السخرية في الشعر الحُرّ:
ما من شاعر من الشعراء المعاصرین الاّ وعَقَدَ مرة تفعيلاته ندّاً أو فكرة ناهيك بالذين قصدوا هذا الفن لمزاجهم المرح أو لاسباب أخري، فاجادوا فيه وأكثروا. وعنددراستنا لهذا الموضوع وجدنا فریقین من الادباء یتخذون الکتابةالساخرة:
أ- فريق اتّسم بالروح المرحة دائماً فتجلّت في كل كتاباتهم ويعرفون بمزاج ساخر في كتاباتهم و نظمهم كله، وقد تنالوا السخرية من وجهتين:
1- في نظم مداعبة أو نادرة أو في ردٍّ شعري ساخر يختصر نكتة أو التفاتة طريفة.
2- توسعها في أغراض الشعر علي تنوعها أسلوباً يساعد في إظهار المعاني الطف وأذكي بخاصة في الهجاء حيث للسخرية باب واسع –كما هومعلوم.
ب- و فريق ثانٍ أفاد من الفكاهة في بعض كتاباته للنقد والهجاء. يستخدم الفريق الثاني فنون السخرية للنيل من الخصوم، أو لنقد مذهب أو أسلوب أدبي، فهي أمضي سلاح هجومي لا يخرق الاعراف و لا يتحدّي القوانين إذا أُحسن استعماله ظاهراً أو باطناً في عبارات والتفاتات ذكية.
ونحن فی هذا المقال بصدد الاشارة الی السخریة فی الشعرالحروقد وقع اختیارنا علی شاعر من الرواد فی الشعرالحر ألا وهوشاعرنا الفذ نزارقبانی، وانه لایخفی علی دارس للادب العربی مکانة هذا الشاعربین شعراء العربیة فی العصر الحدیث. وقد تحدثنا اولا عن بداية الشعر الحّرفي الأدب العربي ثم تطرقنا الی السخریة والشعر الحر، وتحدثنا حول علاقة السخریة بالسیایة، وبعد ذلک دخلنا فی صلب الموضوع وهو دراسة فی السخریة السیاسیة عند الشاعر نزار قبانی.
بداية الشعر الحّر في الأدب العربي:
«ليست مشكلة التجديد في الشعر العربي حديثة العهد، بل هي قديمة ترجع إلي القرن الثامن (من الميلاد).
كان النقاد، آنذاك يعتبرون الشعر العربي، من هذه الناحية، عهدين:
يبدأ الأول قبل الاسلام بنحو مئة سنة، أي في أوائل القرن السادس، و ينتهي بعد الإسلام بنحو مئة سنة كذلگ. و تسمي هذه الفترة فترة الشعر القديم، أما العهد الثاني فيبدأ بقيام الدولة العباسية في أواسط القرن الثامن حيث بدأت فترة الشعر المحدث.»[1]
وهكذا نري التجديد و الإتيان به يتكرر فترة بعد فترة في الشعر العربي حتي نصل إلي آخر جيل من هؤلاء المتجددين الذين يعرفون بشعراء مدرسة «الشعر الحّر» و كانت علي رأسهم الشاعرة و الناقدة العراقية «نازك الملائكة»، [2] حيث تقول عن هذه الحركة: [3]
« كانت بداية حركة الشعر الحّر سنة 1947، في العراق. و من العراق، بل من بغداد نفسها، زحفت هذه الحركة و امتدّت حتي غَمرت الوطن العربي كله و كادت، بسبب تطرّف الذين استجابوا لها، تجرف أساليب شعرنا العربي الأخري جميعاً.
و كانت أول قصيدة حرة الوزن تُنشر قصيدتي المُعَنْوَنة «الكوليرا».
و قد ذكر بعض النقاد و الشعراء ميزات لهذا الشعر، منها:
« 1- الخروج من الزمن الشعري العربي الواقف إلي زمن تمتد أجزاؤه و تتسع كل لحظة.
2- تحررت القصيدة الحديثة موسيقياً من الجبرية و من حتميّة البحور الخليلية و وثنية القافية الموحدة.». [4]
یذکرمحمدحمودفی کتابه«الحداثةفی الشعرالعربی»عن بناءالقصیدة قائلاً: «فالقصيدة الجديدة لن تسكن في أي شكل وهي جاهدة ابداً في الهَرَبِ من كل انواع الأنحباس في أوزان أو ايقاعات محدودة بحيث يتاح لها أن توحي بالإحساس.» [5]
«و قد سيطرت هذه التغييرات في القافية كما سبق و رأينا علي الشعر العربي خلال فترة الكلاسيكية الجديدة و الرومانسية حتي بدأت تجارب الشعر الجديد في أواخر الأربعينات، و أحس الشاعر الحديث بمدي ثقل القافية كنوع من الإلزام الخارجي، فطرحها ضمن ما طرح من شكليات الوزن الشعري». [6]
من أشهر رُوّاد هذه المدرسة الشعرية: نازك الملائكة، و بدر شاكر السياب،[7] و البياتي [8]، و بلنـــــد الحيــــدري[9] من العــــراق،و صــــلاح عبدالصبـــور[10]و عبدالمعطي حجازي[11]،و أمل دنقل[12] من مصر، و أدونيس [13]، و نزار قباني الذي سنرکزفی هذه المقالةعلی سخریته السیاسیة من سوريا و خليل حاوی [14]من لبنان، و محمد الفيتوري [15]من السودان، و محمود درويش و سميح القاسم من فلسطين، و....
السخرية و الشعر الحرّ:
رغم التغيير الحاصل في الشكل و المضامين الشعرية عند الشعراء الجُدد لم،نلاحظ تغييراً هاماً في مجال استخدام الفن الساخر عند الشعراء، فما زالت المواضيع نفسها التي كانت تستخدم في الشعر الكلاسيكي إلاّ أننّا نري قد تغيّر الأسلوب من المباشر إلي الغير مباشر و في بعض الأمعان و التدقيق.
و عندما نتصفّح دواوين هؤلاء الشعراء، نجد السخرية قد أخذت حيّزاً واسعاً من الشعر الساخر بالنسبة لأنواع السخرية الشعرية المستخدمة في شعرهم، و قد ساهمت السخرية السياسية في تمثيل الواضع الراهن في العالم العربي حيث تمنحنا صوراً واضحة عن قضاياه و تساعدنا في الإصلاع علي خفاياه من مختلف جوانبه، المحليّة و العربيّة و العالميّة، رابطة الأحداث بما يدور حولنا.
طبعاً، لم تقتصر السخرية عند هؤلاء الشعراء علي هذا اللون فقط، بل نجد في مجالات أخري قد استطاعت السخرية أن تصوّر من خلالها معالم حياة العالم العربي لأن السخرية تنبثق مع كل حركة أو كلمة و لا تُحدّد نبوع خاص أو مجال محدود، و بالأحري نستطيع أن نقول:كلّ موضوع يصلح أن يكون محطّة للسخرية.
و لو أردنا أن نقسم الشعراء في مجال استخدم السخرية لجعلناهم في جماعتين: جماعة قد اتخذت السخرية أسلوباً في شعرها فتجلّت في كل شعرها، مِنْ أمثال:نزار قباني و أحمد مطر،
فإنّ هذین الشاعرین أستطاعا أن يستخدما ألوان السخرية بغزارة في شعرهما لا سيّما في المجال السياسي، فالسخرية عندهما سلاح هجومي لا يخرق الاعراف، و لا يتحّدي القوانين إذا أحسن استخدامه ظاهراً أو باطناً في عبارات و التفاتات ذكيّة.
و جماعة ثانية أفادت من السخرية في بعض أشعارها للنقد و الإعتراض،فنري قصائد ساخرة هنا و هناك في دواوينهم و أنهّم قد استخدموا السخرية في مجالات متنوّعة، دون أن تطفي السخرية علي شعرهم، من هؤلاء الشعراء: البياتي و صلاح عبدالصبور، و أمل دنقل و غيرهم.
علاقة السخرية بالسياسة:
«ترجع المعاني اللغوية للكلمة»السياسة«كما وردت في المعاجم إلي تدبير شئون الناس،و تملك أمورهم، و الرياسة عليهم، و نفاذ الأمر فيهم». [16]
«هذه هي السياسة، و يكون الشعر السياسي إذاً، هو هذا الفن من الكلام الذي يتصل بنظام الدول الداخلي أو بنفوذ ها الخارجي و مكانتها بين الدول».[17]
و حسب هذه التعاريف تكون بين السخرية و السياسة علاقة و طيدة، لأنّ السياسة هي فن الحكم و يحتاج من يتعاطاها أن يكون ذكياً في معاملته مع الآخرين، و في السخرية أيضاً يجب علي من يكتبها أن يتمتع بذكاء و لباقة –كما بيننّا –لكي يستطيع الربط المطلوب و الموجود،و بين الظاهر المستور.
و من ناحية أخري- كما نعلم-انّ السخرية سلاح في أيدي المظلومين و المضطهدين و المغبونين لنقد الساسة و كشف عيوبهم، و قد تكون سلاحاً في أيدي الطبقة الحكامة لينصحوا أو يشيروا ساخرين للوصل إلي الحقيقة.
وهكذا نعرف أن السخرية متصلة بالسياسة منذ القدم حتي يومنا هذا، و لدينا لون خاص من الأدب الساخر يُعرف بالسخرية السياسية. واستهوي الكثير من الشعراء منذ القديم حتي يومنا هذا و خاصة في هذه الأيام أصبح هذا اللون من السخرية أكلةً يوميّة يستعذبونهاويتداولونها، حتي نجد الشاعر يكتب دوواين من الشعر في هذا المجال، و كما يقول الشاعر:
قُلْتُ يا هندُ دَعيني وَ اجرييَغَــلِبُ الــلائِذ بـــالصَبرِ ابتئاسَهْإنّما يا هندُ دَعيـــني وَ اجريتمـلِكُ الــرأسَ مَـــعَ ربِّ الرئاسهقَدْ دَعَـانــا للهـوي نــاظـِرُهافــاستـجَبَنَا بــانقيــادٍ وَحمــاسَهفأجـابتني و مـا تـُـدْعَي التيقَدْ سَباكم حُسْنُها ؟قلت السياسة» [18]
و قد نري أن هذا الأسلوب أكثر شيوعاً و استعمالاً عند شعوب دول العالم الثالث و ذلك يرجع إلي أن هذه الشعوب لا تستطيع أن تنتقد ما يجري في بلدها بصراحة و دون خوف، فنراها تلتجي إلي طريقة ساخرة غير مباشرة و في بعض الاحيان لاذعة، لتصوّر ما يمرّ عليها من المصاعب و المصائب من قِبَل هذه الشعوب.
و في دراستنا هذه سنقف عندالشاعرالکبیرنزارقبانی الذي أورد الكثير من هذا اللون في شعره هومن الشعراءالذین امتهنوا السياسة و عاشوا فترات طويلة من عمرهم يمارسونها. نزار قباني والسخرية السياسية: [19]
«تميّز شعرنزار قباني بعد نكسة حزيران 1967 بالغضب العنيف، و برفض جميع المؤسسات، و الأفكار، و الخرافات القديمة، و مارس علي نفسه، و علي قومه، أجرأَ عمليّة نقد ذاتّي مارسها شاعر من قبل، و بشَّرَ بولادة إنسان عربيّ جديد، يتخلّص من أوهامه و خدَرِه، و رومنطيقية، و يواجه القرن العشرين بمنطقه و أسلحته».[20]
أسلوب نزار متميز يعرفه قراؤه و ان كانت أشعاره بلا توقيع، في شعره الغزلي، و في شعره السياسي، و لكننّا نركّز علي شعره السياسي الذي يختص بمجال دراستنا و هو حافلٌ بالشواهد المضيئة علي ظاهرة السخرية. فهو قد رَفعَ العِذار بنيه و بين السياسة والسياسيين، فاختار أكباشه من بينهم و قلّما نجد مَنْ نجا من حدّة لسانه الساخر، حتي اختلف النقاد مرة أخري في شأنه بعد أن اختلفوا فيه سابقاً في أشعاره و الغزليّة، فأعتبر بعضهم «نزارَ مناضلاً يسنِّ القلم في خندق واحد مع المناضلين بالرشاش و الكلاشينكوف، وبعضهم اعتبرة مزايداً استثمر النكسة و آلام الجماهير العربية، و البعض الآخر أغضبه الهجاء نزار بالشعوبية لأنه يهاجم كل ما هو عربي و يتهم العرب بالتخلّف و الجهل و الجاهليّة و الغدر و يسخر من تاريخهم و أفكارهم و أدبهم و يهزأ بكل ما يقدسه العرب….
والبعض الآخر إتّهم نزار بالسادية والرغبة في جلد الذات العربية في محاولة للتشفي واتخذوا من انتحار شقيقته (وصال) سبباً سيكلوجياً لدعوي السادية التي اتهموا بها نزار و أنه كان يحاول جلد الذات العربية التي تسببت برجعيتها و صلفها في مقتل شقيقته التي حرمتها التقاليد العربية من الزواج ممن تحب فانتحرت.».[21]
مهما كانت الأسباب فنحن لا نريد الاّ أن ندرس جانباً من شعر نزار السياسي و هو الجانب الساخر من شعره. و كما ذکرنا في بداية هذا البحث قلّما نجد أحداً نجا من حدّة لسانه الساخر، بداية بالزعماء و الساسة حتي المخبرين و الشُرطة.
«يری ( ماندل) أن في الانسان قوة استثنائية من نزوات العدوانية يمكن ارجاعها الي ما سميناه الجرح النرجسي الأصلي الذي يتغذَّي من مجموع احباطات الطفولة و قيودها و تبعيتّها. والعدوانية إذن جواب (الأنا) عن معاناة آلام النرجسية.[22]
فهي تبغي الهرب من القلق و الضعف بالصطناع القوة و الجبروت. و ربّما عَمَد صاحبنا الي السخرية يتوسّلها قفاعاً من أقفعة التستر يخفي بها حقيقة ضعفه، كي لا ينفجر باكياً مثل النساء. هكذا بعد حزيران،حين يلتفت الشاعر حوله و لا يري شيئاً تغيّر. كأنّ المعركة لا تخصّنا بل تعني سوانا، نراه يوغل في التشفي الساخر » [23] من خلال قصائده. و من أشهر هذه القصائد، قصیدةتحمل عنوان «هوامش علي دفتر النكسة» يقول في بعض أبياتها:
أنعي لكم يا أصدقائي اللغة القديمةوالكتب القديمةأنعي لكمكلامنا المثقوب كالأحذية القديمةومفردات العهر و الهجاء و الشتميةأنعي لكم … أنعي لكمنهاية الفكر الذي قاد إلي الهزيمة* * *يا وطني الخرينحولتني بلحظةمن شاعر يكتب شعر الحب و الحنينلشاعر يكتب بالسكين* * *لأن ما نحسه أكبر من أوراقنالابد أن نخجل من أشعارنا* * *إذا خسرنا الحرب … لا غرابهلأننا ندخلها …بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابهبالعنتريات التي ما قتلت ذبابهلأننا ندخلهابمنطق الطلبة والربابهالسرّ في مأساتناصراخنا أضخم من أصواتناوسيفنا أطول من قاماتنا* * *خلاصة القضيةتوجز في عبارهلقد لبسنا قشرة الحضارهوالروح جاهلية* * *بالناي و المزمارلا يحدث انتصاركلفنا ارتجالناخمسين ألف خيمة جديدة* * *لو أحد يمنحني الأمانلو كنت أستطيع أن أقابل السلطانقلت له يا سيدي السلطانكلابك المفترسات مزقت ردائيو مخبروك دائماً ورائيأنوفهم ورائيأقدامهم ورائيكالقدر المحترم … كالقضاءيستجوبون زوجتيو يكتبون عندهمأسماء أصدقائييا حضرة السلطانلأنني اقتربت من أسوارك الصماءلأننيحاولت أن أكشف عن حزني و عن بلائيضربت بالحذاءأرغمني جندك أن آكل من حذائييا سيدييا سيدي السلطانلقد خسرت الحرب مرتين… [24]
« و نزار في قصيدة «هوامش علي دفتر النكسة »يوّجه رسالة غضب إلي زعیم من الزعماء وَ يقلِب المائدة عليه و هو عندما يلومه يلوم كل العرب و هو عندما يسبه و يشتمه،يشتم فيه كل الواقع العربي المرير و هو عندما يهيل عليه التراب يهيل التراب علي كل العرب مجتمعين و مجسدين في ذلک الزعیم … حتي عندما يسخر منه و يهجوه هجاء مقذعاً يهجو فيه الانسان العربي و الممارسات العربية المستفزة ما يريد أن يوبخ الأنظمة العربية و القمع العربي والسلبية و التواكلية و الانهزامية لا يجد أمامه وسيلة إلا أن يقذف ذلک الزعیم بالبيض الفاسد في موجة المظاهرة العربية الغاضبة».
و اما بالنسبة للصورة الساخرة المستخدمة في هذه القصيدة فنجد الكثير منها في هذه القصيدة، مثل تشبيهه اللغة العربية القديمة وكتبها بأحذية مثقوبة قديمة التي لا تساوي شيئاً عندالجميع، و لكن اكثر ما نجد من هذه الصورة فنجدها في المقطع الرابع حسب ما أوردناه – فيسخر نزار من الخطابات التي تُلقَي من قِبل زعماء العرب، فهي لا تتجاوز حدَّ الكلام، أو هذه الصورة الساخرة التي تصوّر البطل في ساحة الحرب و هو يحمل سيفاً يفوق قامته طولاً، فدون شكٍ هذه الهيئة تثير الضحك بدلاً من الهيبة والرهبة في داخل الأعداء.
و من الاسماء التي تكرر ذكرها في شعر نزار، أسم الحاكم فهو عندما يتكلم في شعره عن الحاكم يقصد به الحاكم العربي و لا يتخلف عنده أن يكون أميراً، أو سلطاناً،أو ملكاً،أو رئيساً،أو صاحب جلالة، لأن الحكام كلهم علي شاكلة واحدة من المحيط إلي الخليج و إن تغيّرت العناوين فنري ميلاً الي السخرية في حديث نزار عن الحاكم العربي. فهو القائل:
نحن بغايا العمر كل حاكميبيعنا و يقبض الثمننحن جواري القصر يرسلوننامن حجرة لحجرةمن قبضة لقبضةمن هالك لهالكمن وثن إلي وثننركض كالكلاب كل ليلهمن عدن … لطنجهمن طنجه إلي عدن [25]
«و يتكي الشاعر علي كل الممارسات المشبوهة للحكام و كيف أنّ الرعية دائماً هي التي تدفع الثمن و يطلب في سخرية ان يتوقف الكتّاب و الشعراء في نصيحة خبيثة عن الإشاره إلي خطايا الحاكم:
لا تتعرض للسلاطين إذا تقهّرواأو قامروا… أو تاجروا …فهذه مسألية شخصية»[26]
«والحكام العرب كما يصورهم نزار في كل قصائده يعيشون في بذح و رفاهية منعمين مترفين يمارسون كل المتع الحسية كما كان يعيش الملوك الذين يحيطون أنفسهم بالجواري و الحرائر و العبيد و المغنين و الراقصات كل ذلك داخل قصر منيف مثل قصور ملوك و سلاطين أساطير ألف ليلة:
هذا بلاغ من بلاط صاحب الجلالةالأخضر اليدين … و المكتمل الصفات … و المبجل الألقابتحسساً من ملك الملوكبحاجة الشعب إلي العدالة » [27]
المفردة التالية التي لها صلة بالحاكم و بسخرية نزار الشعرية، هي مفردة «الحكومة» أو «الدولة» عند العرب، فقد انتقد نزار الدول و الحكومات العربية بأسلوب لاذع و مقذع فللدولة في هذا القرن، تعريف خاص:
الدولة منذ بداية هذا القرن تعيد تقاسيم الطّبْلَه:
«العدل أساس الملك»
«الشوري – بين الناس – أساس الملك»
« الشعب – كما نصَّ الدستور – أساس الملك».
يا ربَّ الكون شبعنا من ضرب الطّبْلَهْ…
لا أحد يرقُصُ بالكلمات سوي الدولَهْ …
«القَمعُ أساس الملكْ»
«شَنْقُ الانسان أساس الملك»
«تأليهُ الشَخصِ أساس الملك»
«تجديد البَيْعَه للحكام أساس الملك». [28]
شعارات مثل «العدل أساس الملك» و غيرها من هذه الشعارات معروفة عند العرب و المسلمين، و كانت حقاً أساساً للملك و السيادة، و لكن قد انقلبت جميع الشعارات و أصبح «القمع» و «الشنق» و «تأليه الحكام» و … مفردات قد أخذت تُعْرَف من قبل الحكّام علي طبلة السياسة و علي الشعوب أن ترقص علي هذا الإيقاع، فإذا أراد أن يخرج عن ايقاع هذا العزف و لو بضحكة، فالويل له:
أوقفونيو أنان أضحك كالمجنون وحديمن خطاب كان يلقيه أمير المؤمنينكلفتني ضحكتي عَشْرَ سنينسألونيعمّن حرّضوني فضحكقال عنّي المدّعي العام…و قال الجندُ حين اعتقلوني …إنني ضد الحكومة…لم أكن أعرف أن الضحكيحتاج لترخيص الحكومه… [29]
والصور التي يرسمها لنا نزار قباني في شعره عن حكام العرب هي دائماً صورة حاكم متخاذل أناني، لا يحتمل الرأي المخالف أبداً. فالحكام هو الأول و الآخر. و هو المسؤول عن كل شيء حتي الأحكام و الأشعار:
لا أحد يقرؤنافي مُدُنٍصارت بها مباحث الدولةعرّاب الأدب … [30]
فإذا أراد أن يصبح شخص ما في بلدٍ عربي كاتباً أو شاعراً،فيقدّم له نزار نصائحاً ذهبيةً لكي يصبح شاعراً مرقوماً «في أدب الكتابة النفطية»[31]منها:
لو شاءت الأقدار أن تكون كاتباً
يجلس تحت جُبّة الصحافة النفطية
فهذه نصائحي إليك:
1-أُدخل الي مدرسة تُعَلِّمُ الاميّة2- أُكتب بلا أصابعٍ.و كن بلا قضيّة3- إمسح حذاء الدولة العليَّة4- إشطبْ من القاموس كلمة الحريّة5- لا تتحدَّثْ عن شؤون الفقر،والثورة،في الشوارع الخلفيّة6- لا تَنْتَقِد أجهزه القمع، و لا تضعْأنفك في المسائل القومية.7- كن غامضاً …في كل ما تكتبوالزم مَبْدَأ التقيّة… [32]
هذه هي نصائح نزار الذهبية للكاتب العربي إذا أراد أن يستمر في هذه المهنة و يُبقي له الوالي لساناً يتكلم به و يداً يكتب بها. هذا الوصف الساخر للكتّاب يحمل معه بذرة الشك في داخل البعض حول الكثير ممن يكتبون في بلدان العرب، لهذا نري كلَّ جماعة ترفع أصابع الإتهام نحو جماعة أخري، لأن مع هذه النصائح، الأفضلُ أن لا يُكتب شيء.
و لو أردنا أن نخرج قليلاً من سخرية نزار السياسية إلي لون آخر من سخرياته لما وجدنا الجديد إلا القليل من القصائد و هي تهتم بالتمرد علي قيم الدين و السخرية من المعتقدات – و علي حد قول الدكتور نبيل خالد و هو يقول في قصيدة(خبزو حشيش و قمر) التي أصدرها نزار في عام 1954 قبل أن يضمها ديوان قصائد، و قد أثارت معاينها حفيظة الشارع الاسلامي، و كان موقف رجال الدين منها ضراوة من موفقهم من ديوانه (قالت لي السمراء)، و ما ينطوي عليه من المعاني الإباحية،إذ تطاول نزار فيها علي القيم الاسلامية و استهزاء بمعتقدات المسلمين و مقدساتهم بمثل قوله:
في ليالي الشرق لمّايبلغ البدرُ تمامه…يتعرَّي الشرقُ من كل كرامهو و نضالِ…فالملايين التي تركض من غير نعال…و التي تؤمن في أربع زوجاتٍو في يوم القيامة…تتردَّي جُثثاً تحت الضياءفي بلادي … حيث يبكي الأغبياءْو يموتون بكاء…كلّما طالعهُم وجه الهلال [33]
«قد يكون هذا النص الثمرة الثانية من ثمار دروس الحرية التي تعلمها نزار في لندن، و قد يكون التمرد علي قيم الدين و السخرية من المعتقدات من أبجد يات الحرية التي يقصدها نزار»[34]،و كان طبيعياً أن يتعرض الشاعر للناحية السلبية من الإيمان بالدين إذ همو يسخر من الراكعين في المعابد، الموغلين في الإغماء و الدوار، و يتهكم علي الأتقياء اللابسين جُبَّةَ الصوف و السائلين رضي الأولياء:
أتركوا اولياءنا بسلامٍأيُّ أرضٍ أعادها الأولياءكما يسخر من الراضخين لمشيئه الغيب، الخاضعين لسنة القضاء يقول ناطقاً بلسان هؤلاء المتخاذ لين:كنت في المخفر مكسوراً كبلّور كنيسةنافخاً سورة «ياسين» بوجه القاتلينلم أكن أملك إلاّ الصبر(واللهُ يحب الصابرين)
ذلك أن انسان العالم الثالث مستسلم للقضاء، مقتنع أنَّ ما يصيبه هو حكم ربّ العالمين، و لا سبيل الي ردّ قضائه». [35]
و لو تصفحنا دواوين نزار لوجدنا أشعاراً سياسية ساخره أكثر مما أتينا بها، و لكن لا نری الجديد من حيث المضمون فيها، حتي الأشعار الأخيرة التي قالها بعد اتفاق «أوسلو» فالمضامين هي هي، و الكلمات هي هي، و النبرة الشعرية هي هي، و لكن «سخرية» نزار ليست بعيدة عن سادية النرجسي لأن فيها تشفّياً من أوجاع الآخرين، و تعالياً عليهم. و اذا اكتفي سقراط قديماً بالتهكم علي السفسطائيين لأظهار تهافتهم، فإن نزاراً يذهب الي أبعد من ذلك حين يعتمد السخرية ليجلد بها ظهور المقصرين». [36]
و أقول في نهاية هذه المقالة عن نزار:« قد يكون نزار قباني بين القلّة من الشعراء الذين كسروا الحواجز الاقليمية، و ذاقو طعم العولمة قبل اكتشاف (الانترنيت )، ذلك أنّ شعره العاطفي و الوطني تجاوز في الترجمة عدد اللغات الرئيسية الستّ». [37]
المصادر:
1- ابراهيمي، صادق، السخریةفیالادب الحدیث، رسالة دکتوراة بجامعةازادالاسلامی2002م.
2- أبو حاقة،أحمد، الالتزام في الشعر العربي، دارالعلم للملايين، بيروت،1979م.
3- أدونيس(علي أحمد سعيد)، زمن الشعر، دارالعوده، بيروت،ط3،1983م.
4-بصری، میراعلام الائب فیالعراق الحدیث،دارالحکمةط1،1994م.
5- تاج الدين، أحمد، نزار قباني و الشعر السياسي، الدار الثقافية للنشر، القاهرة، 2001م.
6- جودة السحار، اعلام الفكر العربي، مكتبة مصر، القاهرة،بلاتا.
7- حمود، محمد، الحداثة في الشعر العربي، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 1996م.
8- خالد أبو علي، نبيل،نزار قباني شاعر المراءة و السياسة، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1999م.
9- الشايب، أحمد، تاريخ الشعر السياسي، دارالقلم، بيروت،ط5،1976م.
10- عبدالفتاح، علي، شخصيّات أدبية، مكتبة ابن كثير،الكويت، 1998.
11- الفاخوري، حنا، الجامع في تاريخ الأدب العربي، دار الجيل، بيروت، ط2، 1995.
12- قباني،نزار، الأعمال السياسية الكاملة، ج3، منشورات نزار قباني، بيروت3،ط3،1983.
13- ـــــــــــــــ، الأعمال السياسية الكاملة، ج6، منشورات نزار قباني، ط2، 1999.
14— الملائكة، نازك، قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين، بيروت، ط2،1992.
15- نجم، خريستو، النرجسية في أدب نزار قباني، دار الرائد العربي، بيروت، 1983م.
16- نظام الدين، عرفان،آخر كلمات نزار، دار الساقي،بيروت، 1999.
17- الورقي، سعيد، لغة الشعر العربي الحديث، دار النهضة العربية، بيروت، ط3، 1984.
الحواشی:
1- أدونيس(علي أحمد سعيد)، 1983 م، ص27.
2-ولدت نازك الملائكة عام 1923 في أسرة غنية من أكبر الأسر العراقية، و نشأت بين أبوين مثقفين ثقافة عالية، فنشأت في جو مشبع بحب الأدب العربي، حصلت علي ليسانس اللغة العربية سنة 1944 بامتياز من دار المعلمين العليا ببغداد.
استكملت دراستها في الأدب المقارن من جامعة «ويسكونن» عام 1955. من مؤلفاتها: دواوين: عاشقة الليل، شظا ياور ماد، شجرة القمر، أغنية الإنسان، و كتبت في النقد كتابي: شعر علي محمود طه، و قضايا الشعر المعاصر. (جودة السحار بلاتاریخ، ص326).
3- الملائكة، نازك، 1992م،ص35.
4- الورقي، سعيد، 1984م، ص189.
5- حمود، محمد، 1996م، ص81.
6- المصدرالسابق، ص209.
7- من روّاد الشعر الحّر، ولد عام 1926 في بلدة تدعي جيكور. تلقي دوسه في مدينة البصرة و تخرج في دار المعلمين ببغداد عام 1948 في اللغة الانكليزية. و توفي عام 1964 علي أثر عضال لازمه بضع الاقنان، و أشودة المطر، وشناشيل ابنة الجلبي. (أحمد ابو حاقة، الالتزام في الشعر العربي، ص402).
8- عبدالوهاب البياتي شاعر عراقي ولد عام 1926. نشأ في بغداد، و فيها تعلّم حتي تخرّج في دار المعلمين عام 1950، متخصصاً في اللغة العربية و آدابها. من مؤلفاته: دواوين: ملائكة و شياطين، و أباريق مهمشة، الكتابة علي الطين، … (احمد ابوحاقة، الالتزام في الشعر العربي، ص 412 ).
9- بلند أكرم الحيدري، أحد روّاد الشعر الحّر، ولد عام 1926 في بغداد. له دواوين كثيرة منها: ديوان: «خفقة الطين» الذي كان له صدي في الشعر العربي الحديث. (مير بصري، اعلام الأدب في العراق الحديث، ج2،ص579).
10— ولد محمد صلاح عبدالصبور عام 1931 بالزقازيق في أسرة فقيرة. لحق بجامعة القاهرة وحصل علي درجة الليسانس عام من كلية الآداب قسم اللغة الانكليزية ولم يتجاوز العشرين عمره. من مؤلفاته: الناس في بلادي، و أقول لكم، أصوات العصر، و مسرحية شعرية تحمل عنوان«الحلاج». توفي صلاح عبدالصبور سنة 1981 و هو في الخمسين من عمره.( جودة السحار، بلا،ص352).
11— أحمد عبدالمعطي حجازي: شاعر مصري. ولد عام 1935 في بلدة ريفية تدعي «تلاّ» و ترعرع و تلقي دروسه فيها. غادر الريف إلي القاهرة عام1950، و انصدم بحياة الناس في المدينة فكتب اول دواوينه «مدينه بلا قلب» عام 1959. له عده أعمال أخري منها: «لم يبق الاّ الاعتراف » و «أوراس» و … (أحمد أبو حاقة، الالتزام في الشعر العربي، ص616).
12- شاعر مصري من مواليد سنة 1941، عاش طفولته في مدينة «قنا»ثم رحل عام 1960 إلي القاهرة و كتب القصائد في الشهداء و الأبطال و زعماء الحرية إلاّ أن السرطان لم يمهله و في عام 1982 أسرع الموت إليه وانتزع حياته.له دواوين كثيرة منها:« قصائد غير منشورة»، و «مقتل القمر»، و « البكاء بين يدي زرقاء اليمامة ». و … (علي عبدالفتاح، شخصيات أدبية، ص445).
13- علي أحمدسعید، ولد في قصابين بسوريا عام 1930. تلقي دروسه الأولي في قريته و بخاصة علي يدي والده. ثم إلي اللاذقية حيث تخرّج في الفلسفة عام 1954، مارس الشعر منذ صباه. له الكثير من الدواوين منها: «قالت الأرض»، و «قصائد أولي» و « قصائد أولي» و «أوراق في الريح»، و « أغاني مهيار الدمقشي»، و … (أحمد ابو حاقة، الالتزام في الشعر العربي، ص491)
14- ولد خليل حاوي عام 1915 في لبنان. و هو أحد الروّاد الافذاذ في الشعر العربي الحديث و ابداعته الشعرية المتميزة، كانت تعبيراً فنيّاً رائعاً عن رؤية نافذة و تجربة شعرية عميقة، تجلّت في دواوينه الخمسة: » نهر الرماد« و »الناي و الريح« و «بيادر الجوع» و«الرعد الجريح » و«من جحيم الكوميديا». (ريتا عوض، ديوان خليل حاوي، المقدمة، ص6).
15- محمد مفتاح الفيتوري ولد في الاسكندرية عام 1930 من والد سوداني و أم مصرية. شعر الفيتوري، شعر العنصري ،فجاءت دواوينة باسماء: » أغاني افريقيا« و «عاشق من افريقيا» و «اذكريني يا افريقيا» و مسرحية «أحزان افريقيا». (احمد ابو حاقة: الالتزام في الشعر العربي، ص665).
16- الشايب، أحمد، تاريخ الشعر السياسي، دارالقلم، بيروت، ط5،1976م، ص1.
17- المصدر نفسه، ص4.
18- ابراهیمی کاوری،صادق 2002م، صص25-26.
19- ولد نزار قباني عام 1923 في دمشق، و تعلّم فيها و تخرج من كلية الحقوق بالجامعة السورية و عمل بالسلك السياسي السوري إحدي و عشرين سنة. فهو أشهر الشعراء العرب المعاصرين في الصنف الثاني من القرن العشرين بقصائده العاطفية و قصائده السياسيه الصريحة اللاذعة. من دواوينه: « قالت لي السمراء »، و «طفولة النهد»، و « سامبا» و… (جودة السحار، بلا، ص324).
20- الفاخوري، حنا 1995م، صص687-688.
21- أحمد تاج الدين، 2001م،ص6.
22- النرجِسيَّة: (في التحليل النفسي): عِشْقُ المرء لذاته، و المصطلح يرجع إلي أسطورة يونانية قديمة.
23-خرسيتو نجم، 1983م،ص362.
24- نزار قباني، 1999م،ج6،صص 473-497.
25 نزار قباني، 1983م، ج3،ص224.
26- أحمد تاج الدين، 2001م، ص155.
27- المصدر نفسه، صص 155- 156.
28- نزار قباني، 1999م،ج6،ص ص132-133. –
29- نزار قباني، 1983، ج3،ص261.
30- المصدر نفسه، ج6، ص112.
31-«النصاح الذهبية في أدب الكتابة النفطية» عنوان لإحدي قصائد نزار.
32- نزار قباني، 1999م، ج6،صص253- 255.
33— نزار قباني، الاعمال الكاملة، ج1،صص364-368.
34- نبيل خالد أبو علي، نبيل،1999م، صص 127-128.
35- خريستو نجم، 1983م، صص 365-366.
36- المصدرالسابق ص367.
37- نظام الدين، عرفان، 1999م، ص 149.
مشاركة منتدى
17 شباط (فبراير) 2020, 18:47
ان احمد مطلر هو اعظم شاعر بالنسبة لي
وانا ايضا شاعرة الغد القريب البعيد
فلا غرو اني رب الشعر منفردا
ففي شعري التترياق وفيه الداء