المتقاعدون
لم يخطر بالبال يوما أن تتم دراسة عن مآل المتقاعد بعد ان يغادر وظيفته، تلك الاستدارة وعدم المبالاة آن أن تستيقظ من سباتها، وأن نتصدى لها، إنها تمس أحداً منا أو من حولنا أو من أقاربنا وقد بلغوا أو يكادون أرذل العمر بعد خدمة وأداء وعطاء في مجال العمل العام، أو في مجال القطاع الخاص، وكل من طالت سلامته يوما سيكون في موقع التقاعد الذي نبتغي أن يكون جميلاً كما يقتضي الوفاء والمعروف والإحسان، بل ولعل ذلك تحفيز على الأمان الوظيفي وتمنيعه من احتمال الفساد.
لقد حدد القانون سناً معينة، سماها السن القانونية، لكي يصرف من بلغها من الخدمة.إلى خارجها نهائياً، حتى ولو أمكن أن يستفاد من خبرته، التي هي بمثابة الخميرة في خبز الوطن. وكان بالإمكان أن نبقي على استثمار خبرته المهنية بشكل او بآخر أويمكن أن ينتظم في جهة بحثية مفيدة تديرا الدولة.
هذا المتقاعد وهو على شرفة حياه الوظيفية قبيل أن يحين الوقت المحدد لتقاعده ينتابه الشعور بالقلق المبهم على القادم من الأيام - فيما يسمى التقاعد أو الإحالة على المعاش - بسبب احتسابه لما هو متوقع:
يخرج مما اعتاد عليه ويصبح في انفصام بين ما ألفه وهو على رأس العمل، وبين لحظة من اللحظات سيصبح ( Out) أي خارج العمل العام، هذا الشعور يشعره بأنه قادم على متاهة لا يمكن التنبؤ بمدى ومدة إمكانية التعايش معها، إذ ذاك قد ينأى عنه من يحيطون به وهو على سروج خيله ــ كما يقال ــ، ويكون على حد القول "ومضى كل إلى غايته.... "، هذا الشعور الكامن في النفس شعور رهيب، يحاول صاحبه أن يخفيه لكنه يتصاعد مع اقتراب الوداع، قد يكون هذا مسؤولاً فيتأمل هذا المكتب.... الآذن (الحاجب) الذي يلبي نداءه بإشارة..... وربما آخرون ممن يخضعون لسلطة هذا الراحل إلى المجهول... وربما السيارة وسائقها ......ومن يتولى خدماته وحاجاته وجلب مستلزمات بيته... ودفع الفواتير التي يجيد من يتابعها دقة مواعيدها ومهلها.....كل هذا سيذهب، وسيبقى هو من يدبر أموره شخصياً.. سيقف في طوابير المستلزمات (الكهرباء والهاتف والمياه والتموين وقبض الراتب التأميني) كل هذا الشعور يتنامى مثل كرة الثلج الحارة (هنا وليست الباردة) مع حينونة موعد التسليم، إنه نوع من الرحيل المقدر وليس المرغوب. وإذا كان المثال المتقدم هو عن مسؤول فإن العامل أو الموظف العادي تكون معاناته أكبر.
ما هو المصير؟ أفراغ واستقلال في البيت حيث علاقة غير معهودة مع أهله؟ أم تجوال على المعارف القدامى فيما هو التسكع إن تكرر؟ أم ركون إلى الحديقة العامة لعله يلقى مثيله ممن يجترون الأيام تترى كمن ينتظر ماء من سراب؟ أو ينتظر ضيفا سماوياً غير مستساغ ينهي إلى الأبد هذا الانتظار:"؟ أم يتوقع عملاً آخر يبحث عنه فلا يجده لائقا إن وجده، وماذا يجيد موظف قضى سحابة عمره وراء روتين معين لا يشكل في الحياة الاجتماعية أي خبرة أو أي اعتبار؟ ربما يسلم قياد فكره إلى تأمل ما كان عليه قبلاً لكن هذا التأمل ينتهي إلى بوار.
وعلى سبيل لمثال لا الحصر، فقد اضطر متقاعد عن وظيفة مدير مالي إحدى الجهات العامة الكبيرة إلى العمل الخاص كمحاسب لدى (محل) لكي يغطي الفرق بين ما كان يتقاضاه من أجر ومزايا وبين ما صار يتقاضاه حاليا بعد إحالته على التقاعد. وليس ثمة مجال لإيراد أمثلة كثيرة.....
الإشكال الثاني الذي ينتاب المتقاعد أومن على أهبته هو النقص الفادح في دخله الذي يشكو أصلا من عدم كفايته، إذ ما يسمى بالأجر قد أصبح يسمى راتبا تقاعديا أو معاشاً وهو أدنى بلا شك من اجر الوظيفة المحدود مع ذهاب المزايا المادية التي يتقاضاها القائم على رأس العمل كالتعويضات والأجر الإضافي والمكافآت والترفيعات الدورية ولا سيما وأنه قد تقدم في العمر وأصبحت أعباؤه أكثر خاصة تعرضه هو وبعض أهله الذين هم بكنفه إلى أمراض تلازم كبار السن (السكر، ارتفاع الضغط، تصلب الشرايين، آلام المفاصل..) وفي هذه الحالة، وحيث لا يوجد ضمان صحي خاص بالمتقاعدين، يضطر إلى أن يتعرف إلى الجهات التي تعالج مجانا وتبقى هذه مسألة قيد النظر، لأنه لا توجد لدى البعض ثقافة الخدمة العامة بشكل لائق مع مراعاة شأن الكبير الذي أنفق شبابه وهو يؤدي عطاء شريفا لوطنه ومجتمعه، ولولا تمسكه بأهداب الشرف الوظيفي لكفاه ما سلف من وارد، ولما احتاج إلى طرق أبواب المانحين وهم يطبقون صورة " اليد العليا خير من اليد السفلى"، أنىّ لمثل هذا العامل (أو الموظف العام) أن يتدارك الخسف في أجره الأساس بعد التقاعد، وتزايد أعبائه المادية والحيرة فيما هو فاعل إذا ألمت به بعض أمراض كبر السن وهي تتميز بالديمومة والكلفة العالية في المعالجة والدواء، والأدهى من ذلك أنه حين ترد زيادات عامة نسبية على الأجر بسبب غلاء المعيشة فإن الزيادة الطارئة تحسب على الراتب التقاعدي الذي هو بدوره نسبة من الأجر الأساس، وبهذا لا يكون ثمة عدالة مادية بين القائم على رأس العمل والمتقاعد.
قد يرد في الخاطر أنه يمكن لمثل هذا أن يعتمد على فضل أولاده الذين أنشأهم وصاروا منتجين, هذا صحيح مبدئيا لكن هل هو متيسر؟ ولا سيما أن هؤلاء هم بدورهم أخذوا سبيلهم في الحياة وبحاجة هم بدورهم إلى الاكتفاء المادي. هذا ليس حلا لائقا أومجديا.
قد يقال فليبحث هذا المتقاعد عن عمل! كيف السبيل إلى ذلك وأثقال ما بعد الستين تثبط همته وتنقص أو تعدم مردوده؟ وهناك شباب بسن أبنائه أو أحفاده اصطفوا قبله على نافذة البحث عن عمل أي عمل في زمن يلحظ فيه بعض البطالة لولا أن هناك من وجد عملا في غسل السيارات في الشوارع ليلا أومراقبة الوقوف المأجور للسيارات أو بيع أوراق اليانصيب - وما أكثر هؤلاء - أومسح زجاج السيارات على مفارق الطرق أثناء الإشارة الحمراء او بيع الدخان المهرب أو افتراش الارصفة لبيع مواد استهلاكية شائعة هذا في أشرف الأحوال!!!
أنى لمتقاعد أن ينافس هؤلاء حتى لو ارتضى أن ينافسهم؟
قد يبحث المتقاعد عن ماضيه فيلبس ثيابه السابقة مهما تقادمت ومهما تفارق حجمها أو زيها عن حاله الراهنة، أو يرتاد محلات الألبسة المستعملة (البالة) فيبدو كمن يعيش القرون الوسطى في مستجد الزمان.
يضطر المتقاعد أن يتباهى أحيانا وذلك بمناسبة التعريف عن نفسه بأنه كان في مكانة وظيفية راقية فاعلة لعل ذلك يعطيه حظوة في أعين المستخفين به! كمن يقول عن نفسه أو يعرفه الغير بانه كان مديرا أو رئيس الدائرة كذا أو كان ذا أمر ونهي، ...قد يتبدى هذا الاستخفاف ظاهرا لكنه يبقى راسخا في دواخل معظم الناس.
إنني متقاعد، - وقد وجدت حلولا شخصية هوَّنت علي مكابدة الفراغ والضغط المادي والحمد لله - ولست متشائماً إذ أعرض هنا إحباطاً يلم بالمتقاعدين إلا من رحم ربك، لكنني متفائل بأولي الأمر الذين ينتبهون ويهتمون بهموم الشعب أن يبادروا إلى الالتفات والتوجيه لرفع المعاناة الخفية كما تقدم.
يبقى السؤال المتصاعد ما هو الحل أو الحلول؟
مشكلة تدني الراتب التقاعدي المتعاكس مع الضغوط الصحية لكبير السن، يمكن مثلاً تقريرمنح المتقاعد زيادة في أجره الأخير قبل انتهاء خدمته مقدارها ترفيع دوري استثنائي وتدخل في حساب الراتب التأميني (التقاعدي)، ثم لماذا لا نشيع بصيص أمل لدى هولاء البائسين بمنحهم زيادات دورية أسوة بالقائمين على العمل مراعاة لتزايد الأعباء التي قد تتمادى في غيها أو مراعاة للتضخم النقدي الزمني.
تقنين الغطاء الصحي للمتقاعد
إفادة شخص المتقاعد من حسم نسبي في أجور الخدمات والمرافق العامة كالهرباء و المياه والنقل البري والجوي والبحري والهاتف وعلى ضريبة دخل مسكنه......
إحداث ناد لائق للمتقاعدين في مراكز المحافظات تموله الدولة، فيه مستلمات الثقافة وأجهزتها والتسلية الراقية، يكفيهم التسكع والشرود في الشوارع، وإحداث نقابة أو رابطة لهم - كما للمحاربين القدماء -يمكن أن تمثل شؤونهم وشجونهم.
ثم ما هذا الاصطلاح غير المستحب وهو تسمية من انتهت خدمته بسبب السن القانونية ب "متقاعد" إنها تعني القعود واستنظار حينونة الأجل وفي هذا إحباط وتثبيط، وقد سمعت من قرأها "مت قاعد" والقصد واضح، أرى أنه من المكن تغيير التسمية بما هو أليق مثلا بكلمة "سابق" فيقال السابق فلان أو العقيد السابق.... ويسمى المعاش أو الراتب التقاعدي براتب الخدمة السابقة، وأرى في ذلك نظرة معنوية وإنسانية جديرة بالاهتمام.
هذه الشريحة الهامة من المجتمع أما آن يتقنن وضعها وحقوقها بقانون عام؟
أخيرا: التقاعد هو تعبير عن تخرج من اجتهد طويلًا ومخلصاً في مضمار العمل العام ليستحق أن يكافأ في نهاية تحصيله على ما أنجز خلال السنوات الشبابية والكهولية وجدير بهذا الجندي المدني أن يكرّم وأن يكون مع السائرين في طريق الحياة البهيجة وليس على أرصفتها. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان!
ومن باب المشاهدة وليس المقارنة أقول:
لعل المتقاعد هنا لا يحلم أن يسافر في سياحة خارجية كما يشاهد في وجبات السياح الأجانب!!!! بل وربما ولا استجمام داخلي!
إن روزنامة (تقويم الزمن) اليوم تتضاءل وستحل غيرها كما تضاءلت وانتهت سابقاتها وكما سنتهي اللاحقات، لقد خلق الله للإنسان عينين تتطلعان أماماً ليتحسب المرء لما هوآت، فلتجتهدوا ولتعملوا -أيها القائمون الفاعلون -على تجميل ما سيرد ما دمتم على سدّة العمل.
الخطاب موجه إلى المسؤولين الذين تتقدم بهم الأيام وهم على نواصي السلطة والقرار وهم متجاهلون أن مصيرهم كذلك غداً، وإن غدا لناظره قريب.