الأربعاء ٤ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم محمد نادر زعيتر

الوحدة العالميـة

ليس على الله بمستنكرٍ
أن يجمعَ العالم َفي واحد

يؤدي التبصر في العلاقات الحضارية بين الأمم غابرها وحاضرها إلى تقصي حالة يمكن أن نسميها بالوحدة العالمية أو الإنسانية أو الأنسنة حسب مصطلح الباحث الفرنسي روجيه غارودي في كتابه الأساطير المؤسسة ل«دولة إسرائيل»، وأدى تصور هذه الحالة إلى تشبيه التواصل الحضاري العالمي بنظرية الأنابيب المستطرقة، لكن تشويهاً غائياً طرأ على هذا المنظور....

شهد القرن التاسع عشر أوج الاقتصاد، الذي امتد عالمياً الى حد بعيد، والنتيجة أن اصبحت التأثيرات الاقتصاديه لهذا التمدد لاحقاً أكثر حدة وضغطاً على الثقافات القوميه والفعاليات السياسيه، على مستوى عالمي في القرن الماضي، وقد عرف هذا التوجه باسم العولمة في ترجمة للمصطلح الانكليزي [1] والفرنسي [2].

و تبدّت العولمة بمفهوم الطرح الغربي والأمريكي، والذي يسعى الغرب (وريث الكولونيالية) إلى ترويجه بشتى الوسائل التكنولوجيه الحديثه، بأنها محاولة فرض نموذج معين للثقافه الاستهلاكية الموجهة أساسا لدعم العمل الاقتصادي والتجاري.

وشاع مفهوم مايعرف بالثقافه الشمولية أو «القريه الصغيره أو المجتمع الكوني» الذي يكمن وراء انتشار الثقافات والتداخل الحضاري بين الشعوب.

ويمكن أن نعتبر الولايات المتحده الأمريكيه البلد الأكثر انفتاحاً على العالم والأكثر حضوراً فيه بعد سيطرتها على ما سمي ب «المجتمع الدولي»، وهو الاسم المستجد للأمم المتحدة، وادعاء تصدُّرِها السيادي على أنظمة العالم.

من هنا كان منطلق ظاهرة العولمة، حيث يتوافق مصطلح «العولمة» مع معنى «الأمركة»، وبحيث أضحى النظر إلى العولمة على أنها قادمة من الولايات المتحدة التي يسيرالغرب في ركابها.

في هذا السياق كان قبلاً ظهور كتابي "صدام الحضارات، وإعادة بناء النظام العالمي" مؤلفه الصحفي الأمريكي/صموئيل هنتغتون/ عام 1993، وكتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" مؤلفه الأمريكي من أصل ياباني/فرانسيس فوكوياما/ ذو النزعة الليبرالية، الذي ينتهي إلى قسمة العالم مجدداً إلى من هو داخل التاريخ، ومن تخطاه وأكمل تحقيبـه، وبالتالي إلى الإقصاء عن التاريخ الذي يتحتم على الشعوب الخارجة عن التصنيف الغربي، وأكثر من ذلك ينتهي إلى الحكم على هؤلاء "الخوارج" بالطرح في مكب التاريخ نهائياً.

على أثر هذين الظهورين تباحث منظرو العالم غير الغربي في تصعيد هذا التوجه الاستئثاري الذي بدأ يتشخّص في ما يسمى ب«العولمة»، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وقد بدت مستفردة مستأثرة مستقوية في العالم، باعتبارها القطب السيد الرائد المعتمد من الإله بعد انزياح الإتحاد السوفييتي من الخارطة السياسة. وكان من جملة ردود الفعل أن تنادى القوم إلى ما يسمى "حوار الأديان" أو "حوار الحضارات" ، هذه الحراكات التي لا تزال غير مؤدية إلى نتيجة ملموسة، وكانت عبارة عن مراوحة في المكان، وأصداء متلاشية، ومجاملات ظرفية..... .

ما هي الاستراتيجية المهدوفة من هذه الحوارات؟ كيف نتفادى الصراعات التي نبحث في ظواهرها، هل كالطبيب الذي يصف مسكِّناً دون البحث في أسباب الألم، إما لجهله، أو لتصريف الحالة المعروضة عليه؟ إن مثل هذه المعالجة، على مستوى دول وقوى دولية، والتي يسمونها تكتيكاً، لا تفيد في كشف حقيقة الداء المستشري في الجسم العالمي، وبالتالي لا نكون في موقع من يعالج حقيقةً، إلا إذا اتفق المتحاورون على قاسم مشترك يكون هو الدواء الاستراتيجي في تلك الحوارات هنا وهناك.

ما هو أصل الداء؟

هو ذا التشخيص الواعي:

حروب الفرنجة في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي التي يسمونها "الصليبية"، لإسباغ الصفة الدينية عليها، لم تكن- في ذهن معدّيها- لوجه الله، فقد كانت القدس، مهد السيد المسيح، في مأمن لكل قاصد أو حاج، ولا يذكر التاريخ أي إشكال ديني قبيل هذا العدوان، لقد كانت هذه الحروب من أجل السيطرة على بلاد العسل واللبن، وإلا ما معنى أن يقود هذه الحروب ملوك وأمراء ونبلاء؟ وما معنى أن يتوسع هؤلاء في المعارك والاحتلالات حتى الساحل السوري بكامله، ويحتلوا أعماق بلاد الشام، وقبلها آسية الصغرى، ويقيموا في كل من الرها وأنطاكية إمارة غربية، ويقيموا الحصون، وتأسيسات من يفكر في السيطرة الشاملة الدائمة؟ وما معنى أن يقصد الجنرال الفرنسي غورو إثر الغزو الفرنسي لسورية عام 1920 - أي بعد أكثرمن سبعة قرون - بعد احتلال دمشق ضريح صلاح الدين، ليقول له هازئأً شامتاً: ها قد عدنا يا صلاح الدين! هل كان الانتداب الفرنسي العلماني نصرة للصليب! ثم هو ذا بوش الرئيس الأمريكي السابق يصرح علناً، في مطلع القرن الحادي والعشرين، أن مهمته في غزو بلاد في الشرق، واحتلال العراق، إنما هي متابعة للحروب الصليبية، على الرغم من أن العراق لم تكن مهدوفة في الحروب الصليبية التاريخية بالأساس، وحين أدرك خطورة هذا الكلام، حاول التدارك بأنها زلة لسان، ولكنه، بعد ذلك، لجأ إلى صيغة دينية توراتية، هذه المرة، بمقولة "محور الشر"، من أجل التمويه على الحقيقة،

لقد عرف الداء، البعيد عن أي دين، وإذن، فإن الصراعات ليست بين أديان أو ثقافات أو حضارات، ولو أريد لها أن تتزيّا بزيِّه، أو أن تتجمّل بشعارات الديمقراطية والسلام، بل إنها صراعات المصالح، صراع الأنانيات الدولية، صراع على المكاسب، ومن أجل ذلك فليكن للمنظرين أن يفلسفوا ويبرروا ضروب النفوذ والهيمنة والتدخل وحتى القتل الجماعي، ولا بأس أن يوضع الحصان خلف العربة! إنها ستسير على أية حال.

وإذن - برأيي - إن ديكورات تجمعات أو أدبيات أو عناوين من مثل: حوار الأديان أو الحضارات أو الثقافات لم تؤت أكلاً حتى الآن. فلنحذر المداورة حولها – دون الإعداد لها – لمجرد إقناع أنفسنا بالمسكنات التي لا تصيب الداء موضوعياً.

حوار الحضارات في المنظور العربي الإسلامي

لقد تمثّـل العرب الحضارات الأخرى في أبان نهضتهم الحضارية، وجسدوا التفاعل العالمي دون أن يخطر بالبال أي صدام أو صراع، كما هو مكرّس هذه الأيام.

إن الرسول محمد (ص) دعا قومه للعلم بقوله:"اطلبوا العلم ولو في الصين"، والصين ليست من بلاد الإسلام أصلاً.

لقد جمع الرسول العربي في بيته ومن حوله شخصيات ذات انتماءات من شتى الأجناس: الحبشي (بلال)، الفارسي (سلمان)، الرومي (صهيب)، القبطية (مارية)، اليهودية (صفية) فهل نبذ المجتمع العربي الناشئ هذا التآلف بسبب اختلاف أصولياتهم الحضارية؟
إن ترجمةَ كتب الإغريق، وفلاسفتِهم خاصة، التي تصاعدت في العهد العباسي، والنهلَ العربي منها، والتمازجَ مع الفلسفة والعلوم العربية. هل كان إلا للاعتقاد أن الثقافة هي مشاعُ العالم كله؟

إن استقاءَ الغرب، في مبتدأ نهضته الفكرية والصناعية، من الشرق العربي شتى العلوم واعتمادَها والبناءَ عليها، لتصبح القاعدة الحضارية المتطورة الصاعدة الآن، ليس إلا عملاً نافعاً للبشرية يدحض كل مقولة عن تنافر الحضارات أو تعارك الثقافات.

في عصر الازدهار العربي الأندلسي كان انبهار الأوروبيين بنور الحضارة العربية، إّ أقبلوا عليها واستفادوا منها، حتى أن البلدان الأوروبية مثل إيطاليا وفرنسا وألمانيا وإنكلترا بدأت بإرسال بعثات علمية إلى الأندلس، إذ وصل عدد طلاب هذه البعثات أكثر من 700 طالب سنة 312هـ في عهد الخليقة عبد الرحمن الناصر، ويذكر المؤرخ شليبر من بينها بعثة فرنسية برئاسة الأميرة إليزابت ابنة خال الملك لويس السادس ملك فرنسا، كما أن فيليب ملك بافاريا بعث إلى الخليفة الأموي هشام الثالث يستأذنه بإرسال بعثة طلابية للإطلاع على النهضة العلمية في الأندلس والاقتباس منها، وكان على رأس هذه البعثة وزير الملك ويلمبين الذي سماه العرب فيما بعد وليم الأمين، وفي الوقت نفسه قامت بريطانيا باستدعاء بعض العلماء والمهندسين العرب الذين قاموا بتشييد أكبر جسر على نهر التايمز، وقد عرف هذا الجسر باسم جسر هليشم وهو تحريف لكلمة هشام خليفة الأندلس عرفاناً بفضله. ويذكر أيضاً أن ملك إنكلترا أرسل بعثة من بنات النبلاء والأشراف وقي مقدمتهن الأميرة دوبانت ابنة أخيه إلى الأندلس، ووجه معهن خطاباً إلى الخليفة الأموي هشام الثالث يقول فيه:

"أردنا لأبنائنا اقتباس حضارتكم، لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر نور العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل" (التراث العربي العدد117 /2010 ص43)

يقول العلامة الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب): "إن العرب هم الذين فتحوا لأوروبة ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفة بتأثيرهم الثقافي، فكانوا ممدنين لنا وأئمةً لنا ستة قرون" / د. محمد حرير ـ مجلة التراث العربي ـ العدد 115: 2009/.
معلوم أن الغرب يكتب ويحسب بالأرقام العربية المتسربة إليهم من المغرب والأندلس....وتزخر القواميس اللغوية الغربية بالمفردات العربية المنشأ... والعرب بدورهم يكتبون ويحسبون بالأرقام الهندية الأصل، أليس هذا دليلاً على آفاق فكرية واحدة تظلل هذا العالم من الهند إلى العرب إلى أوروبا، تتكلل بقوس قزح فيه ألوان متعددة كما هي التعددية الثقافية منذ أن بزغ هذا القوس الحاني على العالم كله؟

أليست الروح الدينية في الغرب التي يتعمَّد بها أطفاله، وترافق أرواح موتاهم في قارتيه الأوروبية والأمريكية إلا نوراً برز من البشرية الشرقية - مهد السيد المسيح - روح الله، ثم من هنا كان مصعده نحو العلاء الإلهي، ولا تزال المسيحية الضمير الحي في الغرب ونجواه.
عندما أهدى الخليفة العباسي الساعة العربية الأعجوبة لشارلمان ..يوم كانت أوروبا غافية في عصر الظلام، أليس ذلك إلا للاستدلال على مدى التقدم الحضاري العربي، وتحريضاً للغرب ليقدروا ذلك، ويعملوا على منواله!

أليست مقدمةُ ابن خلدون وعقلانيةُ الفيلسوف الحكيم ابن رشد العربيين ذَوَيْ الهوى الأندلسي واللتان لا تزالان موضع الدراسة والإعجاب إلا نبراساً فكرياً لعالم الغرب قبل الشرق... ولا ننس عواطف ابن حزم الأندلسي في "طوق الحمامة" التي حاكاها الشعر الأوروبي لاحقاً في مبناها ومعناها.

آن لنا بعد التقديم الآنف، أن نبرز صورةً حية ًعن الحراك الثقافي العربي في سالف الزمان، كشاهد على مدى انفتاح الحضارة العربية العلمية على الآخر، إنه ما يسمى "بيت الحكمة".

ما هو الحل الآن؟

وقد استشرى التعصب والتمحور والصدود بين بعض أبناء الأمة الواحدة، وما بين شعوب وقبائل أمة الله (الإنسانية كلها) التي أراد لها الله أن تتعارف، بتداعيها إلى كلمة سواء، وهو- أي التعصب- ما يبتغيه العدو ويسعى إلى تصعيده للاستفراد بعالم متنافر مقطع الأوصال. "فإنما ينال الذئب من القطيع المتباعد".

إن نخب شعوب العالم كله مدعوة للتعارف أولاً، ثم الكلمة السواء، فيما أصطلح عليه ب" ميثاق الشرف العالمي" جوهره مبادئ قيمية لا يختلف عليها أي إنسان سليم، ومناطها كل دين وكل مذهب وكل نظام. وسوف آتي على استقصاء تلك المبادئ تالياً.

استقاءً من الأية الكريمة: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". سورة الحجرات/13)، والتي أعتبرها من التراث العربي الذي نفخر به منذ أن كنا خير أمة أخرجت للناس.

المنطلقات الأيدولوجية في الوحدة العالمية:

أولاً—المرجعية الإنسانية:

كل الناس أصلهم واحد، من أب واحد، تسلسلوا ذكورأً وإناثأ متشابهين في الخلق، وأما اختلاف اللون فهو بسبب التباين الجغرافي والاختلاف الطبيعي الذي لا يؤدي إلى أي تفاضل، وإن ما تواضعت عليه الشعوب من التمايز القومي أو الإقليمي لا يشكل أي انتهاك لوحدة الأصالة الإنسانية.

وإذا رجعنا إلى أدبيات آخر الأديان وهو الإسلام، على سبيل الاستئناس والقياس، نجد أن الخطاب الموجه ل "الناس" و "العالمين" و "ياأيها الإنسان" و " يابني آدم" هو الغالب في كتاب الله، وهذه المصطلحات لايختلف حولها المفسرون في كونها قاصدة كل العالم الموجود على الأرض، والمعنى أوضح في قوله تعالى :"ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" (سورة النساء/1)، بهذا المعنى قال الإمام علي (ر):"الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".

كما لا يوجد في أي من الديانات أو الأفكار ما ينكر على الإنسان أصوليته المبدئية، فقد ورد في التوراة، التي يؤمن بها اليهود كشريعة (العهد القديم) والمسيحيون كناموس (العهد الجديد) في سفر التكوين " فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم، وباركهم الله، وقال لهم: أثمروا، واكثروا، واملؤوا الأرض......".
وورد في قاموس الكتاب المقدس" وقد شملت العناية الإلهية الإنسان، كيما ترفعه، وترده إلى مكانته من الله"، وورد في معجم اللاهوت الكتابي" ولأن الإنسان هو سيد الأرض، فهو أيضاً وجود الله على الأرض".

وورد في أدبيات ديانة مصر القديمة في مخاطبة الإله سيد الأبدية" أنت الذي أحللت كل إنسان في موضع، وأنعمت عليه بحاجاته، فصار كل منهم يأخذ نصيبه، ويعيش أيامه المعدودة، لقد خلقت ألسنتهم وأجسامهم وجلودهم، فسبحانك من ممـيـِّزٍ لخلقك".
وورد في عقيدة الهندوس:" على سطح الأرض، نشأ في العالم أول زوج وأول زوجة، واجتمع الزوجان..فكان أولُ نسلهما النتاجَ البشري".

وفي الديانة البوذية ورد أن بوذا يقول لأتباعه من الرهبان:" مبارك كل من كانت فيه الحقيقة والاستقامة..اذهبوا .. وعلموا كل واحد، في كل مكان كيف يجب أن يحيا الإنسان حياة صالحة".

وفي العقيدة الجانتية اليابانية، "حين يذهب المؤمن إلى المعبد يصلي أمام التماثيل داعياً بالسلام والابتهاج لجميع المخلوقات قبل أن يطلب أي فضل لنفسه".

وفي الكونفوشيوسية" إذا كنت عاجزاً عن خدمة الناس، فكيف تستطيع أن تخدم أرواحهم؟".
وفي معتقد الداوية:" قابل الإساءة بالإحسان، فأنا طيب مع الطيبين، وطيب أيضاً مع غير الطيبين، فبذلك يصير كل الناس طيبين".

وفي الزرادشتية:"ومن ذا الذي أخرج العقل النير(أي الإنسان)؟ إنه أنت يا واحد...ياأهورمزدا".
إذن تخلص كل ديانات العالم إلى سواسية وتمجيد ورفعة الإنسان، وكان الإسلام بذلك أثيراً متميزاً.

فقد خلقه الله من جنس طبيعي واحد، دون تمايز، والكل مخلوق من ذكر وأنثى واحدين، كما بينّـا في مطلع هذا المقال، وزود الله الأب الإنساني بالعلم: "وعلم آدم الإسماء كلها" (سورة البقرة/31)، وكرمه: "ولقد كرمنا بني آدم" (سورة الإسراء/70)، وجعله خليفة في الأرض:" هو الذي جعلكم خلائف الأرض" (سورة الأنعام/165)، وكلف الله الملائكة أن تسجد له بعد أن نفخ فيه من روحه: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم.." (سورة البقرة/34) ودلّـه على طريقي الحياة :"و هديناه النجدين" (سورة البلد/10)، ثم سخر له كل شيء لمعيشته ، هذا المخلوق الإلهي - الإنساني هو أبو كل الناس على الأرض.

تلك هي الأنسنة التي أشار إليها روجيه غارودي، في كتابه الذي ذكر آنفاً.

ذلك هو المنطلق الأول البادئ لأي حوار حول العالمية الحائلة دون أي إشكال مبدئياً.

ثانياً —الإعتراف بالآخر والاحترام المتبادل

وهذا يقودنا إلى التسليم بالاختلاف بين البشر، وهذه ظاهرة فطرية، سواءً على الصعيد الجغرافي، أو على الصعيد القومي، أو على الصعيد الأيدولوجي بين الاشتراكية والرأسمالية، أو على الصعيد العالمي دول العوالم الأول والثاني والثالث، أو على الصعيد الديني، وهوالصعيد الأبرز على مدى التاريخ، إذ ثمة مذاهب وتيارات ضمن المسلمين، وكذلك لدى المسيحية، واليهودية التي تتباين بين أورثوذكس وكاثوليك وبروتستانت، وإلى جانب تلك المفارقات هناك العلمانيون، أي حوار يمكن أن يوفق بين هؤلاء المتعددين المختلفين؟ يستحيل ذلك ما لم نقبل ب "التعددية" كحالة إنسانية واقعة دون أن يتطرّف أحد في أحد مواقعها، وهذا ما تبناه إعلان حقوق الإنسان منذ أكثر من قرنين بنبذ التفرقة بين البشر في الجنس أو اللون أو الدين.
وكان الإسلام منذ أربعة عشر قرناً قد أقر بالاختلاف والتعددية والاعتراف بالآخر، قال تعالى:"ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك" (سورة هود/118) وقوله تعالى:"والسماء ذات الحبك، إنكم لفي قول مختلف" (سورةالذاريات/8)، وقوله تعالى:" لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" (سورة المائدة/48)، وقوله : "لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه " ( الحج / 67).
والمأثور عن الرسول (ص):"اختلاف أمتي رحمة"((1) شرح صحيح مسلم ج 11 ص91 – 92 .
(2) الجامع لأحكام القرآن/ تفسير القرطبي ج4 ص151 )) . وكذلك المأثور التراثي:" الاختلاف لا يفسد للود قضية".

وإذا كانت هناك آلية في الوجود يمكن أن تميز الاختلاف وأهميته، فلا شك أنها آلية الحوار، وقد دعا الله إلى مجادلة الناس بالتي هي أحسن، وحتى ألد أعداء الرسل والذين حاربوا شرائع الله، جاء الأمر الإلهي في القرآن بالقول اللين لهم "اذهبا ( موسى وهرون) إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى *" ( سورة طه / 43 – 44).

يرى البعض أن رائدَ التعددية الدينية، واحترامِ هذا المبدأ الذي عاش في سبيله، والذي كلفه حياته، هو المناضل الهندوسي غاندي القائل:"إنني أملك ثقة عمياء بالله وبوجوده، وميلاً للحق والحب لا ينضب معينه، ولكن أليس هذا كامناً في كل إنسان؟" وأضاف:"إنني لا أريد هيبة ولا صيتاً، فتلك مكانَها قصورُ الأمراء، إنني خادم للمسلمين والمسيحيين والمجوس واليهود بقدر ما أنا هندوسي".

إن ما يقتضي التنبيه إليه هو وجوب أن يحظّـرَ تجاوز الآخر على الآخر، واستغلال أي أسلوب للتدخل في مكامن أفكاره، أو انتمائه طالما لا يسبب الضرر العام أو للغير، تحت شعار التسامح أو حرية التعبير، بتسفيه معتقده ونقده والتجني عليه بأي وسيلة من وسائل التعبير أو الإعلام، يجب التأكيد على حق الخصوصية العقدية أو الثقافية أو أي مبدأ يعتنقه من يشاء دون أن يمس الآخر، إن الخصوصيات المسالمة يجب اعتبارها، ويدخل هذا في إطار التسامح.

وفي ذلك يقول المفكر الفرنسي"فـولتيـر" :"أنا لا أومن بكل ما تريد أن تقول، ولكنني سأدافع حتى الموت في حقك أن تقول ما تريد".

إن النقيض للتسامح بأشكاله ( الدينية والفكرية والتعبيرية ...) هو ما انطلق عليه حديثاً مصطلح " الدوغماتية"، ماهي الدوغماتية؟

الدوغماتية: تعريب لكلمة Dogmatism ، وهي تعني الوثوقية أو التوكيدية، وهي تعني أيضاً الاعتقادَ الجازمَ واليقينَ المطلقَ دون استناد إلى براهين يقينية، وإنكارَ الآخر ورفضَه باعتباره على باطلٍ مطلق. (البعض يسميها التزمّت) والدوغماتية ليست مذهباً فلسفياً أو دينياً، وإنما هي سمة وطريقة تفكير تتسم بها أي فرقة أو مذهب أو فلسفة تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة بشكل كامل، ولا تقر بأنها قد تحتمل شيئاً من الخطأ أو النقص، وتقطع بأن ما تحوزه من معارف ومعتقدات، لا يقبل النقاش ولا التغيير، حتى وإن تغيرت الظروف التاريخية أو السياقات المكانية والاجتماعية.

ومع كل ما تقدم، نؤكد أنه يجب أن يحترم أتباع الديانات والشرائع والمذاهب والعقائد والعلمانيون ومن يسمون ب الليبراليين والراديكاليين وغيرهم بعضَهم بعضاً، قال تعالى "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً" (سورة المائدة /48) ْ. وقال في نهاية المطاف للكافرين بدينه "لكم دينكم ولي دين" (سورة الكافرون /6).

و الاحترام المتبادل يكون بان أدع الآخر وما يعتقد، وليدعني الآخر فيما أومن، فلا يمسُّ من وما أُجِــلُّ من ثوابتَ ورموزٍ شخصية، لأن ذلك يؤدي إلى تعصب ذميم ورد فعل مرفوض، ولنوكل التحكيم إلى قوة فوقية هي مآل الجميع مهما تعددت التسميات أو اختلف في تصويرها؟
يقول السيد المسيح: " كن مراضياً لخصمك ما دمت معه في الطريق" (متى /5/25) وقصة إشفائه بنت المرأة الكنعانية التي ليست من جماعته إذ قال لها "يا امرأةُ عظيمٌ إيمانُـك، ليكن لك ما تريدين فشفيت ابنتها من تلك الساعة" (متى /15/28) وأثناء تجوال السيد المسيح أحضر إليه جميع مرضى ذلك المكان، "وطلبوا إليه أن يمسوا هدبَ ثوبه فقط، فجميع الذين لمسوه نالوا الشفاء" (متى /14/26) دليل على التآخي العام على الرغم من الاختلاف العقدي.

وتؤدي هذه الميزة، ميزة " الاعتراف بالآخر" و"احترام الآخر" أو الإقرار ب"حق الخلاف" أو "واقعية التعددية" الى الفضيلة التالية:

ثالثاً - التســــامح (نبذ التعصب)

لن أعرِّف التسامح’ إذ يكفي المعنى اللغوي الظاهر لهذا المصطلح، لكنني سوف أستشهد بالمأثور عن هذه الفضيلة "فضيلة التسامح".

يقول د.رؤوف عبيد في كتابه (الإنسان روح لا جسد):" لولا ميزة "تعدد االأديان"، لما كان لفضيلة التسامح الديني - وهي أصل لفضائل كثيرة - من مبرر ولا مكان. التسامح هو طريق المحبة الحقيقية التي لا تعترف بأخوة أصدق ولا أعمق من أخوة الإنسان للإنسان، وبغيرها يصبح الإيمان بالله نوعاً فحسب من إيمان الإنسان بنفسه وبما ورثه من اعتقاد، وبالتالي حافزاً للأثرة بدلاً من الإيثار، الذي هو الأب الشرعي والأم الرؤوم لكل فضيلة حقيقية ".

إن البديل عن التسامح هو التعصب والتزمت وازدراء الآخر حتى درجة الضرر أو العنف في أقصى السلوكيات الشائنة ضد الآخر أو الآخرين.وهذا ما يجب أن يحرّم ويجرّم كلياً.

 وقد نادى غاندي:"بأن عدم العنف هو قانون الإنسان، كما أن العنف هو قانون الوحش، إن الغابية والقوة والغلبة هي قانون الوحوش، أما القيم - وأهمها: التسامح والأثرة فهي قانون الإنسان وميزته، ولكن متى يُعنى الإنسان - ولا سيما إذاكان من النخبة - بهذه الميزة، فلا يكون أقرب لسلوك الوحوش؟".

 ورد في التوراة المتداولة (العهد القديم) ــ التي نتحفظ على بعضها ــ ما يفيد الدعوة إلى التسامح، من مثل هذه الوصايا :"كل ما تكره أن يفعله غيرك، فإياك أن تفعله أنت بغيرك" وورد :"اغتسلوا وتطهروا وأزيلوا شر أفكاركم (...) وكفوا عن الإساءة، تعلموا الإحسان والتمسوا الإنصاف" ( الكتاب المقدس للمدرسة والعائلة في العهدين القيم والجديد - العهد القديم / بعناية الأب باسيليوس كناكري، ص135). لكن اليهود في الواقع لم يلتزموا بالمعاملة الحسنة المتكافئة مع الآخر، ولم يعرفوا ذلك الإنصاف الموصى به. فقد حارب اليهود كل العالم القديم، واحتقروا، ولا يزالون يسفّلون الآخر، كونهم حسب زعمهم خلق الله المختارين المتميزين أصلاً، وهم الآن فوق القانون وعكس القيم وهم رموز الإرهاب المتمركز في المنطقة العربية. كيف ونبيهم موسى كان يناله الأذى منهم، ووصفهم بأنهم غلاظ الرقبة (أي لا يعرفون الرحمة)، ووصفهم السيد المسيح:" هكذا أنتم، من خارج تظهرون للناس أبراراً ولكنكم من داخل مشحونون رياءً وإثماً"(متى:33/28)، وكان في نهاية المطاف أن استحقوا الوصف الإسلامي "أشد الناس عداوة" (سورة المائدة/82).’

 أما في الأدبيات المسيحية فقد تميزت بالتسامح، أليس إلا المسيح القائل:" من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الأيسر أيضاً"، ( متى:5/29)، والقائل:" أقول لكم: "إن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم" (متى5/23)، وقال:"أما أنا أقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّـوا من أجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم...." (متى:5/44)، وعن صراحة التسامح العام - الذي عُبر عنه بالمغفرة الأخوية - جاء في قاموس الكتاب المقدس:" طلب الله من المؤمنين أن يغفروا لإخوتهم المسيئين إليهم، لأنهم إن غفروا للناس زلاتهم يغفر لهم أبوهم السماوي خطأهم، ولا يغفر الله تلك الأخطاء ما لم يغفر الناس لبعضهم البعض".

وجاء في الأدبيات المسيحية :"عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنّـوا إليكم، وإن متُّم بكوا عليكم"، (الكتاب المقدس للمدرسة والعائلة في العهدين القديم والجديد - العهد القديم / بعناية الأب باسليوس كناكري، ص135).

 أما في الإسلام، فقد ورد الكثير عن التسامح حتى مع الذين أخرجوا نبي الإسلام من مهده مكة ثم قاتلوه، إذ قال لهم، بعد أن تمكن منهم بفتح مكة،:" اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة، إذهبوا فأنتم الطلقاء..." والوثيقة التي منحت العهود لليهود عقب هجرة الرسول إلى المدينة كانت مثالاً للعلاقات الندية بين ديانتين لم يراعها الطرف الآخر، واختار الغدر والنقض، وكذلك العهدة العمرية بين الخليفة عمر(ر) وبطريرك القدس (صفرونيوس) التي حفظ فيها للاخوة المسيحيين كل حقوقهم وحرياتهم الدينية، وقد اختار هؤلاء أن ينص في هذه العهدة على عدم مساكنة اليهود في المدينة، لما عرف عنهم من مكر وضغينة.
أما في القرآن الكريم فهناك الشواهد الكثيرة على التسامح، فمثلاً قصة ولدي آدم (قابيل وهابيل) التي أوردها اليهود في توراتهم للإشارة إلى أولية الخلاف بسبب الجنس بين أخوين، بينما وردت في القرآن الكريم شاهداً على أعظم تسامح بين ابني آدم، إذ قال الأول للثاني المعتدي:" لئن بسطت يدك إلي لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك" (سورة المائدة/28)، أما الآيات التي تؤدي إلى الانفتاح الديني على الآخر وعدم إحراجه في اتباع دين الإسلام، فقد كان من أصرحها الآية على لسان الرسول في خطابه للكافرين:" لكم دينكم ولي دين"، وآيات عديدة بهذا المعنى:" فذكّر إنما أنت مذكّر، لست عليهم بمسيطر" (سورة الغاشية/22). و:"ليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء" (سورة البقرة/272). و:"لا إكراه في الدين " (سورة البقرة/256). و:"آمنا بالله وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله" (سورة البقرة/285). و:"إن الله يغفر الذنوب جميعاً" (سورة الزمر/53). و:"أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (سورة يونس/99). وقال تعالى في آداب الحوار :"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" (سورة النحل/125)، وفي الحديث يقول الله عز وجل:"اسمِحوا لعبدي كإسماحه إلى عبادي" والإسماح: لغة في السماح والسماحة بمعنى المتابعة والانقياد، وفي الحديث المشهور:"السماح رباح" أي أن المساهلة في المعاملة تريح صاحبها، وتقول العرب:"عليك بالحق فإن فيه لمسمحاً" أي متسعاً،(لسان العرب).

إن الاختلاف فطرة نافعة، يقول الإمام علي رضي الله عنه: " اضرب بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب.-"

 وفي هذه المعاني أيضاً، تحدث عدد كبير من الفلاسفة والمتصوِّفين، ومنهم الشاعر الفيلسوف محيي الدين ابن العربي المتوفى في عام 638 هـ، والذي كتب في قصيدة معروفة له، يقول:

كنـت قبـل اليـوم أنكر صــاحبـي
إذا لم يكن دينه من شـــــرعتي دانـي
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمـرعى لغـزلانٍ وديـرٌ لرهبـــــــــــان
وبــيتٌ لأوثـانٍ وكعـبةُ طـائـف
وألـواحُ توراةٍ ومصــــــــــحفُ قـــــرآن
أديـنُ بديـن الحب أنى توجّهتْ
ركائبــُه، فالحـبً دينـي وإيـمانـــــــــــي

وفي نفس الاتجاه كتب أمير الشعراء شوقي، يقول:

الدين لله من شاء الإله هــــــــــدى
لكل نفـس هوى في الديــن داعيها
ما كان مُخْتَلِفُ الأديان داعيـــــــةً
إلى اختـلاف البـرايا أو تعـاديهـا
الكتْب والرسل والأديان قاطبـة
خزائن الحكمة الكبرى لواعـيها
محبـة الله أصل فـي مراشـدها
وخشية الله أسٌّ في مبـانيـــــــــها
تسامح النفس معنى من مروءتها
بل المروءة في أسـمى معانيــها

أسفل النموذج

ما هي الاستراتيجية المنشودة نحو وحدة عالمية؟

هي التعارف من أجل تثبيت ما هو متفق عليه لدى أي من الجماعات والأفراد في العالم، مما تجمع عليه الأديان والفلسفات، على صيغة" ميثاق شرف عالمي" جوهره "القيم الأخلاقية" التي تجمع عليها كل الأديان والجهات السياسية والاجتماعية والثقافية والدولية.....

من ينكر أن جميع الديانات وتلك الجهات إنما تهدف إلى "الأخلاق" مبدئياً؟

ان جميع عقائد الشرق الأقصى تدعو إلى الأخلاق...إلى الخير في مواجهة الشر. وتزخر أدبياتهم بالوصايا الأخلاقية.

وفيما يلي بعض الشواهد:

# - يقول بوذا:" هذه هي الحياة .. كلها آلام...والطريق الصحيح إلى الحياة الصالحة هي الوصايا الخمس للاستقامة:

1 - لا تقتل كائناً حياً.

2 - لا تسرق، أو تأخذ ما لم يعط لك.

3 - لا تقل كذباً قط.

4 - لا تقم على دنس.

5 - لا تسكر، أو تخدّر نفسك في أي وقت.

إن من يلتزم بها سيدخل النيرفانا (وهي درجة التنوير السامية).

وكان بوذا يحض أتباعه على الحب البيني والحب الإنساني قائلاً: على الإنسان أن يتغلب على غضبه بالمودة، وأن يزيل الشر بالخير، إن الصراعات تولد المقت للمغلوب والخوف من الانتقام للغالب، من أجل ذلك الحب..عاش الملايين من أتباع بوذا يحبون بعضهم، كما يحبون كل من يتحدث إليهم بعبارة جميلة، تقول:"السلام على جميع الكائنات".

- أما ماهافيرا رائد العقيدة الجانتية المنتشرة في اليابان فيقول:"في داخل نفوسكم الخلاص...فليس بالصلاة ولا بالقرابين.... ولا بعبادة الأصنام والأوثان.... يمكن للمرء أن يجد الغفران... أو أن يصل إلى طريق الحياة الصالحة، ولكن بالعمل الطيب، يمكن بلوغ "النيرفانا".

- ويقول كونفوشيوس:"إن أول ما يجب على الناس أن يعرفوه، هو أن أي إنسان لا يستطيع أن يعيش وحده ويصبح سعيداً".

- أما زرادشت فقد أوضح أن العالم تحكمه قوتان: قوة الخير ويمثلها:أهورامزدا، وقوة الشر ويمثلها أهرمان. وأوصى بست خصال:

1 - طهارة الفكر والكلمة والعمل.

2 - النظافة، والبعد عن كل ما هو دنس.

3 - الإحسان بالفعل والقلب.

4 - الرفق بالحيوانات النافعة.

5 - القيام بالأعمال النافعة.

6 - مساعدة الذين لا يتيسر لهم تحصيل التعليم بتعليمهم..

# - أما في الأدبيات الموسوية، فقد وردت الوصايا العشر المنزلة على النبي موسى، وفيها من المبادئ الأخلاقية: "لاتقتل ، لاتزن، لاتسرق، لاتشهد زوراً، لا تشته امرأة غيرك" وفي سفر المزامير المنسوبة لداود، حيث جاء في مطلعها: "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس، .... فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل، وكل ما يصنعه ينضج..." وفي موضع لاحق ورد:"الرب صالح ومستقيم، لذلك يعلـّم الخطاةَ الطريق* يدرِّب الودعاءَ طُـرَقَهُ* كل سبل الرب رحمة، وحق لحافظ عهده وشهاداته* " وفي موضع آخر:"من هو الإنسان الذي يهوى الحياة، ويحب كثرة الأيام ليرى خيراً* صن لسانك عن الشر وشفتيك عن الكلم بالغش* حد عن الشر، واصنع الخير* اطلب السلامة، واسع وراءها* ...الشر يميت الشرير، ومبغضو الصديق يعاقبون*. وورد في الأمثال المنسوبة إلى سليمان:" إذا دخلت الحكمة قلبك، ولذّت المعرفة لنفسك* فالعقل يحفظك، والفهم ينصرك لإنقاذك من الشرير ومن الإنسان المتكلم بالأكاذيب* التاركين سبل الاستقامة للسلوك في مسالك الظلمة* الفرحين بفعل السوء المبتهجين بأكاذيب الشر* الذين طرقهم معوجة وهم ملتوون في سبلهم*".

# - أما في الأدبيات المسيحية، فقد كان السيد المسيح يبدي اللطافة والشفقة، وكان محبوباً، ووهبه الله المعجزات ليشفي المرضى، وكان لا يتورع أن يذهب إلى أي مكان فيه مساعدة، كما جاء في إنجيل متى9:36، ولوقا19:2-10، ودعوته الحبية هي التالية:"تعالوا إليّ ياجميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم" (متى11:28-30). وكان مما تميزت به المسيحية ذلك التسامح الذي سبقت الإشارة إليه. والهتاف بالمحبة والسلام مما تعج به الأناجيل المعتبرة.

# - أما في الاسلام، فقد وصف الله نبيه محمدا (ص) :"وإنك لعلى خلق عظيم" (سورة القلم/4)، وقول هذا النبي:" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، كم جميل أن يعبر عن غاية الدين، بل كل الأديان، بأن الغاية هي تكريس الأخلاق، وعن الرسول محمد(ص) أيضاً:" ما شيئ في الميزان أثقل من حسن الخلق"، وقوله:" أحسن الحسن الخلق الحسن".

تتسامى ذات الإنسان نحو الربّانيّة لذا يدعو الإسلام أن تتحقِّق إنسانية الإنسان بالتخلّق بتلك الصِّفات التي سمّاها القرآن الأسماء الحُسنى،وفي الحديث الشريف:"تخلّقوا بأخلاق الله".
و ليوضِّح العلاقة بين الإيمان والالتزام بالقيم الأخلاقيّة ،كما في الحديث أيضاً: "أكملكم إيماناً أحسنكم خلقاً" .

إن أهم قيمة أخلاقية على الصعيدين الفردي والإنساني بإجماع كل الشرائع هي:" الخير" وقد وردت في القرآن الكريم/176/ مرة، أي أكثر المفردات إطلاقاً بعد لفظ الجلالة، ووردت قيم أخلاقية أخرى، منها على سبيل المثال: لفظ "السلم والسلام" ورد/138/ مرة، وكلمة "الحب"، وردت/38/ مرة، و"المودة/29/ مرة.

# - يقول د. رؤوف عبيد ( وكيل كلية الحقوق بجامعة القاهرة) في كتابه: "مفصّل الإنسان روح لا جسد":" إن الدين الحق والأخلاق الحقة، يرتبطان معاً ارتباطاً لا ينفصم، والدين للأخلاق بمثابة الماء للبذرة التي وضعت في الأرض"، (ج3ص180).

# - وفي هذا الصدد يقرر في كتابه "حضارةُ العرب" الفيلسوفُ الاجتماعي جوستاف لوبون:" ومما قلته غير مرة، أن قوة الأمم بأخلاقها لا بذكائها، والذكاء يساعد على البحث في أسرار الطبيعة والانتفاع بقواها، والأخلاق تعلم الخير ومكافحة ضروب الاعتداء بنجاح"،
ويضيف:"وللأخلاق نفوذ ذو سلطان قوي على حياة الأمم، لقد تسرب الانحطاط إلى الكيان الامبراطوري الروماني لأنهم أضاعوا صفاتهم الخلقية من ثبات ونشاط وصلابة واستعداد للتضحية في سبيل مثل عال، ومن احترام وثيق للقوانين، أي أنهم أضاعوا هذه الصفات التي كانت سبب عظمة أجدادهم".

وحول التلازم بين الأخلاق والمعتقدات، يقول غوستاف لوبون:"ولا مراء في أن تاريخ الأمم السياسي والفني والأدبي وليد معتقداتها، بيد أن المعتقدات مع تأثيرها في الأخلاق تتأثر بالأخلاق تأثراً عظيماً، وإذا سألت عن أخلاق أمة ومعتقداتها وجدتها مفاتيح مصيرها، والأخلاق بحكم عدم تباينها بين الشعوب أو عبر الأزمنة أو الأمكنة تجدها عاملاً هاماً في الثبات والاستقرار المؤديين إلى وحدة العالم وسلامه". (عن كتاب/السنن النفسية لتطور الأمم/ ترجمة الأستاذ عادل زعيتر1975 ص16).

# - وقد أفاض الأدباء والشعراء في مدح الأخلاق، نذكر على سبيل الاستذكار:

وإنما الأمـم الأخلاق ما بقيـت
فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبــوا
صلاح أمرك للأخلاق مرجعـه
فقوِّمِ النفس بالأخلاق تســتقمِ
إنـا طرقـنا الحيــــــــاة كل باب
فوجدنا الأخلاق بابَ النــجاةِ

أقول: "إني استعرضت تواريخ الأمم، وأسباب سقوطها - الإغريق، الرومان، البيزنطيين، وغيرهم – فوجدت أن أسباب انهيار تلك الامبراطوريات هو انحدار أخلاق قادتها ثم تسرب الفساد إلى مجتمعاتها"، وقد وجدت مثل هذا المعنى يتردّد في "قصة الحضارة" مؤلفها /ول ديورانت/.

ما هو الحل؟ إن القاسم المشترك في العالمية هو القيم الأخلاقية، فلنتجاوز، بمناسبة الحوار الخلافات العقائدية، دون أن نتعرض لها، لأن الحوار على أساسها لاطائل له، " قل كلٌ يعمل على شاكلته" (سورة الإسراء/84)، إن المؤلف بين الناس هو "الإلـــه" مهما اختلفت أسماؤه و رموزه، وأينما كان، وأياً كان الاسم أو الشكل. "ولكن الله ألّف بينهم" (سورة الأنفال/63) والكل يهدفون إلى " الخير أو النفع العام الإنساني" وهو غاية الأخلاق، ويبقى التآلف والتحاور السبيل إلى التعارف، تعارف الشعوب كما سبق الإشارة إليه.

إن آخر ما أود أن أختم به هذه الدراسة "العالمية" هو الحديث الشريف، الذي يعتبر النبراس في ما هدفت إليه، وهو:

"الخلق كلهم عيال الله
وأحبهم إلى الله
أنفعهم لعياله".

[1Globalisation

[2Mondialisation


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى