الصيام آفاقاً
في أول يوم من رمضان الذي فرض فيه الصيام كما كتب على الأسلاف، أتوقف عند عناصر ثلاثة.
الأول: معنى رمضان، فقد ورد في المعجم: الرمض هو شدة الحر، ومنه يقال (كالمستجير من الرمضاء بالنار)، وفي الحديث الشريف: صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحا أي إذا وجد حر الشمس من الرمضاء.
الثاني: معنى الصوم والصيام، فقد ورد في مختار الصحاح، الصوم هو الإمساك، وصيام كصوم، وفي عمدة الحفاظ " الصوم هو الإمساك مطلقاً، سواء كان الممسَك عنه مطعماً أو مشرباً أو كلاماً أو مشياً سواءٌ صدر ذلك من حيوان أو غيره، ومنه صامت الشمس: إذا بلغت كبد السماء فلم تجر، توهموا إمساكها عن السير. وصامت الفرس: أمسكت عن الجري أو العلف، ورد في الشعر:
خيلٌ صيامٌ، وخيلٌ غير صائمةٍتحت العَجاج، وأخرى تَعْلُـكُ اللُـجُما
ومصام الفرس ومصامته: موقفه، ومنه قيل للريح إذا ركدت: صوم.
وقيل في قوله تعالى: "إني نذرت للرحمن صوماً" أي إمساكاً بدليل قوله تعالى: "فلن أكلِّم اليوم إنسيا"
وجاء في موسوعة الأديان الميسرة "الصوم مدرسة نفسية وصحية، لها تأثيرها الكبير على الإنسان، في كافة الميادين الروحية والبدنية، وهو شهر الجهاد والكفاح في التاريخ الإسلامي القديم والحديث".
الثالث: كما كتب - الصيام - على الذين من قبلكم، وهنا لا بد من العودة إلى أدبيات من هم قبل الإسلام.
نستعرض بعض الديانات الشرقية القديمة (من كتاب أديان الإنسان عبر التاريخ / ديب هزيم) حيث يعني الصوم هو الالتزام الذاتي بالأخلاق وعمل الخير، ونستشهد بما يفيد الصوم كنوع من التحريم السلوكي.
ففي الديانة البوذية (على سبيل المثال من الديانات الشرقية القديمة، يقول بوذا " وهاكم أيها الرهبان الحقيقة النبيلة عن الطريق الذي يقود إلى قطع دابر المعاناة، وذكر بوذا منها "الاستغراق الذاتي القويم" ومن وصاياه العشر "ابعد عن عدم العفة، لاتكذب لا تخدع، امتنع عن المسكرات، كل باعتدال ولا تأكل بعد الظهر، لا تتطلّع إلى المشاهد الراقصة أو الغنائية أو التمثيلية، لا تقبل الذهب أو الفضة و باقي المجوهرات".
وفي الهندوسية تستخلص التوصيات التالية: "الامتناع عن العنف والكذب والتسبب للغير بالأذى،والابتعاد عن التطاول على الغير، والامتناع عن السرقة وعن الفسوق، تأدية فروض تطهير الجسدوالتفكير فيما هو إلهي وضبط النفس وقهرها والصلاة، وإن استحضار حالة من النشوة الصافية هي الشعور بتحرير كامل للذات الحقيقية من العالم الخارجي والسببية الطبيعية".
وفي الكونفوشيوسية الصينية كان الصوم هو التنظيم العقلاني للحياة، لاستهاف الأخلاق الفاضلة وتنظيم السلوك الإنساني وإصلاح الأخلاق واستئصال الفساد، وقد اتخذ الصينيون الأخلاق الفاضلة مذهباً في الحياة يتمثل في التزام السلوك الحسن وفعل الخير.
وإذا استعرضنا الديانتين الموسوية والمسيحية حول مفهوم وشعائر الصوم ، فإنه يقتضي الرجوع إلى الكتاب المقدّس (معجم اللاهوت الكتابي) الذي هو من خصوصيات أتباع سيدنا موسى وسيدنا المسيح، فقد ورد فيه:
"يقوم الصوم بالامتناع عن كل طعام أو شراب وعند الاقتضاء عن العلاقات الجنسية خلال يوم أو أكثر من الغروب إلى الغروب" ويتابع المصدر المذكور القول "إن الغربيين في عصرنا الحاضر، حتى المسيحيين منهم، لا يقدّرون الصوم حق قدره، على أنهم وإن امتدحوا الاعتدال في الشرب والأكل، يبدو الصوم لهم مضراً بالصحة ولا يرون فيه فائدة روحية. إن هذا الموقف هو على النقيض مما يلاحظه مؤرخو الأديان في كل مكان تقريبا، حيث يحتل الصوم مكاناً هاماً في الممارسات الدينية بدوافع النسك والتطهير والحداد والتوسّل إلى الله، ففي الإسلام هو الوسيلة الكبرى للاعتراف بالسمو الإلهي" ؤيتابع نفس المصدر حول معنى الصوم "لما كان الإسان نفساً وجسداً، كان من العبث أن نتصوّر ديانةً روحية محضة، ولكي تلتزم بشيء ما تحتاج إلى أفعال الجسد وأوضاعه الخارجية، فالصوم المصحوب دائماً بصلاة التضرع إنما يعبّر عن تواضع الإنسان أمام الله، ولا غرو فالصوم يعادل إذلال النفس.... يجب أن يتضمن الصوم البر الحقيقي،... الصوم الحقيقي هو صوم الإيمان، هو وضع الذات بإيمان في موقف لحمته وسداه التواضع، لتقبل عمل الله والوقوف بين يديه" ؤيتابع ذات المصدر "إن هذه النية العميقة - نية الصوم الإيماني - تكشف عن معنى الأربعينات التي قضاها موسى وإيليا دون طعام، وكذلك صوم السيد المسيح أربعين نهاراً وأربعين ليلة، وأنه أمر به خاصة للشفاء من أسقام النفس وطرد الشياطين منها إلا أنه ربطه بالصلاة (متى 17: 21)".
قد لايكفي كل ما تقدم في القناعة بفضيلة الصيام بأشكاله المختلفة التي وردت في الديانات - كما تقدم - ، لذلك أرى الرجوع إلى مصدر علمي طبي أكاديمي بهذا الشأن، شأن الصيام، (المرجع هو كتاب: الوصفة الطبية للعلاج بالتغذية / تأليف د. جيمس ف. بالش و د. فيليبس أ.بالش / مكتبة جرير )
الصيام (Fasting )
بمرور الوقت تتراكم السموم في الجسم كنتيجة لملوثات الهواء الذي نتنفسه والمواد الكيميائية التي تلوث الطعام الذي نأكله والماء الذي نشربه بالإضافة إلى الوسائل الأخرى. ومن وقت لآخر يحاول الجسم أن يبحث عن وسيلة ليخلص نفسه من تلك السموم وينتزعها من أنسجته. وعند حدوث ذلك تنطلق السموم إلى تيار الدم متسببة إلى أن يشعر المرء بأن حالته انحدرت إلى الأسفل، وأثناء هذه الدورة ربما تشعر بالصداع أو تصاب بالإسهال أو يعتريك الاكتئاب. إن الصوم هو وسيلة فعالة وآمنة لمساعدة جسمك على أن ينتزع السموم من نفسه، ويجتاز هذه الدورة التي يعتريك فيها الانحدار بسرعة أكبر وبأعراض أقل. في الواقع إن الصيام مطلوب لكل الأمراض لأنه يعطي الجسم الراحة التي يحتاجها لكي يبرأ مما ألمّ به. إن الأمراض الحادة، واضطرابات القولون، وأنواع الحساسية، وأمراض الجهاز التنفسي، تستجيب بأحسن ما يكون للصيام، إن الصوم من خلال إراحة الجسم من العبء المبذول في هضم الطعام يسمح للأجهزة بأن تخلّص نفسها من السموم بينما يقوم الجسم بتسهيل عملية الشفاء.
غير أن الصيام بحد ذاته مفيد للجسم ليس فقط كنظام حماية أثناء المرض أو أثناء دورات الانحدار التي تعتري الإنسان أثناء التخلص من السموم، بل إن الصيام المنتظم يجعلك تمنح أعضاء جسمك فترة راحة، وبذلك يمكنك أن توقف ولو وقتياً عملية الشيخوخة فتعيش عمراً أطول وتتمع بحياة أكثر صحة أثناء الصيام.
العملية الطبيعية لإفراز السموم تستمر بينما يقل دخول كميات جديدة من السموم، ويترتب على ذلك انخفاض السمية العامة في الجسم.
الطاقة التي يستخدمها الجسم عادة لإتمام عملية الهضم يعاد توجيهها إلى الجهاز المناعي ونمو الخلايا وعملية إزالة السموم.
ينخفض العبء الملقى على جهاز المناعة بدرجة كبيرة ويرتاح الجهاز الهضمي من أي التهاب نتيجة نشأة الحساسية للطعام.
تنخفض دهنيات الدم فيصبح الدم أخف من ذي قبل ويزيد حجم الأوكسجين الوارد إلى الأنسجة وتتحرك كرات الدم البيضاء بكفاءة أكبر.
تنطلق المواد الكيميائية المخزّنة في الدهون داخل الجسم مثل مبيدات الحشرت والأدوية.
يصبح وعي الأنسان بجسده وتذوقه للطعام وإحساسه بالجو المحيط أكثر إدراكاً.
نصيحة أخيرة: إذا استغرق الأمر عدة سنوات لإحداث تغيير سيء في صحة الإنسان، فمن البديهي أن إعادة بناء الجسم مرة أخرى، ستستغرق وقتاً ليس بالقليل، ولكن عليك أن تصدّق أن ذلك يمكنك تحقيقه. لذلك كلما أحسست أنك لست على ما يرام صُـم وصُـم وستجد نفسك دائماً أفضل"
انتهى الاقتباس الحرفي الجزئي من الكتاب آنف الذكر، وإن الفقرة الأخيرة تذكرنا بالحديث الشريف " صـوموا تصـحوا".