: ما هذا الصباح القبيح وهل ستشرق الشمس على عمي جثة مطعونة بضربة غدر وقدر، أحس بأن بقايا القمر التائهة في السماء تبكيني وترثيني، الوقت مبكر والركاب بين صحوة وغفوة وأنيني يقض نومهم وشهقتي تؤرقهم، الدمع لا يتوقف كأن البحر غير قادر على ملئ عينيّ بالدموع المنهالة.
بزغت الشمس وأشرقت إشراقة بطعم الموت، هناك شرطة إسرائيلية تدعو الحافلة للتوقف، نزل رمزي منهكاً حتى صرخ الجندي بوجهه بسبب تجاهله لندائه وتسليم بطاقته الشخصية، لم يملك من العقل ما يجعله يراقب الدنيا أمامه، ووقف في الجهة الأخرى وجميع الركاب ينتظرون الحافلة بعد إتمام تفتيشها، لم يستطع رمزي الوقوف ولم تحمله ركبتاه المثقلتان، فاتكأ على الأعمدة المعدنية على جانب الشارع وارتطم وجهه الساخن المرصوف دمعاً بحبات الندى المتدحرجة على المعدن، وسرح، غاب عن الدنيا قليلاً.
كان المقعد بجانب رمزي فارغاً بالرغم من اكتظاظ الحافلة ذلك لأن الراكب يفضل الوقوف على قدميه على سماع عويل رمزي ورؤية عيونه الملتهبة ووجهه الذي يهتز مرتجفاً حتى أن الدموع تتساقط متباعدة عن بعضه البعض، تقدم رجل كبير السن من بين المتواجدين وسأل رمزي: ماذا بك يا بني، منذ أن انطلقت الحافلة وعيناك تبكيان، ما نابك؟
رمزي: ما ذا يملك المرء في دنياه؟، أتعلم أن كل ذاك قد فقدته.
الطريق طويل والمركب يسير كأنه يحمل نعشاً، حين وصلت الحافلة مدينة رام الله، ضرب جرس هاتف رمزي النقال ورأى رقماً اعتقد أنه قريب من مناطق البلدة في جنين، وعندما فتح الجهاز بغية الرد لم يسمع سوى عويل وبكاء، وقد كان أخوته يبكونه ويبكون عمهم الفقيد، وأخبروه بأن الأنباء ترد إليهم من البلدة بأن هناك من يطالب بقتله، جميع سائقي السيارات في المنطقة التي يسير فيها رمزي وقفوا يرمقون صراخه ودمعه، وعندما دخل الحي الذي كان يسكن فيه للقاء كبيري السن والوجهاء من السكان الذين أحبَّهم وأكنَّ لهم الاحترام، رأى رمزي أحد الأصدقاء هناك كان يقود سيارة وهجم باتجاهه وقام بتقديم التعازي وتعجب من قدومه؛ فبكى رمزي بين يديه وأخبره بأنه محتاج لهم أشد الحاجة عسى أن يساعدوه في الرجوع إلى البلدة البعيدة والمشاركة في تشييع جثمان عمه لكن لم يكن ذلك فاتصل رمزي هاتفياً بزعماء أقاربه ليمنحوه وأسرته الفرصة في المشاركة في الجنازة لكنهم أخبروه بصعوبة الأمر، وقام أهل رمزي في المقابل بإرسال جماعات من خارج البلدة لكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل وساعد على ردهم أقارب رمزي بحجة أن أبناء ساجد يريدون قتل أبناء ماجد ولم يكترث أحد بعدم حضور شقيق الفقيد لوداع شقيقه الأخير والذي طردوه أبناء أخيه عنوة وبالضرب مع مكانته كعم لهم.
التقى رمزي أخاه فؤاد وقد صُعق للخبر وأمسك برمزي يهزه: هل رحل أخوتي عن البلدة؟، هل شُردوا؟، ويلاه.
وفي مساء يوم التشييع والذي لم تتمكن أسرة ماجد من حضوره، ذهب رمزي إلى صلاة التراويح في المسجد وإلا بهاتفه يضرب حين كان يلقي الخطيب خطبته، إحدى شقيقاته تقول باكية : يتهمونك.
رمزي: بماذا؟
ردت شقيقته: بالمشاركة في قتل عمي، ولن يرجعونا إلى البيت. صرخ رمزي وسط المسجد وتهدج صوته، ساد الحزن أجواءه وتمرد الدمع في عينيه ليخرج في كل حين : لا… لا لست أنا ..بريء ..بريء بريء بري.. ، عماه لماذا لم يدفنونا معك؟، عماه اعذرني لأن جبني حال دون وداعك، عماه كلنا تفرقنا واليوم اخرج لو لحظة…. قل لهم …أخبرهم بأنني بريء…
حاول رمزي بعد ذلك استقصاء الأحداث من اخوته الصغار فعرف حينئذٍ بكل ما جرى، فقبل حادث القتل بيوم كانت هناك مشاجرة بين دلال زوجه ساجد وأم رمزي زوجة ماجد، وكانت الأولى هي المعتدية ولم تعمل في يوم من الأيام أم رمزي على إحضار أيٍّ كان للتدخل في مثل ذاك الشجار لكن امرأةً من الحي قامت بإخبار الجد طالب والد أم رمزي ودعته للحضور إلى بيت ماجد وقد أُفزعت دلال لدى رؤية الجد طالب يدخل بيت ماجد شقيق زوجها وكأنه يقف بجانب ابنته ضدها فسارعت بإخبار أبنائها وزوجها بقدومه، وفي اليوم التالي أي يوم مقتل العم ساجد، التقى ساجد بالجد طالب وقت خروجهما من صلاة الجمعة، لم يسد التسامح والتفاهم بينهما ما زاد من الأمور تعقيداً حتى قام العم ساجد وأبناؤه بالهجوم على منزل الجد طالب وضربوا الحجارة والزجاج وحينما علم عاهد ابن الجد طالب أي خال رمزي بذلك الشجار بقي الأمر محتدماً إلى أن جاء قدر رمزي ليسير مع خاله عاهد دون علم ودون حضور مسبق.
امتازت طبيعة رمزي بشعوره بالاتهام في كل شيء برغم البراءة، فكيف إذا وجد نفسه أمام اتهام ماثل أمامه وكل الظروف تدل على إدانته؟!، فأخذ يتصرف كقاتل حقيقي وكهارب من وجه العدالة وتخيل بأن الشرطة تبحث عنه في كل مكان، لذا سارع بالاتصال بأقرب مركز شرطة في رام الله وأبلغهم أن هناك قضية حدثت في المحافظة الأخرى في جنين وعما إذا كان مطلوباً لديهم على أثرها، أجابوه بعد الاتصالات والمداولات بالنفي لكنهم دعوه إلى الحضور لديهم لإخبارهم بالأمر.
في صباح اليوم التالي والأعين ملؤها الدمع والهمَّ في الأفق، أخبر رمزي الضابط الشرطي بالحادث وبدور الضابط قام بالاتصال بمدير المباحث المسؤول عن مثل تلك القضايا في جنين، ومدير المباحث هناك أجاب المركز الذي يتواجد رمزي فيه بأن القضية منتهية من حيث التحقيق حيث سلّم القاتل نفسه وهو معترف بالجريمة وبأن رمزي لم يدن أو يتهم بشيء وقد صُعق رمزي لدى إخبار الضابط له بأن أبناء عمه وزوجة عمه كذلك يصرون على اتهامه ويطالبون بحبسه.
ثم سُأل رمزي عن ماضي العلاقة مع أبناء عمه فأجاب بأنها كانت راسخة رسوخ الصخر بين تربة الجبل ثم روى امتداد تلك العلاقة وما آلت إليه قبل الحادثة، فطلب الشرطي من رمزي الهدوء والسكينة وطمأنه ناصحاً: إن بادئ الأمر سيطفو السوء على مياه بحر الحدث ثم يذوب ثلج العداوة ويتذكرونك بالحسن لا بالسوء.
غادر رمزي المركز وهو يرجف هلعاً كالعصفور حين يبلله المطر مع أنه أحس بفشل أبناء عمه في اتهامه وتلفيق الحدث واتصل به صديق له من البلدة حال خروجه وبكى حتى بُللت أطراف وجهه وقال رمزي: أمعقول؟! أمن الممكن أن نلتقي من جديد؟! أهل ستعود بلدة تجمعنا وحديقة تحتضننا؟!.
في مساء ذاك اليوم قرر رمزي أن يفتح بيت عزاء في إحدى قرى رام الله حيث درس، وقد حضر الكثير من الأصدقاء والجيران الذين يعرفهم خارج البلدة كما أن بعضهم حضر من قرًى مجاورة وقد فعل رمزي ذلك للتكفير عن شعوره بالذنب بعدم حضور بيت عزاء عمه في البلدة بالرغم من أن هذا يعود إلى طرده وليس بناءً على رغبته.
حينما كان البيت يكتظ بالمعزين كان رمزي يذرف أدمعه ويبكي بحرارة، فهم يواسونه بمصابه بالمرحوم عمه وهو بين حزنٍ على العم ساجد وخوفه من أبناء عمه باعتباره قاتل أبيهم أو مشتركاً في قتله ولما كان الأصدقاء ينفضون إلى سكناهم في وقت متأخر من المساء، كان رمزي يرجع إلى حمله الثقيل، فيحضّر أغراضه وفراشه ليذهب إلى بيت ثانٍ يبيت فيه خشية قدوم أصحاب الثأر للانتقام منه لأن سعد يعرف مكان سكنه معرفة دقيقة.
رمزي لنفسه: مهما طالت المسافة بيننا فالثأر لا يعرف المسافات وقد يصلونني في أية لحظة فمن الخطأ أن أتصرف بموجب البراءة بل بكل معنًى للإدانة، فهم شرسون وأنا ضعيف لا حول لي.
في أول يومين أو ثلاثة بعد الجريمة كانت أسرة ماجد متخوفة من عدم العودة، ومتعلقة بأكتاف الأمل ، لكن رمزي لم يفكر بما يفكرون به ذلك لأنه اعتقد أن من البديهي أن يرجع الجميع باستثنائه وبأن الأمور لن تصل بأبناء عمه إلى هذا الحد من الشر، حتى بالنسبة له فكر بسهولة العودة بعد أن تمضي أسابيع أو ربما أشهر، فدائماً كان أصدقاؤه وزملاؤه وهم من عدة قرى وبلدان يطمئنوه بذلك.
عندما كان يضرب جرس هاتف رمزي النقال كلما تبدد الهدوء لديه وزرع الرجفة بين عينيه كأن أخباراً أكثر سوءاً بانتظاره، الخوف يمزق مهجته ويتساءل في ذهنه:: لمَ أنا هكذا؟!، لماذا أتمتع بهذه الطبيعة الساذجة والفيزياء التي تزرع الشك في نفسي بأنني متهم وبأنني مدان؟!، هل هناك غيري بذات الصفات؟!، حتى إذا قال أحد أمامي:من؟ بقصد التنويه لتهمة ما، كأن أشعة تنبعث من داخلي وتتوهج على وجهي قائلة:أنا.
حقاً إن الإنسان مهما كان لطيفاً ظريفاً أو حسن السلوك إلا أن العدو موجود في كل مكان، الصدق عدوه الكذب والكذب عدوه الصدق، لكن رمزي سلك درب الصواب ليكون مع ما عدوه الشر وليس مع ما عدوه الخير، ففي بلدته كان رمزي محبوباً جداً ومتواضعاً، يداه مرفوعتان دوماً بتحية السلام للطفل الصغير وللرجل الكبير ولجميع الناس، لقريب أو بعيد، كان يطمح بألا يترك مجالاً لذكره بغير مواقف الخير، فقد كان رأس ماله السلوك القويم والانضباط لأنه اعتقد أن ذاك هو الذي يرضي الله ويرضي العبد، فقد اعتقد أن الرائحة الطيبة التي يشتمها الناس من شخص ما ستبقيه حياً بينهم ولو صار تراباً.
كانت اعتقادات رمزي وتصوراته مصدر إزعاج بالنسبة لأبناء عمه ساجد والذين كانوا يتمتعون بوجهة نظر معاكسة تماماً لما هي بالنسبة له، ما يحزن رمزي هو نشرهم للادعاءات بتورطه في القتل، وقتل من؟، قتل قريب في مكانة والده: لا أصدق ذلك، سبحان الله، هل كنت أعلم بأنني سأواجه يوم كهذا؟!.
بعد أن أخذ اليقين مداه لدى رمزي بتشبث أبناء عمه بفكرة اتهامه بالقتل وترسيخ تلك الرؤية لديهم، أخذ رمزي يبحث عن آراء الناس في ذاك الإدعاء، فكم الروح غالية، كانت سمعته بالنسبة له أغلى ثمن يملكه وكان مستعداً لدفع حياته ثمناً لدفع الظلم الذي ستصطبغ به من بعد، الأمر الذي قض مضجعه هو أن يقتلوه أبناء عمه ويُغطى بكفن العار ويُدفن في تربة الإدانة ويصبح ذِكْراً ومثلاً لمن يقتلون أقرباءهم، كان من الضروري في البداية أن يشعر رمزي فقط بالبراءة بتتويج من الناس، فشعر بالارتياح لدى سماعه أنباء من البلدة بالثقة من براءته وعدم وجود علاقة أو صلة له بالقتل، هذا كان في البداية ولكن ستختلف المفاهيم وتنقلب الوجهات.
بحث رمزي في الأيام الأولى عن أناس جيران له في الحي الذي يقيم به في رام الله كي يتحدثوا مع أهل البلدة ومع وجهاء عائلته؛ فقام شخص ذات جاه وكبير في السن بالاتصال مع أحد كبار العائلة وأخبر رمزي بأنه سيقوم بالاستفسار عن القضية والحدث بعيداً عن ذكر اسمه، أجاب رجل العائلة بأن المسألة قد حُلت وأنه ليس هناك من بقي خارج البلدة وأن القاتل عاهد قد هُدر دمه وليس هناك ما يسيء إلى أهله أو غيرهم مع أنه في ذاك الوقت حقاً كان الجميع في البلدة بمن فيهم أسرة عاهد المكونة من ثمانية أطفال صغار وأسرة أخيه سائد، باستثناء أسرة ماجد شقيق الفقيد، ابتلع رمزي لسانه لدى سماعه ذلك وتلون وجهه وكأنه أضحى كاذباً على الرجل، فأسرته ما زالت خارج البلدة وهو ما زال مشرداً ومهدداً بالقتل، وحينئذٍ عرف رمزي أن أقاربه ليسوا بجانبه، وهم الذين اعتقد أنهم مستعدون للتنقل خارج البلدة وداخلها وإحضار رجال العشائر لإحقاق الحق، هي الأمور في بداياتها، فأسرة القاتل في البلدة بجانب أقارب زوجة عاهد القاتل، وأسرة أخ القاتل أيضاً في البلدة، والقاتل في السجن، وأسرة ماجد تمكث تحت رأفة الموت خارج البلدة، ما لا يرتضيه الدين أو العادات أو الأخلاق أو الضمائر أو العشائر.
القانون مع رمزي من الوجهة القانونية والدين، لكن لا حكم للقانون في ظل احتلال ظالم، حتى العادات والتقاليد التي تجعل القاتل وأسرته متهمين وتوجب جلاءهم عن البلدة لم تنصف الضعفاء، وما يحزن نفس رمزي أنهم فاقدون ويطارَدون، فلو كان هناك التزام ببعض العادات كدفع الديّة كما هو معروف عشائرياً والقاتل يبقى قيد المحاكم أو قتل النفس بالنفس لما وقعت أسرة ماجد في قفص الظلم.
أسرة ماجد التي لم تُدن أمام قانون أو قضاء عشائري أو نظام تدفع ثمناً أكثر من أهل القاتل وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على السيطرة والتجبر.
خلال الأسبوع الأول وفي يومٍ تهدج الصوت تعباً وتعرجت الأحشاء حزناً وتعبت الأعين أرقاً، وعند اقتراب منتصف الليل الذي لا ينذر بالأمل، أحدهم يتصل برمزي، وكأن رجالاً ملتفون حوله ينتظرون خبراً ما، أخبر رمزي بأنه برتبة ملازم في المخابرات ودعاه إلى تسليم نفسه إلى الشرطة بادعاء الحفاظ عليه لأن أبناء ساجد خاصة كبيرهم سامي حتماً سيبحثون عن رمزي لقتله.
قال رمزي: لقد ذهبت إلى الشرطة وعرضت نفسي على القانون. لكن الرجل ألح على رمزي، فأجاب رمزي: إنني سأفعل صبيحة اليوم التالي، قال الرجل لرمزي: خالك لدينا عند أجهزة الأمن وتحت طائلة القانون ويقول بأنك كنت برفقته، ألا تخبرنا من اشترى المنجل؟ ومن أين؟ ولا تخف إن صرّحت لنا بما فعلته أنت، وكأنه يود الوصول إلى جدل ما يدور في ذهنه.
فقطع رمزي على الرجل وأعلمه بأنه ذاهب ولا مانع لديه في ذلك وصار رمزي يبكي صارخاً: بريء بريء.... بريء، أخبروهم.
قام أحد جيران رمزي بإحضار أحد أفراد الشرطة وأخبره بما حدث مع رمزي لأنه كان يعمل مع المباحث العامة وقام بإجراء اتصالات عديدة مع مراكز عدة في محافظات مختلفة ولكنهم أخبروه بعدم علمهم عن شيء كهذا، وأشار الرجل على رمزي بضرورة ذهابه إلى أحد مراكز المباحث ليقص عليهم ما حدث وهم سيحضرون من اتصل به بتهمة انتحال شخصية القانون، فذهب رمزي صباح اليوم التالي إلى المركز وقاموا بالاتصال بالرقم الذي اتصل به، وعندما سمع بعض الكلمات أثناء الحديث الدائر حيث خرجت من فم أحد الضباط هناك عرف أن من اتصل به هو زهدي أحد أبناء العم ساجد، فلم يستطع رمزي الوقوف على قدميه: لماذا يتسلل كل هذا الألم إلى داخلي؟!، حرام …حرام.. لست أهلاً لذلك، اتركوني… كفاني همّ الزمن ومخلب الفقر الذي يُغرس في قلبي.
كان الضابط شجاعاً وهدد زهدي وأوقفه عن مثل تلك التصرفات التي تسيء للقانون، وقد تأكد مدير المباحث بعد الاتصال بالمراكز التي تابعت القضية منذ حدوثها فأخبروه ببراءة رمزي من افتراءات أبناء عمه، وبأنه لم يكن ضالعاً في الجريمة، لكن رجال الأمن لا يستطيعون فعل شيء كإرجاع الأسرة إلى بيتها وهذه أولى الصدمات التي توالت على رمزي وأوحت له بضعف القانون وهزالته.
لم يكترث أبناء ساجد ببراءة ابن عمهم من دم أبيهم، وقاموا بتشكيل لجان تحقيق من داخل العائلة وبسبب عدم قناعتهم بأن رمزي بريء قانونياً وبعد استجواب عدد كبير من الشهود أثبتت اللجان أنه غير ضالع في القتل لا من قريب أو بعيد، لكن هيهات تثمر البراءة حيال أرباب العربدة والتمرد، فقد قام أقارب دلال باتهام رمزي وتلفيق التهم وتزوير الحقائق حتى لو لم يكونوا قريبين منها، فقد كانوا متأخرين عن العالم يكرهون التقدم ويغضبهم الرقي ويبتز مشاعرهم النجاح، ومع أن رمزي كان يشفق على البعض منهم ويسير معهم في حين لم يجدوا من يرضى صداقتهم، لكن الغيرة والمكيدة قد تترك الأصدقاء جانباً ، فقد قام هؤلاء أي أقارب زوجة ساجد بتشكيل لجنة تحقيق لتعطي تصوراً عكس الواقع وتبني أدلة وظروفاً تجعل من رمزي المتهم طالما أنها لم تُكشف ألاعيبهم أو يُحاسب عليها، ولم تصل أيضاً الجرأة لديهم ببسط ادعاءاتهم على راحة القانون للنظر فيها.
ذهب شقيق رمزي فؤاد إلى أسرتهما حيث القرية التي هُجرت إليها ليطمئن رمزي عليهم ويزوده بأخبار أهله الباقين، وقد وصلت إلى مسمع رمزي معالم الحرقة التي يعيشونها أهله والضعف والقهر والذل.
سمع رمزي أنباءً عن أن اتهامه يتمثل بالتحريض على القتل، لذا طالب أبناء عمه أباه بأن يقوم بقتله، وأن ينفصل عن أمه كخطوة لإجراء الصلح
رمزي يحدث نفسه: يا عين أبكي ولا تتوقفي، لن يرحموك لا ولن يتركوك، يا أبي أرحني، فما أجمل الموت تحت راحتك، ضع السكين على عنقي، فليس لي بعد اليوم حياة، والصبح تبدد والظلام أحلك في جلبات أعيني.
لم يشأ ماجد والد رمزي إلا الرضوخ لبعض مطالب أبناء أخيه الجائرة، فرأى في ترك زوجته تذهب إلى أشقائها وأبيها وسيلة للنجاة، وهذا ما اقترحته الزوجة نفسها لحماية أبنائها ولكي لا تقف عقبةً في وجه قسطٍ قليل من الحل والصلح، وقد اتفقت مع زوجها ماجد على ذلك لكي يتمكن من إرجاعها فيما بعد الصلح، أم رمزي التي لم يرها رمزي لأول شهرين، لم يصدق بأنه قد بقي لديها شيء من العقل ذلك لأنه يعي مقدار تأثرها بكل صغيرة، فكيف ستواجه هذا العبء الثقيل بكمه وبنوعه؟!.
رمزي: يا أخوتي لا تحزنوا، فالظلم يريدكم بلا أمّ، عيشوا طفولتكم البريئة على كاهل الزمن المتعب، بغير عدل وبلا أمل، كم جميلاً لو على الأقل ربحت الأسرة الأم التي ستتمزق الأسرة يوماً بعد يوم على ما نابها.
حينما تعظم الكآبة في رجل وتطلبه الحسرة بلا وجل، يخرج عن الواقع ويترك الدراسات الدقيقة في سلوك ما، ففي بادئ الأمر بعد أن فارقت أم رمزي أسرتها، تجرأ ماجد ودخل بلدته مع أبنائه باستثناء رمزي، وجلسوا في بيت شقيقهم الأكبر كي يروا بأم أعينهم ما الذي يريدونه أبناء عمه، صُعق أبناء ساجد بالخبر، ولدى رؤية شقيق أمهم الأكبر لابن ماجد الصغير أبن الثمانية أعوام يتجول في سوق البلدة ليشتري للأسرة ما تعتاش به، قام الأول بملاحقة الطفل الصفير ليطرحه بسيارته الطاغية وليرميه قتيلاً ثأراً، وأي ثأر ذاك؟!.
هرب ابن ماجد ودخل يرجف مع أخوته وبسرعة البرق توافد أبناء ساجد وبأيديهم السكاكين والآلات الحادة، فتجمهر الناس ولم يردوهم بل طمأنوهم بأنهم سيتمكنون من طرد الأسرة حالاً، وقاموا بإرجاعها إلى قرية المهجر، فقدمت سيارة وقادها شبّان من العائلة وشعروا بإنجازهم العظيم في طرد أسرة شقيق الفقيد بدلاً من رد الظلم عنها.
لم يكن رمزي قادراً على تصديق كل هذا العداء من قبل أقرباء زوجة عمه، وبعد الخروج المرّ لأمه من حضن أخوته، هذا الخروج الذي لم يشهده، كان يكسوه الدمع وتلحّن نغماته العبرات من العيون البريئة: أماه لا تتوجعي فالظلم يحرق مسمعي، أماه أضحيتِ الأداة التي نحيا بموتها، فسحقاً لها من حياة، وآه على زمن لم ينصفنا، أماه أذهبي لا.. لن نلتقي كي يفرح الجائرون، لا لن نلتقي حتى يكون الظلم ما يكون.
هكذا أفقدوا الأسرة أماً، وللأسف بعد هذه الخطوة الخاطئة من ماجد، طلب أبناء ساجد مطالب جديدة أدناها مستوًى كان قتل رمزي، فذهبت الزوجة وغادرت وعودُهم كما السراب، اليوم تأتي الكرة الذهبية في ملعب أبناء ساجد كي يحققوا طموحاً سعوا إليه سنيناً، اليوم يكبر أملهم في القضاء على أبناء عمهم.
بعد انقطاع دام أسبوعاً رجع رمزي إلى عمله وكان يحس أن أنفاسه لا يمكنه التقاطها، وأن العمل والحياة وكل الأمور أصبحت بلا جدوى، يشاهد موته بالعرض البطيء، لم يعد يجيد النظر فالدمع راقد على أهدابه، يشعر بأنه يود الهروب إلى أقصى الأرض أو الرجوع مستسلماً لأبناء عمه ليرتاح من عذاب يطارده، البيوت عابسة وزجاجها مُكسّر، أبوابها مفتوحة، كأنها أسيرة تستصرخ الحق.
فالجميع يخافون أبناء ساجد حتى زعماء عائلتهم.
هكذا دون سابق إنذار أخذ القدر على عاتقه ابتلاء رمزي، علَّ الإله يحتضن عبراتٍ تنهمر بوجهه الدامي، بعد أخذ كافة وسائل الحيطة والحذر وتجنب اللقاء مع أبناء ساجد، والذين بات الثأر في جيوب عقولهم، وحينما كان رمزي يتنقل بين مدينة رام الله التي يعمل فيها ومدينة طولكرم لقضاء أمور خاصة بالعمل هناك، ولدى عودته من طريق لا تمر به المركبات بل يمضي مشياً على الأقدام بسبب إغلاق ذاك الطريق من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي، وبينما كان يسير والخوف يلتحفه كمن يحاول الدخول إلى داخل جسده، فوجئ بسيارة أجرة كانت ملكاً لأحد أبناء عمه إذ كان زهدي.
لم يدرِ رمزي لماذا استأسد قلبه وركض مسرعاً باتجاه شخص يود قتله، فوجه زهدي تلون وباشر الالتفات إلى رمزي بأعين ينطلق الشرر منها، لكن رمزي سارع لاحتضانه وهو خلف مقود السيارة، وصدم بيد زهدي ترمي به بعيداً عنه قائلاً: لا تلمسني.
كان زهدي يود تقطيع ابن عمه أرباً، لكن حرارة البراءة لدى رمزي جعلته أكثر توتراً وغضباً حتى كانت يداه ترتجف بقوة، كان داخل السيارة رجل آخر فانطلق نحو رمزي كأنه يرى معجزة أمامه وكأنه كان يعتقد أن رجلاً سيُقتل في هذا اللقاء، ولكن صراخ وحرقة رمزي قد أرجعت ابن عمه إلى صوابه وأخافته في ذات الوقت، فلو لم يكن بمفرده، ما كان بذاك اللين.
تجرأ رمزي ودخل إلى كرسي السيارة في الداخل، وبدأ ابن عمه بتوجيه أسئلة إليه، وقد أجابه حتى بات زهدي متيقناً من أن رمزي هو ذات الشخص البريء الذي كان يألفه طوال حياته.
لكن ابن ساجد الأكثر هدوءاً بين أشقائه قال لرمزي: لا تحدثني بالموضوع حتى أتيقن من براءتك قانونياً، وذلك بالتوجه إلى مقر الشرطة في مدينة جنين وليس رام الله أي مكان مجرى التحقيق وملف القضية.
وقد أثنى الرجل المتواجد على هذا الاقتراح وأشاد بزهدي وبدوره قائلاً لرمزي: هناك اعتقاد في ذهن أبناء عمك يدور، فأرحهم وتوجه إلى المدعي العام في صباح الغد.
هكذا حمد رمزي الله أنه نجا من محنة كادت تطيح بعنقه، وخرج قاصداً مدينة رام الله حيث كان اللقاء لدى عودته إليها من طولكرم، كان يرجف من ذاك اللقاء وكم راوده الحزن لمشهد لقائه ورجائه وصراخه مع النحيب الممتزج بعويله أمام من يتهمه بقتل أبيه.
في اليوم التالي ذهب رمزي إلى حيث تقع المحكمة في جنين وهي تبعد حوالي تسعين كيلومتراً عن رام الله، وقد اتخذ كافة الإجراءات التي من الممكن أن تحميه من الوقوع مجدداً بين يدي أبناء عمه، حيث استخدم رمزي العديد من سيارات الأجرة للمراقبة واستعان برجال الشرطة، وعندما وصل إلى مقر المحكمة عند وكيل النيابة وأعوانه، بدت عليهم ملامح الشفقة عليه لأنهم يعلمون تفاصيل القضية، فأخبرهم رمزي بقدومه من أجل طمأنة أبناء عمه ساجد وتقديم إفادته حول الموضوع، وقد كان ذلك، ففي المحكمة قد أدلى حوالي سبعة وعشرون شاهداً بإفادتهم التي برأت رمزي أمام وكيل النيابة، ولدى خروجه من المحكمة قال وكيل النيابة لرمزي: صن نفسك، والله سيكون بعونك، أنت حقاً في ورطة مع أناسٍ حمقى.
اعتبر رمزي أنه نال شهادة البراءة التي يودها ابن عمه منه، ورجع مساءً إلى رام الله، وفي اليوم التالي اتصل على هاتف ابن عمه زهدي النقال، وقال له: لقد ذهبت إلى القانون وثبتت براءتي، ففاجأه زهدي بأن عقله كلياً تغير وبدأ يشتمه ويتهمه باتهامات غير التي ذكرها له في السيارة، وكأن هناك شخصاً ما أزعجه أن زهدي لم يقم بقتل ابن عمه رمزي عند اللقاء، فعرض على رمزي أن يذهب وبالسر إلى البلدة ويلتقي شقيقه الأكبر سامي وجدّه والد الفقيد في غرفة مغلقة في بيت الجد أبي ساجد، حيث ستناقشون بأمر براءة رمزي، وإذا كان رمزي مداناً يقوم جده بقتله للثأر لابنه.
حينئذٍ تغيرت معالم الدنيا في وجه رمزي وخاف الزمان وخال الوجوه على غير حال، فجده الذي يحبه الآن قد يقتله، فقبل رمزي عرض ابن عمه، لكن رمزي سأل زهدي: هل الناس جميعاً يقولون بأنني ضالع في القتل؟
زهدي: نعم
ردّ رمزي: لذا لن أبرّأ نفسي أمام أخيك وجدي لوحدهما بل سأجعل جميع أهل البلدة يرون ذلك اللقاء بأم أعينهم، وقد انزعج زهدي من هذا القول حيث أن هذا يقود إلى فشل مخططٍ ما في رأسه.
قد كان رمزي عازماً حقاً على الذهاب إلى البلدة ليُقتل هناك، لكن ْ جاءه هاتف من أشقائه يقولون له أن جده عندهم ويحذره من الذهاب إلى البلدة ذلك لأن أحد أبناء عمه وهو سامي قد أخرج مسدساً على جده وهدده بالقتل وأخبره بأنه سيقتل رمزي وفي المقابل يقوم الجد بادعاء قتل رمزي ثأراً لابنه وبذلك لا يستطيع ماجد الدفاع عن ابنه المغدور إذا كان القاتل والده.
ذُعر رمزي من ذاك الخبر واتصل على أقارب له ووجهاء في البلدة، وقد حذروه كذلك من الالتقاء بأبناء عمه بمفرده، وقد أخذ زعماء العائلة تلك الفكرة أي فكرة اللقاء على محمل الجد وخططوا لها، وقد حدث أن خططت العائلة للقاء بين رمزي وجموع العائلة حيث يحضر الشهود، فإما أن تظهر براءته ويُرجِع أسرته معه إلى بيتهم وإما يعاقب إذا ثبت العكس، وقد حذروه من إحضار أي غريب معه من خارج البلدة، أو من أجهزة الأمن، قبل رمزي بذلك وحضر الشهود إلى بيت أحد وجهاء البلدة وأدلوا بشهاداتهم التي تقف في صف رمزي، لكن أبناء عمه ساجد أخبروا قادة الصلح بأن لديهم شهوداً سيحضرون ويشهدون ضد رمزي، ولدى لقاء وجهاء البلدة بهؤلاء الشهود، اتضح أنهم كانوا مأجورين من قبل أبناء ساجد وهم من أقارب زوجته دلال، كل ذا للانتقام من رمزي ومن أسرته، لكن بعد إفشال هذا المخطط، رفض أبناء العم ساجد اللقاء، ولم يدخل رمزي البلدة لإجراء اللقاء، وبدءوا يعرضون مطالبهم الظالمة دون وجه حق، مما جعل البعض يسأمون الخوض في صلحٍ كهذا.
لقد بات رمزي عدة ليالي بين ويلات الحزن في مقر للشرطة لطلب الحماية، حيث كانت تلسعه برودة الشتاء، وبعد شهرين من الحادث، قرر الذهاب إلى القرية التي تقيم فيها أسرته لمحاولة الاطمئنان عليهم والمراسلة مع أقارب لهم لينقلوا ما جرى معه لأبناء عمه، فذاك المساء خرج رمزي من مدينة رام الله التي يعمل فيها إلى القرية في المكان البعيد، حيث وصل متأخراً، وقد كانت أدمعه تنهمر كلما اقترب من الوصول.
نزل رمزي من التاكسي في منطقة مظلمة حوالي الساعة العاشرة مساءً، معطفه الأسود يتطاير على جنبيه والبرد يلتف على أردفه، أنفاسه متهافتة، واللفة على عنقه ترفرف بجانبه، يخطو وهواجسه ترسم معالم لقاءٍ حزين، لا يدري كيف ستحمله أرجله إن التقى أهله في هذا الظلام، الجو هادئ والبلابل تغفو على أغصان شجيرات القرية، والحجل يرقد على صخرٍ ميت ظمآن.
لا يعرف رمزي أين عنوانه الجديد، عنوانه الإجباري، فقد تغيرت أزمانه: هل سأسأل المارة أين بيت أهلي؟!!، عجباً منك يا زمني الأحمق وعجباً منكِ يا أيامي الحمقى.
بقي رمزي يسير على حافة الطريق الترابي، حتى سمع سعالاً كان مألوفاً لديه، إنه سعال والده المريض، فنظر نظرة عن مسافة عشرين متراً، وإلا ببيتٍ مخلَّع الأبواب، متهافت الجدران، يغطيه الاسبست، فعرف حينئذٍ أن أشقاءه وشقيقاته ووالده هناك، فدخل عليهم وهجم على أبيه ماجد مقبلاً يديه، ومقدماً له العزاء بوفاة شقيقه ساجد، بدأت دموع إخوته تجوب ملابسهم، كلهم يبكونه ويبكيهم: تمهل يا زمن وارسم حكاية الظلم، أكتب معالم الدمع في أوجه الفقراء.
جلس رمزي بعد شهيق الدمع وانهمار العبرات، حتى من الخدود البريئة لأطفالٍ صغار، تفارق أمهم، ويهدد أخوهم بالقتل، ويطرد والدهم، ويقتل عمهم، وتطرد أسرة جدهم، ويدفعون ثمن جرمٍ لم يرتكبوه.
تطاير الاسبست عن سطح ذلك المنزل المشؤوم في تلك الليلة الحزينة، حيث كان المطر يبلل الأسرة، وقد أخبرت الأسرة رمزي بكل ما جرى وكيف خرجوا تحت التهديد، وأروه معالم الحجارة التي ألقيت على أجسادهم من قبل أبناء عمهم وأن خروجهم من البلدة لم يكن بمحض إرادتهم كما يدعي أبناء عمهم للناس.
في اليوم التالي استغرب رمزي من عدم تقبل أقاربه واللجان المشكلة للصلح لدعوتهم بالحضور لدى أسرته لمعرفة ما جرى أو على الأقل لمعرفة الأحوال لديهم: ألسنا من جسدهم، أم كل ذا لأننا فقراء؟!!، خيبوا أمل رمزي في سماعه على الأقل، فزاد حزنه خاصة بعد أن علم كيف خرجت أمه من بيتهم بين النحيب وبكاء أخوته الصغار.
قرر رمزي السفر في اليوم التالي إلى رام الله، خائب الأمل والرجاء، بل لم يعد يحتمل الصبر، فاتصل على سائق أجرة للذهاب في المساء، وقد أخذه السائق إلى بيته في البلدة المجاورة للسفر في الغد، فحمد الله أنه خرج مساءً لأن أبناء عمه وبرفقتهم أقارب أمهم ومعهم السلاح والبنادق بحثوا عنه بعيْد خروجه من البيت الذي تقيم فيه الأسرة، حيث دعتهم أمهم لذلك ووعدتهم بإطلاق الزغاريد إذا تمكنوا من قتل رمزي.
رجع رمزي ليزاول عمله وأكمل مشوار الحياة الصعب لأنه علم أن أبناء عمه يرددون ويهددون بأنهم سيلغون معنى الحياة لديه، وأن هناك إشارة حمراء أُشعلت في حياته منذرةً بتوقفه عن كل شيء، كان يخاف كل حدث وكل خبر، ويسقط قلبه أرضاً حينما يرى سيارة بمواصفات سيارات أبناء عمه خاصة سيارة سامي الشرس، فقرر السفر خارج البلاد إلى أوروبا، لكنه تردد بعد أن أكملَ إجراءات السفر، ذلك لأنه لم يرِد الذهاب دون براءته، ولم يقبل بأن يترك أهله وحيدين في مواجهة ذاك السيل الجارف من القهر.
بعد ذلك بدأ رمزي يشعر بغدر الأقارب، بين الوعود البائدة، واللعب بعقولهم، وأقرباؤه خارج البلدة في القرية التي سكنها أهله تخلوا عنهم كذلك، وبدءوا يكيدون للأسرة بالاتفاق مع أبناء ساجد، وقد سرقوا من أسرة ماجد ما تبقى لديها من مال زهيد لتقتات به، وأخرجوها من البيت الذي هو ملك لهم، ما أضطر الأسرة الضعيفة إلى الرحيل إلى قرية أخرى في نفس المحافظة، وهكذا يتم الرحيل من مكان إلى آخر دون سؤال أو جواب لتساؤلات رمزي واخوته.
ما زاد من حدة الأمور هو اتهام أهل القاتل عاهد وزوجته لرمزي، حيث أرسلت زوجة عاهد وشقيقه سائد مرسالاً إلى زوجة ساجد دلال ليخبروها ببراءة ابنهم القاتل وأن رمزي هو السبب، وقد قاموا بذلك لاستغلال الموقف وتبرئة الخال عاهد، واتهام رمزي للثني على ما سمعوه من الناس وعن أبناء ساجد، وقد كان لذلك أثر كبير على نفس رمزي، وأحزنه كثيراً بسبب أنه فقد رجلاً وفي ذات الوقت لم يعر أهل القاتل لذلك اهتماماً ويحاولون جعل القتيل قتيليْن.
لقد أجرى رمزي العديد من الاتصالات والوساطات للحصول على أمه، وقد كان ذلك، وقام بتوزيع الحلوى لدى سماعه نبأ عودة أمه، وقال في ذاته: لا أود العودة بقدر لملمة أسرتنا وجمع شتاتنا.
بعد أن رجعت أم رمزي لاخوته قرر الذهاب من رام الله إلى جنين لرؤيتها لأول مرة بعد عام على حدوث الكارثة، كان لقاءً أشبه بالتراجيديا، حيث لم يتمالك رمزي نفسه وأجهش بالبكاء بين يدي أمه، وبكت هي الأخرى بحرقة على ما نابهما.
بعد حوالي شهر وسنة ذهب رمزي ليزور أسرته لعلمه أن تهديداً جاء لشقيقه الأكبر ليترك قرينته بالقوة، لذا ذهب رمزي لصهرهم لحل الأزمة، فقال له أقرباء قرينة أخيه: أنتم مظلومون وقد ظلمكم المجتمع، وقد كان أقاربكم المقربون سبباً لذلك، لكننا لا نقف في وجه المجتمع مع أنه ظالم، لذا ستنتهي العلاقة التي بيننا، ما كان لذلك أثر حاد في قلوب وعقول وأرواح الأسرة.
كان رمزي يشعر أن أمه تغيرت وأن أقوالها وطباعها غير معتادة، وذلك كما توقع من قلبٍ رقيق كقلب أمه، فقد كانت تردد كثيراً أن رمزي ابنها هو المتهم في القتل والتحريض، وأن خاله عاهد بريء وأن لأهلها ثأراً عند حفيدهم رمزي، الكلمات التي كانت توجهها أم رمزي لابنها كانت بمثابة المنجل الذي قطع عنقه.
في الليلة التي كان يقضيها رمزي مع أسرته وفي الغد كان موعد الرجوع إلى رام الله، فوجئ في منتصف تلك الليلة وفي البيت الذي لا تدخله الشمس ولا الهواء بحركة في المطبخ، فلم يكترث كثيراً، لكنه تلفت فوق فراشه وإلا بأمه تحمل سكيناً وتود طعنه به: أماه لا تترددي، أريحيني من هذا العذاب، فلم تعد لي حياة، أماه افتحي قلبي وانظري من بداخله، ولا تكترثي للدماء، فبكت الأم وسقط السكين من يدها وهي تقول لرمزي: يجب أن يموت واحد منكم.
سافر رمزي في الصباح وهو يرتشف الأحزان مما رأت مقلتاه، وسمعت أذناه، وقد غادرت أمه البيت في ذلك الصباح، وأخبره أشقاؤه أنه كان وداعاً غريباً حيث غادرت الأم وهي فاقدة الوعي غير مدركة لما تفعل وما تقول وقد كان في استقبالها أخوها، فقال رمزي باكياً:
يا قلبُ قفْ، ما عاد نبْضك مُجدِيــا إني أرى الأجداثَ تخطف مَجدِيــا
ولم يرَ رمزي أمه منذ ذلك اليوم من العام 2004 م، حيث جُنّت بعدها وأضحت تبيت في أزقة الشوارع وأروقة السوق، وتتسول لقمة العيش من البسطات بعد أن كانت أماً مدللة، وساءت صحتها وسقطت أسنانها، ولم يكن هناك من ينقذ الأم أو يساعد الأبناء في الحصول عليها، وباتت جثةً هامدة.
بدأ رمزي يبحث بعد ذلك بشكل جدي عن رجال الخير والإصلاح وذلك بعد التخاذل الذي بدا من أقربائه، ومنْعهم لرجال البلدة من غير الأقارب بالتدخل لحل الأزمة، فذهب إلى جنوب فلسطين في الخليل في حين كانت الجريمة بشمالها ليكون دخيلاً على أكبر رجال العشائر في فلسطين قاطبة، فسافر إلى هناك من رام الله وسط فلسطين حيث يعمل، وفي ليلة يومٍ بادر كان رمزي يبحث به عن عميد الإصلاح على مستوى الدولة، كان المطر يغرقه والريح تعصف به، ينغمس داخل أحزانه، ووجهه متجمد من البرد، فلم يجد ذاك الرجل وقالت له أسرة الرجل أنه سيعود في اليوم التالي، ما اضطر رمزي للمبيت في مسجدٍ قريب من هناك، كان يحتضن الأرض في المسجد علّ حرارتها تنقذه.
التقى رمزي بالرجل وأخبره بما جرى وبأنه دخيلٌ عليه ولهذا دلالة هامة لدى رجال القانون العشائري، لكن الرجل قال لرمزي: من لا يقف معه أقرباؤه بالدم، ماذا سأعمل له أنا؟!، وقد خرج رمزي من عند الرجل وهو خائب، وتوجه إلى قرًى في نفس المحافظة واهتدى إلى رجل من كبار زعماء الإصلاح، وربط كوفيته وقام الرجل بدوره بحلها، وفي ذلك إشارة إلى أنه سيقوم بحل عقدة رمزي، لذا أحضر رمزي سياراتٍ بالأجرة لتأمين الطريق من الخليل إلى إلى المحكمة في جنين، وقد كان ذلك وبتكلفة مالية مرتفعة، لكن هذا الوفد باء الفشل حيث أخبرته مجموعة من أقرباء رمزي بأن الحل وشيك ولا داعي لتدخل أطراف خارجية وقد وعدوا الوفد بالاتصال بهم عند الحل، لكن على العكس لم يقم الأقرباء بالحل بل وبّخوا ماجد والد رمزي على إحضاره للغرباء كما كانوا يذكرون.
وقد أرسل رمزي وفداً آخر للقاء أبناء عمه والتحدث معهم بشأن القضية، وقد كان ذلك الوفد من فصائل المقاومة الفلسطينية لكنه أيضاً باء بالفشل، وقد توجه إلى أكثر من وزير، من وزير الداخلية والاتصالات ووزير دولة في ذاك الحين وعدد من النواب في البرلمان، وكل ذلك دون أن يقدموا أدنى مساعدة للأسرة المغلوبة على أمرها، وعندما تبدل وزير الداخلية اتجه رمزي إلى الجديد، وقام بدوره بالاتصال مع قائد شرطة فلسطين وقائد أحد الأجهزة الأمنية، وأيضا دون تقدمٍ يُذكر على سير القضية، وكأن هذه الدنيا خلا فيها من يساند رمزي واخوته.
عندما قال زهدي لرمزي أن الثاني أمسك العم ساجد لكي يقوم خاله عاهد بالقتل وأنه عند طعنه قال ساجد لابن أخيه: قتلتني، وأمسك ساجد بوجه رمزي وجرحه حيث سال دم رمزي بين يديه، وسط هذا الافتراء تذكر رمزي أن دماً في يومٍ ما سال من وجه عمه على وجهه وقال رمزي لنفسه : متى كان هذا؟، فتذكر أنه قبل الحادث بأشهر كان عمه ساجد خارجاً من البيت بعد أن حلق ذقنه وكان دمٌ قليل ينزف منه ولدى تقبيل رمزي لعمه وصل دمه إلى وجه رمزي حيث قبّله بحرارة بعد أن مرّت أيام دون لقائهما وقد وجّه العم ابن أخيه كيف يحافظ على مستقبله.
أما أميرة عمة رمزي -شقيقة ماجد وساجد-، فقد طالبت بأن يقتل رمزي ثأراً لمقتل شقيقها ساجد، مع أنها كانت تحب رمزي كثيراً؛ تعجب رمزي مما سمعه عن عمته التي لم تعد تثق به واعتبرته مشتركاً في الجريمة، لكن في ليلة من الليالي المظلمة جاء منام للعمة أميرة تلك، حيث رأت نفسها أمام عيادة طبيب تود الدخول للعلاج، لكن امرأة تركت طفلاً صغيراً على الكرسي، ثم جاءت قابلة وغرست إبرة في عنق الطفل وذهبت، فنظرت أميرة وإلا بدماء الطفل تغرقه فاقتربت لتحمله لكنها خافت وهربت ونظرت خلفها وإلا بأناس يلحقون بها ويقولون: هي.. هي من قتلته، فأسرعت وإلا بالشرطة أمامها فأفاقت من نومها وهي تصرخ: بريئة .... بريئة، فبعد أن رأت عمة رمزي هذا المنام المزعج بحثََت عن تفسير لذلك، فعلمت إن رمزي بريء واقتنعت ببراءته من خلال ذلك الحلم.
كان يعز على أسرة ماجد ما آل إليه بيتها حيث اقترحت إحدى قريبات دلال بهدمه وجعله ساحة لتوسيع بيت ساجد، كما أن بيت شقيق رمزي الأكبر استخدمه أبناء عمه كما لو أنه مُلك لهم، وقد بيع كل ما في البيتين من أدوات وتم استعمالها من قبل أفراد أسرة ساجد الفقيد، حتى الدجاجات التي كان يلهو بها أخوة رمزي الصغار قام بعض الجيران بأخذها كسداد لدينٍ للبقالة التي كانت بجوارهم.
ومن عجيب الزمان أيضاً أن أبناء ساجد حاولوا طرد جدهم وجدتهم والدي الفقيد، ودعوهما للرحيل عن البلدة واللحاق بأسرة ماجد، وقد كانوا يضربون جدهم علناً أمام الناس دون تدخل أحد لحماية الكاهل المسن من الأيدي الجائرة، ولقد حاول بعضهم مراراً أن يحرق بيت الجد بهدف التخلص منه بسبب وقوفه في صف أسرة ابنه ماجد.
لم يعد يذكر رمزي أحدٌ، حتى أعز أصدقائه باتوا يخافون بأن يضحي أبناء ساجد على دراية بعلاقتهم برمزي، وقد اجتمع كبار رجال العائلة عشية الانتخابات البلدية وأعلنوا بأن ماجد شقيق الفقيد وأسرته ليسوا من العائلة والحمولة وكل هذا لكي لا يضحي من العار عليهم عدم إنصاف أبنائهم وطردهم من البلدة.
كان رمزي يحب الطبيعة والأزهار التي تكسو الحرش في بلدته، وكان يحب صيد الطيور البرية ويهواها، كان يسرح وخياله عبر أشجار الزيتون والصنوبر واللوز والتين والصبار، منذ الصغر ورمزي يحب الحياة البرية حباً جنونياً حتى كاد يعرف أبناء البلدة جميعها بذلك، كان رمزي يكبر ويكبر لكن لم يستغن يوماً عن اللعب في تراب الحرش والركض خلف العصافير ووضع المصائد لها، كلما كان يحزن أو يفرح كلما كان يخرج ويقف بوجه الحرش يبكي أو يفتخر بنجاحه، وكم كانت تساور رمزي الشكوك بأن يوماً سيخرجه من حضن الطبيعة، لذا كان يقف دوماً عند مغيب الشمس ويهمس في أذن الغابات قائلاً: يا ترى هل ستذكرني هذه الأشجار إن تفرقنا في يومٍ ما، هل يحبني هذا الحرش كما أحبه؟، ماذا لو أجبرتُ على الرحيل عنك يا وطني؟.
فقال رمزي بعد رحيله عن الحرش مناجياً:
يا أيها الحــرشُ العليلُ ألم تزلْ تتذكرُ الشِعرَ الجمـيلَ مَع القُبلْ؟
خــذني لذكرك مـرةً أطأ السما لك أنحني دونَ اختلاجٍ أو خَجلْ
قلـبي إليـك مرتلٌ أشـــعارَه دون انتقــاءٍ للكلامِ وللجُملْ
يا غائباً عـن ناظـري و معلمي رغمَ النوى درسَ الحياةِ بـلا كللْ
إن الجمالَ بطـرفِ عينكَ ساكنٌ في قلبِ واديكَ الجميلِ و في الجَبلْ
موتي بأرضـك جلُّ آمـالِ الغدِ عيشي لأجلك باعثٌ بعضَ الأملْ
لو كنـت أكتب دمعتي بقـصيدتي لرأيت قلـبيَ خارجاً عبر المُـقلْ
لا تبكِ،كلُّ عشيقِ حرشٍ أو نـدى وصديق أرضٍ مكرهاً عنـها رَحلْ
ولعلم أبناء العم ساجد بوطنية وحب رمزي للأرض ونصرته لقضيته القومية والوطنية حاولوا أن يخبروا البعض بأن مقتل أبيهم كان مخططاً بين رمزي وبين خاله عاهد وجنود الاحتلال وذلك لزعزعة الثقة بصاحب الأخلاق الوطنية.
لم تكن المرة الأولى التي يشهد رمزي بها ظلماً عنيفاً، فقد كانت حبيبته قد ظلمته، وهي أول حب في حياته، حيث تعرّف رمزي إلى فتاة في الجامعة، وكانت زميلة له في الكلية، وعرضت عليه حبها لكنه رفض بسبب إدراكه لوضع أسرته المأساوي، لكن تلك الفتاة الجميلة أصرت على عدم تركه، وقد غرق رمزي في بحر حبها وكان مخلصاً لها يبيت ويصحو على صورتها في ذاكرته ووجدانه، وعلّمت تلك الفتاة رمزي أن قيمة الحياة تكمن في الإنسان لا في المادة والمال، وقبلت به حبيباً رغم علمها بحاله ووضعه المادي، لكن بعد حين جاءت لتخبره بأن الزمن زمن المال ولذا قررت الزواج من قريبٍ لها ذي مالٍ ونسب وجاه، وتركته وحيداً يصارع الموت وأثبتت له قيمة المال في زمن المال بعد أن أرته عكس ذلك.
تلك حبيبة رمزي التي وأدت أحلامه حيث تركته صيفاً، وأسرع رمزي إلى بلدته ليخرج إلى حرشه العزيز ويبكيها هناك، حيث أُغمي عليه من شدة الحزن واغرورقت عيونه بدمعها المنهال، هكذا لم تنصفه الحياة وظلمته تضاريس الزمن.
عندما كانت الأسرة التي انحدر منها رمزي على متن عربة للرحيل بين قرية وأخرى، كان رمزي في الجامعة يسجّل للالتحاق ببرنامج الدراسات العليا إصراراً منه على الحياة، وبدأ دراسته بتفوق بغية الحصول على شهادة الماجستير ومن ثم الدكتوراه، ولم يدرك زملاؤه ما يقاسيه بسبب أن مظهره كان يوحي بأن جل اهتمامه بالدراسة والتفوق، وبما أن رسالة رمزي لم تصل إلى الناس كي يقرءوا ظلماً متربصاً بالفقراء، فقد عاود هوايته بكتابة الشعر، وتعلم قواعده التي لم يكن يدركها في محاولاته الأولى في الصغر، وبدأ يرسم القوافي ويكتب الشعر الموزون، وأصرّ على ذلك بالرغم من عدم تشجيع بعض النقاد الأكاديميين له في البداية، وفي غضون أشهر تنقل رمزي تنقلاتٍ نوعية في مجال الأدب، حيث كتب القصص القصيرة والخواطر والشعر في الصحف المحلية وصحف عربية وأخرى عربية تصدر في دول أجنبية، وقد قرأ رسائله من خلال الشعر العديد من أهل البلدة عبر الصحف، وكذلك لم يترك حيزاً في مجال الدفاع عن قضيته الاجتماعية التي اعتبرتها شبيهة بقضيته الوطنية، حيث كتب ضد الفوضى وابتزاز الأمن وظهر في عدة لقاءات تلفزيونية، فقد كتب قصيدة في صحيفة" القدس " بعنوان "أحزان" ، وقام بوصف معاناته من خلالها، فقال رمزي يرثي حاله:
تغطي البـحرَ أمـــواجٌ ومــاءُ البحـرِ أحـزانيسفــيناً عمـتُ في الدنيا ودمـعُ العـينِ قبطــانيحيــاتي سهـلُ مأسـاةٍ طغـت فيه كــوديانِوأحـــلامي كعصـفورٍ أســـيرٍ عنـد ثعـبانِويمــحو حلــمَ أجدادي زمــانٌ كــافرٌ زانـيوفقــري ما لــه حـلٌّ سيبـــقى طـولَ أزمانينحيــبٌ دقّ أبـــوابي وليــلٌ غال أحـــضانيســــديمٌ حطّ في قلبي وصـاغ الظلمُ أشـجانيكفــاني صمـت أيــامٍ وصــبري كــان إيمانييموجُ المـوتُ في قلبي وكـظمُ الغيـظِ عـادانيتبيــتُ الآهُ في عـــيني وعيــني مثـلُ بركـانِفأرضُ العدلِ قد زالتْ وبـاتَ العــدل وحـدانيوبحـرُ الأرضِ أصـفادٌ تــلاها ســربُ مرجانرمتــني قصــتي الثكلى ونـورُ الشمسِ راعانيوليــلي مـثل أشـعاري غطــاءُ المـوتِ سجّـانيفأرضــي جلّ أفكــاري ومــنها نبـض شـريانيففــيها ريـعُ مــيلادي وأوراقــي وأغـصانيهنا حُــرشٌ هنـا صخرٌ هــنا أطـرافُ نيـسانِهنـــا دقـاتُ أجـــراسٍ هـــنا أصـواتُ آذانِهنا طـــيرٌ يغـــذينا أناشـــيداً لحــــسّانِفـــراقُ الأرضِ أعيـاني فــراقُ الأرضِ أردانـيقتــيلاً غــيرَ ذي عيشٍ رحـيلُ الأرضِ أفنانيغيابُ الأرضِ عن عيني غيـــابٌ كان أعـمانيوأمـــي نابـــهـا غــدرٌ ظــلامٌ راعَ وجــدانيسأبكــيها مَع الأقــصى سأبــكي كلَّ ألحــانيوبيـــتي قيد أغــرابٍ أحاطـــــــــــوه بنـــيرانِوزالــــوا كلّ أصحابي صــديقٌ يسـبقُ الثـانيتخلـــوا كلهم عـــني بدعـــوى أنــيَ الجانيوذاك القـــومُ يا قومـي يعيـــشون بأوطــانيوأضـــحوا مثلَ حـكامٍ فصــارَ الغربُ سـجانيفأمشــي دون أنــاتٍ غــريبٌ دون أشـجانيلماذا صـــرتُ ذا قهــرٍ وقهــري عـاد نـادانيبــلادي صــار يغزوها عــدوٌ مثــل شـيطانِعــداءٌ عاش في قــومي يصــلّـون لســلطانِولا قـــــولٌ يغذيني وقـولُ الحــقِّ يرعانـيلغــــاتُ العربِ آفاقٌ لغــاتٌ دون أقـــرانِولـــكن جاءها غــربٌ عـــدوٌ ضـد قــرآنِحروف الحقّ ألغــــوها وصــار الظلــم إنسانيلماذا النـاسُ قد حاروا كأضــــدادٍ كـألوان؟هنــا أبنــاءُ ذي قـهرٍ هنــا أحفادُ قــحطانِهنا الأطــعامُ قد ترمى هـــنا أوطـانُ جوعانِكبير الســنِّ من عمري وجســمي ناحـلٌ حانييريـــني الدهرُ أســرابا صروفا كــان أعطـانيأنا والحـــزن قـد عشنا صغــيراً كنـت، ربانيأيضــحي كلُّ ذي قـلبٍ حقـــيراً غــير إنسانِسأنســـى ظلمَ مأسـاتي وأحــيا رغــمَ أحزاني
حتى أشقاء رمزي من خلفه واصلوا تعليمهم وحصلوا على درجات ممتازة في الثانوية العامة وفي الجامعات، حتى بات لهم أقرباء خارج البلدة حيث تزوجت شقيقة رمزي.
انشغال رمزي بالحزن والهمّ لم يمنعه من التقدم ودقة الملاحظة، ففي مجال العمل لاحظ وجود أخطاء سابقة وأصرّ على دق أبوابها بالرغم من المتاعب التي ستواجهه إذا حصل ذلك، وقام باكتشاف اختلاس أموال من المؤسسة التي عمل بها بقيمة خمسين ألف دينار أردني، حيث بقي رمزي وراء الجاني وهو زميل له، وقد هدد هذا رمزي بالقتل ورشاه بالمال بهدف السكوت والصمت إزاء ما اكتشفته، لكن الجاني أُجبر على الاعتراف بسبب إصرار رمزي على ذلك، فهرب إلى أمريكا ما دعا المؤسسة إلى توجيه رسالة شكر لرمزي بسبب اكتشافه لجريمة الاختلاس.
كتب الزمان أحرفَ القهر على جبين رمزي، وصدح الغرابُ فوق أعشاش الحسون في حدائق بلدته الزاهية، يعيش رمزي فوق جفنيّ القدر، يتسلق فوق عتبات الزمن، ويتحدى عقباتِ الحياة، ويتألم بين أهداب الوقت من ليالٍ باتها محدّقاً في ظلام واقعه الحزين.
لم يقف أبناء عمّه ساجد عند حدّ هدر دماه، بل تعدوا ذلك ليتقاسموا فنّ الجرم في وضح النهار، فهم يودون ألا يقتلوا رمزي بأيديهم، لذا دفعوا برجل من ذوي السوابق ليطارد رمزي في كلّ مكان بهدف أن تسيلَ دماه التي لم يزرْها الخبث، ولم تتعود سوى الطهارةِ والإيمان.
في يومٍ من الأيام وقت الغروب، خرج رمزي من باب جامعته في رام الله، فارتطم به رجلٌ في الطريق، ما كان من رمزي إلا أن قدّم اعتذاراً للرجل، لكن ذاك الرجل الموجَّه صرخ بوجه رمزي:
انتبه، أليس لك أعينٌ ترى بها.
رمزي: آسف، مع أنك أنت من ارتطم بي.
الرجل ذو الوجه السمين: يبدو أنك تافه وجاهل.
رمزي: لا تجتز حدود الأدب يا هذا.
انقض الرجل على رمزي الذي كان صلباً بالرغم من نحافته، وتشاجرا، لكن الرجل أخرج آلةً حادة من جيبه، فردّها رمزي، وصرخ: آه، هرب الرجل وبقي رمزي ينزف من يده، حيث جُرحت بآلة الرجل، لكن الشرطة لحقت بالرجل السمين وأمسكت به، وذهب رمزي إلى الطبيب لتلقي العلاج، وبعد أن أُجريت ليده اليسرى عملية جراحية بعد جرحها، دُعي رمزي إلى مقر شرطة المدينة، فعرف حينئذٍ أن ضرْبه كان بتخطيطٍ من ابن عمه سامي.
ألقت الشرطة القبض على سامي، ولم يقِم في السجن سوى يومين حيث خرج بفعلِ فاعل، ولم يكترث أحدٌ من العائلة بجرح رمزي، وقتئذٍ شعر أنه في حاجة ماسة لحماية نفسه والدفاع عنها خاصة وأن أبناء عمّه ساجد لن يتركوه حتى في رام الله.
بدأ رمزي تدريبه على فنونِ القتال، وتغيرت معالم جسده، إذ أصبح ذا متنٍ سميك، وصدرٍ متسع، وقامةٍ قوية صلبة، وقام بشراء مسدسٍ للحماية، بالرغم من تأثره بذلك بسبب كون السلاح مخالفة قانونية، لكن غياب العدالة أجبرت رمزي على أن يعتبر نفسه في إطار شريعة الغاب.
اتفق أبناء عمّ رمزي مع ثلاثة رجال على القيام بمهمة قتله مقابل خمسمائة دينار أردني للواحد منهم، وبوعود بإخراجهم من الحبس إذا أُلقي القبض عليهم بعد التنفيذ.
كان رمزي يتسوق بعد خروجه من العمل، ولدى مروره بأزقة حي مظلم ضيق في أطراف المدينة وبعيداً عن مرأى الناس، هاجمه الرجال الثلاثة المأجورون من قِبل أبناء عمه، لكن أولئك فوجئوا بشراسة رمزي، والذي أطاح بهم، وترك آثار ضربه في وجوههم، ما استدعى أبناء عمّه أن يدرسوا أمر قتله بدقة أكثر معتبرين أنهم في مواجهة شخص غير ابن عمهم الذي ألفوه ضعيفاً.
ثلاثة أعوام مرت على طرد أسرة رمزي من البلدة، وفشلت محاولات أبناء عمه في قتله مع أن تلك المحاولات كانت مستمرة، تراكم الغيظُ في قلوبهم نتيجة التقدم والنجاح الباهر الذي أحرزه في حياته.
كان رمزي يشعر بآلام حادة في جسده، لكنه لم يأبه بها، حتى جاءه يوم وأُغمي عليه وهو على كرسي العمل، وقام زملاؤه بنقله إلى المشفى، وهناك كانت الكارثة باكتشاف مرض عضال في كبدِ رمزي.
لم يمهل المرض رمزي طويلاً حتى تآكل جسده، وأصبح في حالة حرجة، كان أفراد أسرته لا يفارقونه، يقبّلون جبينه ويدعون له بالشفاء.
بينما كان رمزي في وضعٍ خطر جداً، التف أشقاؤه وشقيقاته وأبوه حوله، فقال رمزي: كنت أحلم بمستقبل لكم جميعاً، كنت أحلم بأن أعوّضكم عن فقر السنين التي عانيتموها في البلدة، وأن أمنحَكم كل نجاحٍ وطموح لكي لا تشعروا بمرارة حالكم خارج البلدة، كنت….وكنت…وكنت.
قال شقيق رمزي الصغير: ستعيش لتشتري لي دراجة هوائية، ونأكل الحلوى تحت أشجار الحرش.
همست شقيقته: كنت أشعر أننا فقدنا بيتاً وأرضاً وحديقةً خضراء…. والآن أدركت أنك يا أخي أغلى من ذاك كله… سنرجع…لا تقلق.
انتصف الليل في غرفة المشفى ولم يرق النوم أو العودة لأحد من الأشقاء.
انحنى ماجد والد رمزي مقبِّلاً جبين ابنه وعيناه تذرفان قطراتِ الدمع الساخن على وجه ابنه الأصفر: يا بنيّ…لا تخف ما دمت تسكن داخل قلبي، سأزوّجك في الغد القريب وأعمل لك عرساً يغيظ الأعداء كلهم.
في الصباح دخل الطبيب كي يكشف على رمزي، فأخبر أسرته أنه قد فارق الحياة في الساعة الثالثة صباحاً، قسوةٌ تشتد على رجال الزمن المرّ، وحرقةٌ تقاسم الحياة معناها، ألمٌ يحتسيه القلب صباحاً، ونارٌ تحترق داخل العمر ليضحي القلب رماداً يتطاير فرق أنين الوقت.
هناك يمطر التاريخ عداوة البشر، وهنا يكتب الليل تفاصيل نجومه المتوهجة، ويرسم الموج لونَ الماء الرطب في وجه الضباب، ولن يتوب العدلُ عن الغياب.
علمت أم رمزي الذي توفي في ريع شبابه بالخبر، فقامت تطلق الزغاريد قائلةً: أخذنا ثأرنا…. ثم تبكي تارة وتمزق شعرها…، عقلٌ أماته الزمن القاتل ليبقى الحقد الدفين بين شذرات الريف، ولتنضب العبارات البريئة في زمن التوقف عند محطات الكراهية.
لم يعد للدمع مكانٌ وسط العاصفة، ولم يعد للرياح وجلٌ من هزائم الصمت، لم يبق في عنق الحياة معنًى لما دقت به ضربات القلب الظريف، تعملق أقزام البغض فوق عمالقة الثلج الأبيض، قطراتٌ من الندى فوق جثمان رمزي دقّت مساماتِ الليل للخروج إلى حياة الصبح، فارقت روح رمزي لتترك شجناً في كل وادٍ بريءٍ من تعاريج الزمن.