السبت ٢٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم عبد الكريم البوغبيش

السّخریة فی شعرالشّعراء الکلاسیکین ٢

أحمدالصافي النجفي نموذجاً

المقدمة:

تحاول هذه المقالة دراسة السّخریة عند أبرز شعراء العراق المعاصرین ألا وهواحمد الصافي النجفي الشاعرالّذي أمضى 36 عاماً متنقلاً بين إيران وسورية ولبنان ،ولا نرید تکرار ما أتینا به في مقالات سابقة عن السخریة في شعر الشعراء الکلاسیکین ،لأنّ هذه المقالة تواصل دراسة السخریة عند أبرز الشعراء الکلاسیکین المعاصرین علّها تجدي نفعاً لدارسي الأدب العربي.

السّخریة في شعر أحمد الصّافي النجفي (1895-1978)

«ظهرت بادرة السّخریة في ألشّعر العراقي عند الزهاوي وکانت روح الزهاوي هذه والمیل إلی البساطة میزتین تابعهما بنجاح کبیر أحمد الصافي النجفي، ألشّاعر الجوال الّذي قضی أیامه الموحشه المدقعة فقراً بین سوریاً ولبنان » [1] والکویت وإیران وحفلت دواوین الصّافي بکمّیة وافرة من أبیات الهجاء وتراوحت هجائیاته بین القدح المّر والّذم الخفیف والدعابة السّاخرة، بید أن الصافي في جمیع أنواع هجائة لم یتعرض لمهجّوه بلفظٍ یمسّ کرامته أوکلمة تجرح شعوره.
وأکثر أبیات الهجاء الّتي نظمها ألشّاعر قالها في مدّعی ألشّعر عموماً أوفي ناقدي شعره، وحاسدي تفوّقه ونبوغه علی وجه الخصوص.

غیر أنّ ما یهمّنها في هذا البحث هوأحد أنواع هجائه وهوأسلوب السّخریة وتقول الدکتوره سلمي الخضراء الجیوسي في معرض حدیثها عن میزات شعره «یتمیّز شعر الصافي ببساطة شدیدة في الأسلوب وبلغة شعرّیة کثیراً ما تقترب من الکلام السّائر وهوإذا یتأمّل الحیاة یکشف عن وعي مباشر لیس فقط بالمشهد الوطني والإجتماعي حوله، وهوما أقتصر علیه کثر من معاصریه من ألشّعراء بل یعکس أیضاً وعیاً بالحیاة من حوله، وهو إنجاز أکثر صعوبة فقط إستطاع أن یعالج المواضیع العادیة في الحیاة الیومیّة من دون أن یتعثّر أویعکس ذلک السّخف الّذي نجده عند العقاد في «عابر سبیل» والواقع أنّ الفرق الجوهري بین ألشّاعرین هوأن الصافي معنيٌّ عنایة مخلصة بالحیاة والوضعیّة الإنسانیّة وقادر علی أن یصور المواقف المثیرة للأسي أوالهزء في سهولة ووضوح؛ بینما نجد العقاد إما یخترع موقفاً زائفاً أویضخم موقفاً بسیطاً، فیقحم علیه أحیاناً کثیرة نبرة مأساویّة » [2] ولا تقوم صناعــة الصافي في ألشّعر علی المعاني، ممّا انعکس ذلک حتي علی مظهره الخارجي فأنّه لم یکن یعتني بهندامه وثیابه قدر إعتزازه برجاحة عقله:

أبْصروا مظهري ولم یبصروني

حسبوا الیوم أنّهم أبصروني [3]

وإذ یعرض الصّافي لأنواع شتي من التجارب یعطي إنطباعاً عن رجل بالغ الإنشغال بصراع مکشوف ضد المفاسد، والحقارة، والخسّة، والمعایب ،والخمول، والنفاق، والجهل، والجشع، والفجاجة، والفوضي وألسّیاسة الغرغائیة المتحفظة، ویحدّد الصورة غالباً بتفصیلات دقیقة، وقد یدخل في جدل مع الأشیاء الّتي یکتب عنها ویسخر منها وقد یؤنّبها بشدّة أحیاناً، ولکنّه لایقف موقف الواعظ إطلاقاً ،کما یفعل بعض من الشعراء العراقیین. إنّ في شعر الصافي عاطفة عمیقة لاتطفوإلی السطح، فتختلف في هذا عن تلک الفورة العاطفیّة الباذخة والرّنین المتجاوب الأصداء في شعر بعض الشعراء العراقیین..

وانّ احمد الصافي النجفي رجل شدید الأنفه، وهي صفة عرف بها اکثر من غیره وقد أضفت قیمة علی شخصیّته وهذا ما یفسّر تحمّله للفقر والوحدة وعدم تنازله بأیِّ شکلٍ من الأشکال للسلطات ألسّیاسیّة وللجمهور.

وسنری لاحقاً في حدییثنا عن السّخریة في شعرالصافي أنّ ألشّعر الّذي اعتبرناه ساخراً، یحمل سخریة مرّة دامیة تهدف إلی إیقاف ألشّعور الوطني، وتحریضة علی الثورة ضدّ الأجنبي والمستعمر، إنّه أدب یتسم بالجد والقوة والوطنیة.

ویقول ألشّاعر والکاتب السّوري عبدالغني العطري في کتابه القیّم «ادبنا الضاحک» وهومن أکبر رواد السّخریة من العصر الحدیث؛ «علی أن الأدب الضاحک إن کان قد أعوز أدباء العراق وشعراءه المقیمین، فإنّه لم یعوز قطّ شاعراً عراقیاً فذّا من المهاجرین النّزحین، ونعني به الإستاذ أحمد الصافي النّجفي». [4]

والدارس للشعر العراقي یجد أن معظّم ألشّعراء السّاخرین العراقیین هم من ألسّیاسیین المبعدین الّذین یعیشون في المنفی بسبب مواقفهم ألسّیاسة المناهضة للسلطة الحاکمة.

من جهة أخری إنَّ هذه القسوة الّتي نجدها في ألشّعر العراقي حتي السّاخر منه ربَّما یکون مردّها إلی العوامل التاریخیّة، فقد شهد هذا البلد المصائب والویلات من قبل الحکومات الظالمة والغزاة المحتلّین الطامعین في خیراته وکان لموقعه الجغرافي الممتاز أیضاً أثره في ذلک ممّا جعله محطّ الأطماع من قبل الإمبراطوریات وقوی أخری في کافة العصور وقد تعرّض هذا ألشّعب للقتل والسلب والأسر والدّمار، وهذا المسلسل التراجیدي مازال مستمراً إلی یومنا هذا وباعتبار انّ الأدب والفن هما مرآة ألشّعوب فقد حملا هذه المعاناة والمأساة ومن یقراْ الاْدب العراقي ویستمع إلی الألحان والأغاني العراقیة یلمس نبرة الحزن هذه.
وأری أن العامل الآخر الّذي أدی إلی هذه القسوة حتی في مجال السّخریة هواللهجة العراقیة، فاللهجة العراقیة خشنة ذات إیقاع صاخب، عکس اللهجات العربیة الأخری الّتي تجد فیها مرونة ونعومة اکثر لذا تجد أنّ العراقي قلیل الکلام، کثیر السّکوت، یحامل أن ینّقي المفردات عندما یتحدّث إلیک.

أمّا ألشّاعر احمد الصّافي فقد شذّ عن هذه القاعدة، أي أنّ شعره السّاخر- کما أسلفنا – یتّسم بروح الدعابة وهو«محبّ بطبعه للنکتة والنادرة، تجلس إلیه، فیضحک من اعماقه إن فاکهـتَه، ویغیب في قهقهة عالیه إن رویت له طرفة أونادرة، کما یسبقک إلی الضحک إن أراد أن یروي أفکوهة أوأملوحة... إنّه مرح بطبعه یجد النکتة، ولا سیّما في شعره، وکثیراً ما یظمّنها قصائده ومقطوعاته، أویختم بها تلک القصائد والمقطوعات». [5]وها هوذا في قصیدة «مستنقع الحیاة» یسخر حتي من الحیاة نفسها:

سخرت وسوف أسخر من حیاةٍ
بنا سخرتْ لأغبنها کغبني
سأضحک من سخافتها زماناً
کما ضحکتْ علی عقلي وذقني
سخرت بسخفها زمناً، ولکن
سری لي داؤها وسخرت مني [6]

ویبدوأنّ الحیاة جعلته یسخر حتي من نفسه أیضاً.
ولنستمع إلیه وهویصف نعله البالي وحالته المّادیة المتدهورة في قصیدة «صباغ الأحذیة» عندما أتاه مساح الأحذیة ، وکان لا یملک ألشّاعر إلا دراهم قلیلة أعدّها لقوته، فآثرأن لایردّه خاثبا فأعطاه قوت عشاءه:

جئت یوماً إلی صباغ نعل
وبنعلی صبغٌ من الأیّام
مر دهرٌ علیه لم یرصبغاً
غیر صبغ الغبار والأقدام
وکسته أشعة ألشّمس لوناً
صار منه کقطعةٍ من رغام
جاءَ نحوي من بعد ما طاف یوماً
دونَ ربحٍ غیر العنا والسقام
جاء نحوي یروم صبغّ حذائي
وأنا للصّبّاغ أعدی الأنام
أنا خصمٌ الألوان تخفي عیوباً
إنّ عندي الألوان کالأوهام
رُمْتُ رَدّاً له فلم یرض قلبي
ردّه خائب المنی والمرام
قلت فأصبغْ لي الحذاءّ بصبغ
فیه أغدوا مثل الّذوات العظام
قلت أحبوه درهماً، غیر أنّي
خفت من أن یذّله إکرامي
قلت فاصبغ لي الحذائ بصبغ
فیه أغدومثلَ الذوات العظام
فغدا یصبغ الحذاء بحذق
مبدیاً فیه کلّ فنّ تمام
ثمّ بادرته بما ضمّ جیبي
من نقود أعددتها لطعامي
فمضّی هانئاً ورُحْتْ کأنّي
ثملٌ بالسّخاء لا بالمُدام [7]!

وفي قصیدته «خیر وشر» یصف یوماً أراد فیه أن یفرّ من حرّ دمشق إلی ربوع «دُمَّر» فوجد سیارة قدیمة، أشفق علی صاحبها وکان الناس ینظرون إلیه شزراً، فإذا بألشّاعر یشفق علی السّائق ویؤثر سیارته البالیة علی غیرها من ألسّیارات الجدیدة الفارهة وما یکاد یأخذ مکان فیها، حتي یتدفق علیها الرکاب، فیحشرهم السّائق بعضهم فوق بعض وهنا سرّ صاحبها وأخذ مکانه فیها...

ویوم لي یَجُلَّقَ رمت فیه
من الحرّ المهاجم أنْ أفرّا
فقلت: لدمّرٍ أمضي لألقي
بظلّ الخلد ثمّة لي مقرّا
فأنشق من نسیم الروض عطرا
وأشرب من نمیر النّهر خمرا
فسرت إلی «اوتومبیل» کبیر
وکان حشاه، مثل الکفَّ، صفرا
فما یأوي أخوسفرٍ إلیه
ویرنوالعابرون إلیه شزرا
أویت له، ولا سترٌ علیه
یقیک ألشّمس إن سامتْک حرّا
ولکن کان سائقه ینادي
وکان الوجه منه یبین فقر
لذاک اخترته ورکبت فیه
لأکسب من صنیع البرّ أجرا
ولکن لم أکد آویه حتّی
رأیت له جیوش الرکب تتری
فراح بهم یسیر کفلک نوح
وقد تخذ الفلا، للمخْر، بحرا
فکدت أموت فیه من ازدحام
وأسکن فیه، قبل القبر قبرا
ولکنْ وجه سائقة بدا لي
یموج بشاشة ویمیض بشرا
فألقي نظرة مُلِئَتْ حناناً
إلی وأکثر النّظرات شکرا
وقال لنا دومک خیراً
فقلتُ له: أجل! وعلی شرّا [8]

ویبدوأن إشفاق ألشّاعر علی الآخرین یضعه في مواقف حرجة ولکن روح ألشّاعر اللطیفة تخفّف من وطأ هذا المأزق، ورأینا النهایة المضحکة الّتي اعتاد ألشّاعر أن یبرزها في بعض قصائده وفي دیوانه «للفحات» في قصیدة بعنوان «رثاء لحیة» یرثي لحیة الّتي طالت بسبب فقره.

ذهبت إلی الحلّاق یوماً بلحیة
کلحیة شیخٍ أوکلحیة خوري
ولم تک قد طالت لنسک ولاریاً
وإن خالها ألحساد لحیة زور
ولکنّما فقدُ الفلوس أطالها
فیجدر أن تدعي بذقن فقیر
یقیس الوري مإلی بمقیاس طولها
ولکن لها سیرُ بعکس مسیري
فإن قصرتْ یوماً فذاک لدي الوري
دلیلٌ علی مال لديّ وفیر
وإن بلغتْ في الطول شبراً وإصبعاً
تدلّ علی إخلاس بعض شهور
ولما رأیت الوجه زاد دمامةً
بها وأغتدتْ منها الوري بنفور
مضیّتٌ إلی الحلاق أطلب قصّها
وتخفیف شعر مثقل لشعوري
وقلت له خذ نصف ذقني لتغتدي
کذقن رئیس أوکذقن أمیر
فراح یزید القصّ فیها مدقَّقاً
بقرض وحفِّ أوببعض أمور
وکنت أعاني قلع شعر بقصّها
وأمنّی بجرح في الخدود خطیر
وکنت له أشکووأز فر صائحاً
فلم تنفع ألشّکوي وطول زفیري
ولما أنتهي من قصّها کنت میتاً
وقد حان بعد القصّ یوم النشوري
فجاء بمرآة لأبصر لحیتي
فیالیت إني کنت غیرَ بصیر
بدا لي وجهي حاکیاً وجه أمردٍ
صغیر وتعلوه غضون کبیر
فثرتُ علی الحلاق باللومِ غاضباً
فقال اعف عن ذنبٍ بدا لقصوري
فقلت لنفسي إن هذا جزاءُ من
یسلم ذقناً في اکفِّ ضریر
وأخرجتُ من کیسي له بعض أفلس
فقال أبعد الّذقن أخذ أجور
فبعت له ذقني بأبخس قیمةٍ
وعدت بطرف في الأنام کسیر [9]

سوف کثیراً ما نري هذه الفاجآت السّاخرة في آخر قصائده، فالمفاجأة وتوقع عکس المنتظر من أسباب الضحک الّذي تحدّثنا عنه سابقاً. مثال آخر في دیوانه «التّیار» ومن قصیدته السّاخرة «صید جدیدة»:
في هذه القصیدة یروي لنا الصافي أنّه مرّذات صباح بتاجر قد نضّد بضاعته ونسّقها، ولبث ینتظر صیداً سمیناً ... فلمّا رأي ألشّاعر من بعدُ، بثیابه العربیّة، ظنّه أمیراً من أمراء البدووأصحاب الثروات «ینفق المال في المدینة جوداً».

جزتُ صبحاً بقرب حانوت شخص
والبضاعاتُ نُضّدت تنضیداً
ناصـــبٌ للشُّباک یحسب جهلاً
کل شخص یمرّ، صیداً جدیدا
فرآني کأنّنـــــي بدوّي قد
حملت العنا وجزت البیــــدا
وأتیت ألشّآم أشري لبیتي
ولإهلي حوائجاً وبرودا
وبجیبي من الدنانیر کنزٌ
مسْتَمدٌ من ثروةٍ لن تبیدا
فرأي صبحه بوجهي سعیداً
ورأي مطلعي علیه عیدا
ظنّ أنّي أمیر بدوٍ غنِّي
ینفقُ المال في المدینة جودا
قال هذا رزقٌ أتاني صباحاً
فغدا یشکر الاله الحمیدا
آملا أن تحلّ عنه بمإلی
أزمةٌ یشتکي بها التنکیدا
رمت عطفاً علیه أن أبطيءَ الخطو
لأبقیه بالخیال سعیدا
غیر أنّي خشیتٌ في البطه من أن
یضرم الحرص في حشاه وقودا
مارآني بالخطوأسرع حتي
طار بشراً ومدَّ نحوي جیدا
ورنإلی بالطّرف یحسب جهلاً
کلّ ما ظنّ في أمراً أکیدا
ثم ألقي شباک بشرٍ ولطفٍ

فوق وجهي یرجوبها أن یصیدا [10]

وهکذا یستدرجنا الاستاذ الصافي النجفي إلی حیث المفاجأة في البیت الأخیر:

هبّ لما مررت بالقرب منه

قائلاً: ماترید؟ قلت نقودا !! [11]

وفي دیوانه «اللفحات في قصیدة «ضرس القل» یتحوّل ألم ضرس العقل إلی موضوع ساخر:

إن ضرس العقل بالآلامِ
قد أذهب عقلي
لیس هذا ضرس عقلٍ
إنّ هذا ضرس جهلٍ
إن یکن هذا هوالعقل
فیاجهلي دُمْ لي
فهل العقل لکلّ الخلق
بالآلام یُملِي
لم أجدْ من عاقلٍ من
ضرسه یصرخُ مثلي
أأنا العاقلُ وحدي
أَو َلَا عاقلَ قبلي
الوَرَي بالعقل یَحیون
وفي عقليَ قتلي
أنا ما لي من صفات العقل
إلّا ضِرسُ عقل [12]

نعم یبدوأن تسمیة «ضرس العقل» لم تعجب ألشّاعر ،مثال آخر في نفس الدیوان من قصیدته السّاخرة «مکتبتي»، یقارن ألشّاعر کتبه المبعثرة في أرجاء بیته بکتب المترفین الّذین یقتنونها لا لشّیء سوي للوجاهة والزینة وما أکثر هؤلاء في أیامناهذه:

مبعثرةٌ جمیعُ الکتب عندي
قد انتشرتْ کعائلتي بداري
تعیشُ بغرفتي متنقلاتٍ
فلیسَتْ تستقرُّ علی قرار
وکُتْبُ المترفین مجمّداتٌ
تعیش غریبةً عیش الأسار
محرّمةٌ علی أنظار قار
مهیأةٌ لجاهٍ وافتخار
مثبَّتَةٌ کجزءٍ من جدار
منسّقةٌ کأحجار الجدار
غدت مؤودةً في مکتبات
فقد بلیتْ من الموتي بجار [13]

ویروي الصّافي قصّته مع «أبي شاکر»، صاحب الفندق الصغیر الّذي نزل فیه، فرحّب به، وزعم له أنّه نصیر للأدباء وألشّعراء، ولکنّه ما لبث أن سطا علی کیس نقوده، الّذي حشرفیه أوراقه وما تناثر من شعره، بینما دراهمه لا تبلغ العشرة! إنّها قصیدة ساخرة ضاحکة. صاغها بلکمات بسیطة تتدفق حلاوة وتفیض بالدعابة.

نزلت في نزْل أبي شاکر
من حظِّي المنتکس العاثر
فکان یلقاني في بسمة ٍ
لم تلک إلا بسمة السّاخر
راح یباهي أنه ناصرٌ
لزمرة لم تلق من ــناصر
وأنّه للأدباء مخلصٌ
من ناظم فیهم ومن ناثر
یا لیتهم ظلّوا بلا ناصر
لیسلموا من ناصر ماکر
إذا رآني هبّ لي مسرعاً
یطلب منّي إمرة الآمر
حتّي إذا اطمأ نَنْتُ من حبّه
منخدعاً في لطفه الظاهري
وألشّاعر الصافي یخال الوري
تحکیه في الباطن والظاهر
وأنّهم أشراف نفس غدتْ
قلوبهم کقلبه الطاهر
وکان لي محفظتا ثروة
حفظهما یشغل لي خاطري
قد حوتا وسطهما کلّ ما
أملک في الأوّل والآخر
دراهم لوعّدها حاسبٌ
ما بلغتْ للدّرهم العاشر
وبضع أوراق بطّیاتها
حَوَتْ شظایا قلبي الثائر
عجبت من جیبي لم یحترقْ
بنارها وألشّرر الطّئر
أعزّْ من روحي فروحي بها
قد افرغتْ من فکري القاصر
تُبصرُ من روحي شظایاً بها
أوشرراً من طرفي السّاهر
فجائني اللصّ وأودي بما
جمعة من مالی الحاضر
ولم یمدّ اللصّ کفّاً إلی
شعري أودرُّ به زاخر
 [14]

وهنا تبلغ دعابته أوجها، حین یختم القصیدة بهذین البیتین:

خفّف لي اللّصّ أبوشاکر
حملي فشکراً لأبي شاکر
والحمدلله علی نکبتي
بسارق لم یک بألشّاعر [15]

لقد سرق أبوشاکر دراهم الصافي، وأهمل أشعارة، استهانة بها... ولکن ألشّاعر حمدالله علی أن السّارق لم یکن شاعراً، ولوکان کذلک لأدرک أن ثروة ألشّاعر في شعره لافي ماله!
وفي قصیدة «أنا والبعوض» یتضایق ألشّاعر من البعوض:

علام خلقت یا ربّي بعوضاً
یعذّبنا بأوقات المساء
نرجّي النّوم في الفَيْ رجاء
وندعوا النّوم في أالفَيْ دعاءِ
لکن حین یدنوالنوم منّا
یشّردهالبعوض بلاحیاءِ
فیقرصُ جسمنا لا قرصَ مزح
ویسلبُنا الکری لا عن عداء
نغطّي عنه أرجلنا اتقاء
فیبصرهنّ من تحت الغطاء
عجیبٌ أنت یا ربّي حکیمٌ
وفي کفّیکَ میزانُ القضاء
أتبقي النّور في عیِّني بعوض
وتحرم منه عین أبي العلاء؟ [16]

ومن ألطف شعره السّاخر قصیدة عنوانها «التخت العلیل» فقد وصف ألشّاعر غرفته الّتي یأوي إلیها، والبق الّذي یلسعه أحیاناً والبعوض الّذي یطیب له أن یشرب من دمه... ووصف کذلک سریراً نام علیه ذات یوم، قائلاً:

ربُّ تخت سمّوه تختَ منها
وهوحقّاً مکسَّرٌ للعظتام
أسدلوا فوقه ستار حریر
زاهي اللّون، خادعاً للطّغام
نصفه ناتيءٌ بدون أنتظام
جامعٌ للوهاد والآکام
ینتهي سفحه بوادٍ عمیقٍ
ضیّقِ الصدر، خافقٍ للنیام
من ینمْ فوق ناتيءٍ منه یحسبْ
أنّه فوق ناتئات السهتام
أوینمْ بین واطيءِ منه یحسبْ
قالبَ الضغط وسط تخت المنام
قد دعاه الأنام تخت منامٍ
وهوعند التحقیق تخت انتقام
کم أتونحوه بضیف جدیدٍ
کبريءٍ یساقُ للإعدام
نام من فوقه فما نام للصّبح
لفرط الأوجاع والآلام
نام من فوقه صحیحاً فلم یمــ
ض قلیلٌ حتّي غدا ذا سقام
ظلَّ للصبح لم یذقْ طعم نوماً
ویوالی أنّاته بانتظام
بات في تخته یئنُّ ومنه
فرّ قبل انهزام جیش الظلام
راح منه یسیر منحني الظــهـ
ر وقد کان مستقیم القوام
شخر الضیف حین نام فلاموه
وما کان مستحقَّ الملام
لم یکن طبعه ألشّخیر ولکن
عصروه فصاح من آلام
لووضعت الأحجار في قالب الظّغط
لأنت، وإن تکن من رخام
أنّةُ التخت مازجت أنّة
الضّیف فَألَّفْنَ مشجيَ الأنغام
ینذر التخت ضیفه بأنین
مانحاً نصحه بدون کلام
وکأنّ الأنین من جانب التخت
بکاءٌ علی الضّیوف الکرام
أوکأنّ الأنین منه زفیرٌ
أوشکاوي یبثّها للأنامِ
قائلاً: إنّني علیلٌ فهل أسطیعُ
حملاً لهذه الأجسام؟ [17]

ویهاجم الصافي شعراء المراثي، أولئک الّذین یتسابقون ویتهافتون ویغتنمونها فرصة لإبراز مواهبهم وشحذ قرائحهم کلّمامات عظیم – فیرثونه – کما یقول بشعر میت! قد کان اولی منهم برثاء.

مامات ذوشأن بنا إلا بدت
شعراء قد جلّت عن الإحصاءِ
فکانّهم دیدان جسم میت
نُشرت من الأموات في الأحیاء
یرثون میتهم بشعر میت
قد کان أولي منهم برثاءِ
لوعاد ذاک المیتُ حیّا مات من
شعر رثوه به بدونِ حیاء
لوکان یعلم أنّهم یرثونه
ماماتَ کیلا یبتلي بُهراء
یاموتُ رفقاً لاتُصِبْ ذامحتدٍ
کیلا تهیج عفونةً ألشّعراءِ [18]

وفي دیوانه «أشعة ملوّنة» یسخر من شخصٍ جاهلٍ یدعي أستاذ:

وغبّيٍ سمیّتُه أستــــــاذاً
وهوفي جهـله من الأفذاذ
قیل هل رُمْتَ رَفعه قلت کلّا
رمّت إسقاط کلمة الإستاذ! [19]

هذا ولم تسرّ ألشّاعر بشري معاش التقاعد فقال:

قالوا جري (التنسیقٌ) قُلت الیکُم
عنّي فلیس یصیبني برشاش
أنا أحسد (المتقاعدین) لأنّني
(متقاعدٌ) لکن بدون معاش [20]

ونضحک مع الصّافي أیضاً حین یتحدّث عن ثوبه الجدید الّذي ارتداه ومن عادة النّاس أن یزهوا بثیابهم الجدیدة ولکن الصّافي علی العکس، یؤثر ثیابه القدیمیة، وحتي البلیة منها، وقد ذکرنا سابقاً أنه لم یکن یهتِّم بمظهره، ویسخر من الناس الّذین یحتفون بمن یلبس الثیاب الفاخرة بل إن ألشّاعر یخجله الثواب الجدید:

لبست ثوباً جدیداً فاکتسبت به
شأناً جدیداً وصار الکلُّ یکرمُني
تغیّرتْ نظرات النّاس لي ولقد
کانت تریبني نفوراً حین تبصرني
فصار یبسّم لي من کان یعبس بي
وصار للصّدر یدعوني ویجلسني
کأنّما أنا هذا الیوم غیري في
أمسي وما بدّلَتْ روحي ولا بدني
إن کان حسن لباسي قد دعاه إلی
هذي الحفاوة بي في السِّرِّ والعَلَن
فلیمض توّاً إلی سوق القماش لکي
یلقي له سجدةَ العباد للوثن
ظننت البستي للبلهِ خادعة
وإذبها خدعتْ حتي ذوي الفِطَن
الکلّ تفتنه الألوان زاهیة
ولیس بالجوهر الغإلی بمفتتَن
قد کنتُ في رائق الألوان أخدعهم
لولاحیاءٌ عن التمویه یردعني
إن کان حبّهم للّون أضحکني
فأنّ جلبي لهم باللّون یضحکني
الناس یخجلهم بإلی ثیابهم
فکیف بي وجدید الثوب یخجلني
جدید ثوبي کالإعلان یجلب لي
أنظارهم فیسلیهم ویحزنني
لوکنت في الطّیر طاووساً خشیتُ إذن
تطَّلع الناس حتي لم أدعْ وکني [21]

ولکن لدیه ما یبّرر حبّه للثیاب البالیة ویعتقد أنها میزة له، تفرّق بینه وبین الجهال:

قد حجّبت جوهري العلویّ ألبستي
کالرّمل یحجب عنّا غإلی الّذهب
فصار یسعّي إلی لقیاي، ذوفطّن
وصار یهرب من مرآي کلّ غبي
فرقْتُ ما بین جهّال واهل حجّي
کالعقل فرّق بین الصّدق والکذب [22]

وکثیراً ما یسخر اللشّاعر من فقره إذ یقول:

صافحتني یدُ امريءٍ فرآني
سأخن الکفِّ من لَظي الوسواس
قال هذي حرارة الایمان
قلت لا بل حرارة الإفلاس! [23]

وربّما نصحه أحدهم بأن یدّخر الفلس الأبیضل للیوم الأسود فأجاب ألشّاعر قائلاً:

قد قیل وفّّر إن تکن حازماً
من یومک الأ بیض للأسود
فقلت أیامي سودٌ فهل
أکنز من یومي شَِقّّاً للغد؟! [24]
ویسخر من الطبیب الّذي أراد أن یداویه:
جسَّ الطّبیب یدي فارتاع من مرضي
وقال داؤک یعیي طبّ إبلیس
لکنّني سأداوي الیوم جسمّک من
أسقامه، قلت: قبلاً داوِ لي کیسي [25]

ویلاحق ألشّحاذون الصافي، ظنّا منهم إنّه أمیر غني، ویشکون له کثرة النسل والأولاد فیقول:

دعاني بالأمیر وکنتُ أولی
بأن أُدعَی أمیر المفلسینا
عجیبٌ أنّهم یأتون توّا
إلیّ ویترکون الموسرینا
فهل من جنسهم أن قدرأوني
فجاؤوني معاً مستعطفینا؟ [26]
ولکن لنستمع إلی جوابه اللاذع حین یشکون کثرة النسل والأولاد، یقول:
لک اللذات في ایجاد نسلِ
ونحن بحفظ نسلک ملزمونا
فهل من جنسهم أن قد رأونی
فجاؤونی معاً مستعطفینا؟ [27]

وهکذا تفرّد الأستاذ الصافّي النجفی عن بقیّة ألشّعراء العراقیین السّاخرین بروحه المرحة وحبّه للنکتة مما یدلّ علی أن السّخریة طبع فیه بالإضافة إلی نشأتة في النجف، فعلی الرغم من الجوّ الدیني نجد أنّ أهل النّجف أیضاً یمتازون بروح الفکاهة والنکتة اللطیفة.

المصادر

  1. الجیوسی،سلمی الخضراء:الاتجاهات والحرکات في الشعرالعربی الحدیث،ترجمة عبدالواحد لؤلؤة مرکزا لدراسات الوحدة العربیة،ط1بیروتف2001م.
  2. الصافي النجفي، احمد: دیوان التّیار، لجنّة الترجمه والتألیف والنشر العراقیة، دارومطبعة الیقظة العربیة بدمشق 1946 م.
  3. الصّفي النجفی، أحمد: دیوان أشعة ملوّنه، ط2، منشورات العصریّه للطّباعة و...- للمطبعة العصریّة، صیدا – بیروت (بلاتاریخ).
  4. الصافی النجفی، احمد: دیوان الاغوار، دارالعلم للملایین ط2 بیروت، لبنان،1944م.
  5. الصافی النجفی، احمد: دیوان اللفحات، دارالریحانی للطباعة والنشر (بلاتاریخ)
  6. العطري،عبدالعزیز:ادبنا الضاحک ،دارالبشائر،ط 3، سوریا،1994 م.
أحمدالصافي النجفي نموذجاً

[1- الجوسی،سلمی الخضراء2001،ص258.

[2نفس المصدر،ص259-260

[3الصافي النجفي،احمد1961م،ص7.

[4العطری، عبدالغنی،1994م ،ص313.

[5المصدر نفسه، ص313.

[6الصافي النجفي،احمد ،1944،ص142

[7الصافي النجفي، احمد،1946م،ص20

[8المصدر نفسه، ص32

[9الصافي النجفي،احمد(اللفحات)،بلاتاریخ،ص69-71.

[10الصافي النجفي، احمد1946،ص23

[11نفس المصدر،ص23.

[12الصافي النجفي، احمد(اللفحات)بلاتاریخ،ص53.

[13نفس المصدر،ص95.

[14الصافي النجفي،احمد(التیار،قصیدة سارق غیرشاعر)1946،ص41-42.

[15نفس المصدر،ص42.

[16المصدرنفسه،ص107.

[17نفس المصدرص30-31.

[18.نفس المصدر ص101

[19الصافي النجفي،احمد(اشعة ملوّنة)بلاتاریخ،ص16.

[20نفس المصدر ص24.

[21الصافي النجفي ،احمد(دیوان التیار)1946.

[22الصافيالنجفي،احمد(اللفحات)بلاتاریخ،ص180.

[23الصافي النجفي،أحمد( اشعّة ملوّنة)بلاتاریخ، ص19.

[24نفس المصدر ص18.

[25نفس المصدر ص60.

[26الصافي النجفي ،احمد (التیار)،1946.

[27نفس المصدر ص113-115.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى