السّخریة فی شعر الشّعراء الکلاسیکیين
– إعداد:عبدالکریم البوغبیش، أستاذ مساعد بجامعة آزاد الإسلامیّة فرع آبادان- إیران
المقدمة:
تحاول هذه المقالة دراسة السّخریة عند رائدین من رواد الشعرفي العصرالحدیث ألا وهما محمود سامي البارودي وأحمد شوقي، فدواوین هذین الشاعرین زاخرة بالادب السّاخر ،والسخریة من الفنون الّتي یلجأ الیها عادة الشعراء لبیان ما یکمن في أعماقهم لیظهروه بطریقة سهلة للجماهیرالّتي تتذوق هذا الفن وتدرک اهداف الإتیان بهکذا أشعارمن قبل الشاعرفکما ذکرنا في مقالات سابقة لا تهدف السخریةَ إلی اضحاک قرّائها فقط بل لها اغراض واهداف ثانویة ، ولا یستطیع فهم مغزی الشاعر إلّا متذوقي هذا النمط الشعري،فنری الکثیر من الشعراء عندما یرید بیان ظاهرة من ظواهر مجتمعه، إجتماعیة کانت أوسیاسیّة ،یتخذ من السّخریّة وسیلة لإبراز تلک الظواهر، وقد تکون السّخریةللسخریة فقط،ونحن في المقال أتینا ببیان وجیز حول الشّعر الکلاسیکي في العصر الحدیث وطرق استخدامه للسخریة ومن ثم درسنا سخریّة محمود سامي البارودي من خلال سخريته من العاهات الخلقية وبعد ذلک تطرقنا إلی سخریّة شاعرنا الکبر احمد شوقي من خلال سخريته في قصص الحيوان ،والآن ندخل في صلب المواضیع.
الشعر الكلاسيكي في العصر الحاضر:
الكلاسيكية أوالتقليدية هي«صفة تطلق علی أي أدب يتميز علی الأقل ببعض المميّزات الآتية : الإتزان، الوحدة الفنية ،تناسبُ الأجزاء،الإعتدال ، البساطة الوَقورة.» [1] والكلاسيكي هوالأديب التقليدي المتبّع هذه المعايير التي يُعترف بها في كل زمان ومكان . ويكون الشعر العربي في العصر الحاضر قد نهض في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين علی قواعد المدرسة الكلاسيكية وأصولها المعروفة ، وقد التزمت جماعة من الشعراء بهذه الأصول في الأغراض والشكل واللغة والمحتوی،فجاء إنتاجها خطابياً تقريرياً يأخذ برتابة النّغم وعموديّة القصيدة ووحدة البيت ، ويعني الشاعر بالصياغة اللفظية عناية فائقة ، ويهدف إلی الإثارة والإعجاب والطرب ، ويتدفع صاحبه إلی القول بحسب المناسبات والأحداث الخارجية .
يعرف هؤلاء الشعراء في شعرنا المعاصر باسم «مدرسة البعث والاحياء الكلاسيكية » وكان حامل لواءها الشاعر محمود سامي البارودي ومن أشهر روّادها وكبارها في شعرنا المعاصر هم: أحمد شوقي ، وحافظ ابراهيم ،ومعروف الرصافي ،والزهاوي،و… وإن كانت فروق فرديّة بين كل شاعر وآخر ، حسب إستعداده وثقافته.
كانت السّمة البارزة لهذه المدرسة الشعرية هي اعتقادهم بأن أصول الشعر والمعايير التي قد وضعت له ثابتة ولا تتحوّل ، ولهذا لا يجوز لشاعر أن يتخطي تلك الحدود بل علیه أن يسير في ذلك المنهج وعلی الشّاعر أن يتخذ شاعراً كبيراً من القدامی كأسوة وقدوة يقتدي به ويستلهم منه، ولوأردنا أن نحدد ملامح هذه المدرسة في الشعر العربي المعاصر لكان علی الترتيب التإلی:
1- كانت هذه المدرسة متعددة المجالات وقد تعرّض شعراؤها للمجالات الاجتماعيّة والسياسيّة والأدبية و….
2- الأساس والأصل هوالقديم والتقليد يغلب علی أفكار الشّعراء ، وإن كان نسق الأفكار يختلف مع ما كان يأتي به القدامي.
3- علی الرغم من تجمع أبيات القصائد تحت أفكار موحّدة ، لم يستطع الشّعراء الوصول إلی الوحدة العضويّة المتكاملة.
4- وأهم وأبرز ميزة لهذه المدرسة هي محافظتها علی الوزن والقافية والإتيان بالقصيدة العمودية..
قد أتينا بهذا القليل لكي نعطي فكرة مصغرة عما كنا نريد بالمدرسة الكلاسيكية ويكون مدخلاً للولوج في صلب الموضوع.
والشعر الكلاسيكي المعاصر عرف السخرية في فنون مختلفة غير الهجاء . لذلك نبيّن كيفية تعاطيها مع السّخرية حسب مايلي:
1- الوصف: كان الوصف ولم يزل يقصده السّاخرون لأنّه يخدمهم في مجالات واسعة يتّخذون فيها مقاصدهم فيجولون بين الحسّي ليشكّلوا الصور المشوهة أويتوسلون الخيال أحياناً ليبتكروا فريد اللوحات الغربية وهم دائماً مطلقون لما في أنفسهم من عوامل مفرحة أومؤذية بكل سهولة ويسر… وما أكثر هذا النتاج شعراً وغير شعر في بطون الكتب.
2- المداعبة :قلّما خلا ديوان من بيت أوقصيدة في المداعبة ، وهي ليست دائماً مبتذلة في نظم ضعيف أوقريب من العامية مثلاً ، إذ انّ الشّاعر قد لا يخرج عن شعره الرصين – إن عُرف به- لكنّه لابدّ أن يطرأ علیه موضوع ساخر فيسجّله أويُطلب منه في مجلس أن ينظم في إنسان أوموضوع ما قصيدة ساخرة أوأن يردّ علی أحدهم داعبه أوهجاه ، أوقد يعمد من تلقاء نفسه إلی وصف أوهجاء .
ونحن لوراجعنا دواوين هؤلاء الشعراء لوجدنا المداعبة ملازمة لهذه الفئة من الشعراء [2]
أيضاً ،يرون في هذا تحللاً من قيود الرّصانة في المواجهة والهروب من خوف ملل القاريء أوالسامع كما يقول المسعودي عن الجاحظ! «وكساها (كتب الجاحظ) من كلامه أجزل لفظ ، و [3]كان إذا تخوّف ملل القاريء وسآمه السّامع خرج من جدًّ إلی هزل ، ومن حكمة بليغة إلی نادرة ظريفة».
3- الهجاء : وقد تقسوالسّخرية في الهجاء ، فهوأقسی الطرق في إظهار السّخرية لأنه يعتمد علی الشتم والتعيير والاهانه والتفتيش عن العيوب ، وكلما ازداد حدّةً وبذاءة أكثر من الصور المبتكرة والالتفاتات الذكيّة ،مستخدماً قدرة اللّغة ،ألفاظاً مفردة وتراكيب ، ودائماً في توجيه من حسّ مرح يطلب الدّعابة أوالإساءة متحولاً من فرح مشاع إلی لذة ذاتية .
من خلال دراستنا لنماذج من الشعر الساخر عند الكلاسيكيين قد ظهرنا لنا أن أكثر شعرهم في هذا الباب قد يتمحور حول هذه المحاور الثلاثة وإن كانت الأسإلیب البيانية تختلف عند شاعر وآخر .
محمود سامي البارودي والسخرية من العاهات الخلقية :
ولد البارودي بحي باب الخلق بالقاهرة لأبوين شركسيين والتحق بالمدرسة الحربية وهوفي السّنة الثانية عشرة من عمره وتخرج ضابطاً منها، ولم يتجاوزعمره السادسة عشرة، كان يتقن التركية والفارسية .شارك في ثورة عرابي باشا،فلما أخفقت نُفي إلی جزيرة «سرنديب» فقضی فيها سبع عشرة سنة.
يعتبر البارودي رائداً للشعر المعاصر إذ جدد في القصيدة العربية شكلاً ومضموناً ولقّب بجدارة فارس السيف والقلم . وله ديوان مطبوع ومختارات له فطاحل الشعراء القدامي في أربعة أجزاء. وله كتاب نثري عنوانه «قيد الأوابد» لم ينشر حتي الآن . [4]
لا يسعنا المجال هنا لكي نتكلّم عن البارودي ،ونبيّن مكانته في الشعر العربي المعاصر ونظن بأنّ شخصية فذّة مثل البارودي لا تحتاج بالتعريف ولكن نستقرض الكلام من الاستاذ شوقي ضيف ونقول: «إن البارودي هوالذي بعث الشعر العربي من نومه الطويل ، وخلع عنه الشّباب المزخرفة المزركشة وردّ إلیه الحياة والنّشاط ، وجعله شعراً ممتعاً يغذي القلب والشعور، ويمنح القاريء لذة فنيّة حقيقية». [5]
وأما موضوعنا الّذي سنتطرق إلیه هو: إستخدم السّخرية من قبل البارودي في تصوير العاهات الخُلقية وبيان كيفية هذا الاستخدام عند الشاعر.
فأوّل ما يجب علینا أن نبيّنه هوالعامل أوالعوامل الّتي جعلت البارودي أن يلتجيء إلی السّخرية . فالمعروف عن البارودي أنّه صحب الدنيا طويلاً ومرّ بظروف مختلفة ، تقلّبت علیه ولابسَ صنوف الجماعات وألوان النّاس ملابسةًً إستطاع بها أن ينفذ إلی بواطنهم ويخالج نفوسهم ، وعاش ألوان الحياة في العزّ والذلّ حياة بين أحبابه وحياة في المنفی والغربة، جميع هذه العوامل إضافة إلی طبعه المرح ومحبته للنّاس ، جعلته شاعراً متميزاً ،يثير السخرية في مواطن من شعره لا سيّما من العيوب الأخلاقية . فقد خصّص قسماً من أشعاره، وهوفيها شديد الوطأة علی الشّخص حيث يسلب منه جميع الصفات الحميدة، ويصوّر جميع معايبه ورذائله صوراً مكـبّرة ثمّ يجعله سخرية ومَهزلة للقاريء، فهوالقائل عن صاحبٍ فاسد الأخلاق:
وصاحبٍ لا كان من صاحبأخــلاقـــه كــالمعــدة الفـاسدأقبـح مـا في النّاس من خصلةأحسن مــا في نفســـه الجامدهلـــوأنـــه صُوِّر مـــن طبعــهكــان –لعمــري – عقــرباً راصـدهيصلــح للصفــع لكيــلا يُـريفي عــدد النـــاس بــلافـــائدهيغلــب الضعـــف ولكنـــهيهــدم في قعــــدتـــه المــائدهيراغــب الصحن علی غفلةمـــن أهلـــه كالـــهرّة الصائدةكـــأنمـــا أظفــــوره منجلوبين فكيـــه رحـــيً راعـــدةكــأنمـــا البطـــة في حلقةنعــامــة في سبســب شــــاردهتسمــع للبلــع نقيقــاً كمانقّــت ضفـــادي ليلـــة راكـــدهكــأنـــما أنفـاسه خرجفوبين جنبيـــه لظـــی واقــــدهويلُمّه إذ مخضت هلَ دَرتأن الــردی في بطنهـــا العاقــدهتبــاً لهـا شنعاء جاءتْ بهمــن لحقــة في فقحـــة كاسـدهلا رحمــة الله علی والدغُـــمّ بـــه الدنيـــا ولا والــده
[6]
يسخر البارودي من صاحب له ويستهزء منه علی وجه قاس ، فصاحبه هذا أخلاقه فاسدة وأحسن ما فيه شرُّ ما في النّاس ، فهوكالعقرب مجبول علی الغدر وكالهرّة يترصّد الأكل بعيداً عن أهله ثم أضف علی ذلك الجشع والشره و... حتي يظهره علی شكل يحس الانسان بالإزدراء لمن يتصف بهذه الصفات.
هذه القصيدة الساخرة زاخرة بالصورة الكاريكاتوريه، فالشاعر يشبه أظفره بمنجل ويشبه أسنانه بهي تصوّت بل تُرعد ، وتارة يشبه حلقه بمفازة طويلة عريضة وأخري يجعل بطنه تخرج أصواتاً كنـقـيـق الضفادع وهلّم جرا.
وللبارودي صاحب آخر ،يقول فيه:وصاحبٍ كهموم النفس معترضٍما بين تـــرقــوة مني وأحشاءإن قال خيراً فعن سهوٍ ألمَّ بــهأوقـال شرّاً فعن قصدٍ وامضاءلا يفعل الســـوء إلا بعد مقدرةولا يكفكـــف إلا بعـــد إيذاءعاشــرته حقبة من غير سابقةفكـــان أقتـــل من داءٍ لحوباءيبغي رضايَ وقد أودَي برمتهوكيـــف يحيا صريع بعد ايذاءلا بارك الله فيه حيث كان ولاجـــزاه عـــن فعلـــه إلاً بأسواء
[7]
وهذا صاحب آخر للبارودي فيصفه همّاً يعترض الصّدر ، لا يفعل الخير إلّا عن غير قصد ويتعمّد الشّر وهوداء وعلّة يسبّب الموت ،فلا بارك الله في مثل هذا الصديق .
في ديوان البارودي الكثير من الومضات الساخرة يأتي بها في بيتين أوثلاثة أبيات ويمنحك صورة ساخرة ترسم الضّحك علی شفتيك . يقول في شخصٍ لئيم:
وغدٌ تكــوّن من لؤمٍ ومن دَنَسفما يغار علی عرض ولا حسبيلتذ بالطعن فيه والهجاء كمـايلتذ بــالحكّ والتظفير ذوالجرب[8]ويقول في نفس المعني:هــدف للعيـوب في كل عضومنــه سهــم للطاعنين ونصلنازعتك إلیهود واختلفت فيك النصاري فأنت لا شك بغل
[9]
فالبارودي يرسم لنا صوراً ساخرة لا تحتاج لأي تفسير فهي ناطقة بالغة،فهي تصف وتصور المشهد علی شكل يثير الإشمئزاز والسّخرية في آنٍ واحد، فالالفاظ وجيزة والمعاني واضحة حيث تفجّر الضّحك علی وجه من یقرأها .
عندما نراجع ديوان البارودي نجده حتي في هجاء للسّاسة وأصحاب المناصب يلتجيء إلی الطعن في أخلاقهم بشكل ساخر ، يقول في أحدهم :
إن مُلكـــاً فيـــه «فلان» وزيراًلمبـــاح للخـــائنــــين وَ بــلُّأهـــوجٌ أحمـــقٌ شتيمٌ لئيــــمٌأغتـــمٌ أبلــــهٌ زنيـــمٌ عُتــــُلُّ [10]
صغرت رأسه وأفرط في الطوال
شــواه وعنقــــه فهـــوصَعْل
[11]
لم نجد في هذه الأبيات الثلاثة كلها جملة واحدة أوكلمة واحدة لا تعد شنعاً أوسخرية من هذا الوزير فهو«أهوج» و«أحمق» و«شتيم» و… كأنّ الشاعر كتب هذه الأبيات في لحظات غضبه فتصوّر نفسه كأيام زمان، فارساً في الجيش فأخذ بقذائف يطلقها من معين زاخر، والجملة عنده مدفع وطلقاتها مفرادتها يرميها واحدة واحدة.
ويقول عن شخص يُدعي «الوزّان»:يقــول أنـــاس والعجـائب جمةمتي أصبح الوزّان ربَّ المجالسنــري كـل يوم عصبــة في فنــائهتجــاذبه أطراف تلك الوساوسفقلت لهم لا تعجبوا لإجتماعهملديه فإن الخشَّ مأوي الخنافس
[12]
هذا هوأسلوب البارودي في أكثر قصائده التي يلتجيء فيها إلی السخرية حيث يحاول أن يلصق بمهجوه عامة خلقية ويجعله أضحوكة وسخرية للقاريء.
أما بالنسبة لأمیر الشعراء فقد درسنا سخریته فِي قصص الحیوانات وسنحاول في مقالات أخری أن ندرس مواضیع ثانیة من شعره السّاخر.
احمد شوقي والسخرية في قصص الحيوانات :
قلّما نجد شخصاً لم يمرّ علی مسمعه أسم أحمد شوقي [13] «مير الشعراء» أولم يسمع هذا البيت المشهور له في مكانة المعلم:
قُـــم للمعلَّـــم وفَّــــه التبجيلا
كـــاد المعلـــمُ أن يكــون رسولا
[14]
وقد كتب الكثير عنه وعن شعره ، ولكن ما نريد أن نتكلم عنه هوجزء خاص من شعره وندرسه من زاوية ربمّا لم يدرسه من قبلُ، أحد ،ألا وهودراسة الأسلوب السّاخر الّذي استخدمه شوقي في نظم قصصه التي أتی بها علی لسان الحيوانات . لهذا علینا أن نرجع قليلاً إلی الوراء ونری قدمة إستخدام هذا اللّون من الأدب والغايات التي كانت تبتغی من كتابتها .
لا شك في أنّ أول من إستخدم هذا اللون من الأدب كفنّ مستقل ، هوعبدالله بن المقفع [15]ولا جدال في أنّ أشهر الآثار ، وأنفس الآثار التي خـلّفها إبن المقفع، هوكتاب «كليلة ودمنة» ؛ويسميه الغربيون :«خرافات بيدبا» نسبة إلی الفيلسوف الهندي الذي وضعه في صورة أحاديث تتسلسل بينه وبين الملك الهندي دبشليم…»
[16]
واما الغاية من كتابة هذا الكتاب هو«انّ ابن المقفع،يوم أخرج كليلة ، انّما رمی إلی نقد سياسي اجتماعي يتعلق بسيرة المنصور الخاصة. وأكبر الظّنّ أنّه انّما عنی المنصور بدبشليم، وعنی نفسه ببيدبا، وطمع في أن يستقيم المنصور كما إستقام دبشليم . وثمة أدلة كثيرة في الكتاب نفسه رأينا أنّ وراء كليله غاية سياسية اجتماعيّة تتعلق بعصر إبن المقفع . وأقرب ما ينبهنا علی هذه الغاية المقدمة التي وضعها ابن المقفع نفسه للنسخة العربية وسمّاها عرض (أوغرض ) الكتاب، ذكر فيها أن«وضع كليله علی ألسن البهائم غير الناطقة يستمل أهل الهزل من الشّبان «وان ما تضمنه كتابه من«اظهار خيالات الحيوانات بصنوف الاصباغ والألوان يكون انساً لقلوب الملوك ». ولكن هذا الاغراق كله لایبدوشيئاً بالجانب الأساسي الّذي يؤكّد علیه إبن المقفع وهوأن هذا الكتاب «جَمعَ لهواً وحكمة» ، « يجتبيه الحكماء لحكمته والسخفاء للهوه» فعلی القاريء الرصين أن لا يظن « ان نتيجته انما هي الاخبار عن حيلة بهيمتين أومحاورة سبع لثور « لأن لهذا الكتاب »غرضاً اقصي مخصوصاً بالفيلسوف« هو»الوقوف علی أسرار معانيه الباطنة « ثم لم يفصّل ابن المقفع هذا الغرض الأقصی ولا تلك المعاني الباطنة واسرارها .ولِمَ ؟ لأنها ذات مغزی سياسي اجتماعي یتناول السّلطة ، ويحرجها ويسخطها ، وقد قصد ابن المقفع إلی هذا المغزی قصداً ، ويعلم أنّه ينقد به السلطة ويحرجها ويسخطها.» [17]
فاتمني بعد هذه المقدمة أن استطعت أن أُبيّن الغاية من هذه الدّراسة،فأحمد شوقي-في رإئي – قد اتّخذ نفس الأسلوب في تخصيص فصلٍ من أشعاره بهذا الموضوع مضيفاً إلیه صيغة السّخرية والهزل إلیها ،فقـلّـّد ابن المقفع من حيث المضمون و«كما أراد تقليد «لافونتين» في قصصه الخرافية علی ألسنة الحيوانات ، فصنع خمسين مقطوعة تقريباً ». [18]
« هذه القصص الخرافية ، نظمها(شوقي) في مطلع حياته الشّعرية ، وأودعها في ديوانه الاول ،ثم نُشرت في الجزء الرابع من شوقياته مع مازاده علیها الشاعر… وليس ثمه ريب في أّنّ شوقي قد اطّـلع علی هذا التراث الضّخم الّذي حواه الأدب العربي من الأمثال القصصية الخرافية هذا التراث اغزر ینبوع استمدّ منه وضرب علی غراره.ولكن أتیح لشوقي في الوقت نفسه أن يستمد من ينبوع آخر وأن يحاول الضرب علی غراره. ذلك هوإلینبوع الغربي، فقد كان شوقي ملمّاً بالفرنسية وأدبها، وبالتالی كان علی علم بالشاعر لافونتين وخرافاته.» [19]
وعلی هذا الترتيب نظم شوقي قصصه الواحد والخمسين «والطريقه الغالبة علی شوقي هي أن يصرّح بمغزی المثل ، وهي الطريقه الكلاسيكية . وهويصوغ هذا المغزی في بيت يجعله في الختام ، وكثيراً ما يوفق فيه إلی الاجادة فيكون أروع بيت في المثل كله». [20] يبيّن شوقي الغاية من وراء هذه القصص في مقدمة قصيدة «الصياد والعصفور» قائلاً :
حكــاية الصيـــاد والعصفورهصـارت بعض الزاهدين صورهمـــا هَزءُوا فيهــــا بمستحقَّولا أرادوا أوليــــاء الحَــــقمـــا كلُّ أهل الزهد أهلُ اللهكـــم لاعــبٍ في الزاهدين لاهجعلتهــا شعراً لتلفت الفِطنواشعــر للحكمــة مُذكان وطنوخــير مـــا يُنْظَمُ للأديبمــا نطقته ألســـنُ التجـريب
[21]
وهكذا كما بينّا الغاية بين ابن المقفع وشوقي مشتركة وواحدة ولهذا نعود إلی موضوعنا الأصلي وهواستخدام السخرية في هذه القصص ،لهذا نأتي بالنموذج منها وندرس من خلالها السّخرية المستخدمه وكيفيتها ، واول هذه القصائد هي قصيدة«الأسد والثعلب والعِجل»:
نظـــر الليث إلی عجـــلٍ سمينكـــان بالقــرب علی غيط أمينفاشتهت من لحمه نفسُ الرئيسوكــذا الأنفس يُصيبها النفيسقــال للثعلب :يــــا ذالاحتيالرأسك المحبوب أوذاك الغـزالفــدعا بالسعـــد والعُمر الطويلومضي في الحال للأمر الجليلوأتي الغَيطَ وقــد جَن الظلامفـــرأي العجـلَ فأهداه السلامقــائلاً :يـــا ايها المولي الوزيرأنت أهــلُ العفــووالبِرَّ الغزيرحملَ الذئبَ علی قتلي الجسدفـــوشي بـي عند مولانا الأسدفتر اميـــتُ علی الجاه الرفيعوهــوفينا لم يزل نعِمَ الشفيعفبكي المغرور من حال الخبيثودنا يســأل عن شرح الحديثقال:هل تجهلُ يا حلوالصفاتأن مــولانا أبــا الأفيال مات ؟فرأي السلطان في الرأس الكبيرموطــن الحكمة والحِذق الكثيرورآكـــم خيرَ مـــن يستــــوزرُولأمــــر الملــك ركنـــاً يُدخرولقـــد عـدُّوا لكم بين الجدودمثــل آبيس ومَعبـــودِ الیهود
[22]
فــأقــامــوا لمعــالیكــم سريرعن يمين الملك السامي الخطيرواستعدَّ الطيرُ والـوحش لذاكفي انتظــار السيـــد العإلی هناكفإذا قمتـــم بأعبـــاء الأمــوروانتهــي الأُنسُ إلیكم والسروربرَّئوني عنـــد سلطــان الزمانواطلبـــوا لي العفـــومنه والأمانوكفـــاكـــم أنني العبدُ المطيعأخـــدُمُ المُنعـــم جهــد المستيطعفأحَدَّ العجل قرنيـه ، وقال :أنت منـــذ إلیــــوم جاري لاتنالفامض واكشف لي إلی الليث الطريقأنـــا لا يَشقـــي لــديه بي رفيقفمضـــي الخِـــلاّن تَوّا للفلاهذا إلی المـــوت ، وهــــذا للحياهوهنـــاك ابتلع الليث الوزيروحبـــا الثعـــلب منــــه بإلیسيرفانثني يضحك من طيش العجولوجـــري في حلبـــة الفخــر يقولسلم الثعـــلب بـــالرأس الصغيرففــــداه كــــل ذي رأسٍ كبــــير
[23]
وهكذا نري الثعلب غالباً صاحب الحيل والمخادعة في أكثر القصص التي وردت علی لسان الحيوان ، وفي الجانب الآخر نري الحمار الغبي المخدوع دائماً وهذا لا يخصّ قصص شوقي فقط أوالأدب العربي بل حول كلمة «الحمار» تدور مداعبات كثيرة ونكات ،بل وشتائم – في اغلب لغات العالم مستقاة من صفات هذا الحيوان ومن ألفته للانسان ومرافقته له، فهوصبره عُرف بغبائه وقباحة صوته فدخل إسمه مرادفاً لهذه الصّفات في تراثنا وتبنا نستخدمه في عدة تعابير وفي أوجه استعمال متنوعة ، واكثر هذه ألا وجه ان لم تكن شتائم وضيعة فهي مداعبات ساخرة ضاحكة . ومن هذه المداعبات اللطيفة قصة «الحمار في السفين»
سقط الحمارُ من السفينة في الدُجيفبـــكي الرفاق لفقده، وترحمَّوُاحتي إذا طلـــع النهار أتت بهنحـــوالسفينــــة موجة تتقدّمُقالت : خــذُوهُ كما أتاني سالماًلم أبتلعـــهُ ،لأنــــه لا يُهضـم
[24]
وأما القصة السّاخره الّتي أوردها شوقي في قباحة صوت الحمار هي «وليُّ عهده الأسد وخُطبة الحمار» ،حيث يقول:
لما دعـــي داعـــي أبي الأشبالمتشـــــبراً بـــــأول الأنجـــالسعت سبــــاعُ الأرض والسماءوانعقـــد المجلــــس للهنـــــاءوصَـــدَرَ الــــمرسومُ بـــالأمانفي الأرض للقاضــي بها والدانيفضــاق بالـــذيول صحـنُ الدارمــن كل ذي صوفٍ وذي منقارحتي إذا استكمـــلت الجمعيـهنـــادي منادي الليـــث في المعيههل من خطيبٍ محســـنٍ خبيريدعـــوبطـــول العمــــر للأميرفنهض الفيـــلُ المشيرُ السـاميوقــــال مــــا يليــــقُ بـــالمقامثـــم تــــلاه الثعـــلب السفيرُينشـــدُ ، حتي قيـــلَ :ذا جريرواندفـــع القـــردُ مدير الكاسفقيــــل: أحسنــــت أبــــا نواسوأومـــــأ الحمــــــارُ بالعقيرهيــــريدُ أن يُشـــــرِّف العشــــيرهفقـــال :بـــاسم خـالق الشعيروبــــاعثِ العصـــا إلی الحمــــيرفــــأزعج الصــــوتُ وليّ العهدفمـــات مـــــن رِعدَتهِ في المهــــدفحمـــل القــــوم علی الحمـاربجملـــة الأنيــــاب والأظفــــــاروانتــــدبَ الثعــــلب للتأبينفقـــال في التعـــــريض بـــالمسكينلا جَعــــلَ اللهُ لــــه قــــراراعـــاش حــــماراً ومضــــي حمارا
[25]
وهكذا نجد قصص شوقي ،سهلة النظم والمعني ،تحمل في طيّات أبياتها إشارات وإيماءات ساخرة ذات مغزی، ومن الضروري أن لا نكتفي علی ظاهر معني القصص ومثلما قيل في كتاب ابن المقفع ، نقول : ان قصص شوقي المنظومة «كتاب في النقد والتوجيه السياسي والإجتماعي ، وأُنشيء باسلوب القصص الأمثال . وأكثر هذه القصص الأمثال خرافات تجري حوادثها في عالم البهائم والطّير ،علی أنّها بهائم وطير في الظاهر فقط ،أما حقيقتها فبشر». [26]
وفي ختام هذه المقالة نستنج بأنه من أراد التدقیق والبحث في دواوین الشعراء اأفذاذ کاحمد شوقي والبارودي وغیرهم من الشعراء المعاصرین الکلاسیکین منهم وغیر الکلاسیکین یجدها ملیئة بالشعر الفکاهيّ السّاخر ولربما نستطیع کتابة کتب حول شعرهم السّاخر،وسنحاول في مقالات أخری دراسة السخریّة عند شعراء آخرین وأیضا سنحاول دراسة السّخریة عند ادباء اللغةالعربیة(النثر).
المصادر
- البارودي ، محمود سامي: الديوان ، دار العودة، بيروت، 1998.
- ابن المقفع،عبدالله:آثار ابن مقفع، دار مكتبة الحياة ،بيروت ،بلاتا.
- ابن منظور :لسان العرب، دار احياء التراث العربي، بيروت، 1988.
- الجندي، إنعام :الرائد في الأدب العربي، دار الرائد العربي،بيروت،ط2، 1986
- خوري، رئيف: التعريف في الأدب العربي، مطبعة الجيل، بيروت،ط4،1963.
- السحار،سعید جودة: اعلام الفكر العربي، مكتبة مصر، القاهرة ،بلاتا.
- شوقي ،أحمد :الشوقيات،دارالكتاب العربي، بيروت، بلاتا.
- ضيف، شوقي: الأدب العربي المعاصر في مصر،دارالمعارف، القاهرة ،ط7،بلاتا.
- العقاد،عباس محمود: الديوان ،المكتبة العصرية ،بيروت، بلاتا
- المسعودي، مروج الذهب: تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد، المكتبة الاسلامية ، بيروت،بلاتا.
- الهاشم، جوزيف وآخرون: المفيد في الأدب العربي، دار العلم للملايين، بيروت،ط16،1990.
- وهبة، مجدي وكامل المهندس : معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب،مكتبة لبنان ،بيروت، ط2، 1984.