الـطبـيـب
حدث منذ سنوات بعيدة .. أن سطا ثلاثة من عتاة اللصوص ـ فى ليلة شتوية مظلمة ـ على قصر ثرى من أثرياء الصعيد .. وتنبه لهم خفراء القصر رغم شدة الظلام .. أحس بهم الخفراء قبل أن يصلوا إلى الخزانة .. واشتبكوا معهم فى معركة نارية .. ولكن اللصوص كانوا أشد مراسا وأقوى سلاحا .. فاضطر صاحب القصر لنفوذه أن يستنجد بعساكر المركز والمديرية وأسرعت قوة كبيرة وحاصرت اللصوص وقبضت عليهم .. ولكنهم كانوا فى ساعة الاشتباك قد قتلوا اثنين من العساكر وجرحوا ثلاثة .
وسيق اللصوص الثلاثة إلى المركز فتلقفهم العساكر بالضرب المبرح والركل انتقاما لما حدث لزملائهم فى المعركة واشفاء لغل صدورهم .
وحول اللصوص والدماء تنزف منهم إلى السجن .. وخشى مدير السجن المغبة لشدة الاصابات وأكثرها ظاهرة للعيان .. فحولهم إلى المستشفى الحكومى .
وكشف عليهم الطبيب المختص ودون كل ما وقع عليه نظره ولمسه كطبيب خبير من إصابات وجروح فى اللحم والعظم .. كتب هذا فى تقرير دقيق مفصل .
وشاع كل ما كتب فى التقرير فى أرجاء المستشفى بعد ما رفعه الطبيب إلى رئيسه مدير المستشفى .
وكان حكمدار البوليس فى مكتب مدير المستشفى بسبب ما وقع .. فاطلع على التقرير وهاله ما دون فيه ونهض مسرعا إلى حجرة الطبيب وفى عينيه شرر الغضب .. وابتـدره بقوله فى غلظـة :
– ما هذا .. يا دكتور ..؟!
– ولوح بالتقرير ويده ترتعش غضبا .
– ورد الطبيب بهدوء مالكا أعصابه
– تقرير من طبيب مختص عن اصابات حدثت للناس .
– ولكن هؤلاء الناس لصوص .. وقتلة .
– القتلة ستحاكمهم المحكمة يا سعادة الحكمدار على جريمتهم ولا أحد غير القضاء هو المختص بمحاكمتهم .. فلا أحاكمهم أنا ولا سعادتك .
– ولكن التقرير فظيع .. وواضح الإدانة على العساكر .
– دونت الحقيقة خالصة من كل غرض .
– لم يحدث مثل هذا فى تقرير يكتبه أطباء الحكومة .
– لكنه حدث ..
– تقول هذا بكل هوء وأنت لاتعرف العواقب .
– لو فكرت فى العواقب .. ما زاولت هذه المهنة قط .
ولانت ملامح الحكمدار وغير من لهجته تحت إصرار الطبيب وعناده .
– يا دكتور .. أنت فى سن ابنى مراد .. وأنا أنصحك الآن كما أنصح ابنى .. وأرى لصالحك أن تغير من بعض ما كتبته فى هذا التقرير .
– هذا لايمكن أن يحدث .
– هل فكرت أن هذا سيذهب بهيبة السلطة .. ويشل حركتها .. وإذا ضاعت الهيبة ضاع الأمن فى البلد .. وبهذه الهيبة نحميك أنت قبل أن نحمى غيرك .
– ليس الأمر على النهج الذى تصورته سعادتك .. ولو اتبع من بيده القانون لاستراحوا وأراحوا .
– يعنى نترك المجرمين والقتلة وقطاع الطرق يعيثون فى الأرض فسادا .. وإذا وقعوا فى أيدينا نربت " نطبطب " على ظهورهم .
– لم أقل هذا ولا أقبل أن أدافع عن مجرم ولا سفاح .. ولكنى أقرر الحقيقة كطبيب .. فى عمل من أخص خصائص مهنتى .. فمن الذى يكشف عن الجريح . الطبيب أو غيره ..؟ انه عمل الطبيب وحده .
– ولكن ما كتبته سيجر .. إلى أمر لاتدركه أنت فى هذه الساعة سيجر إلى ضياع السلطة وشيوع الفساد .
وأشعل الحكمدار سيجارة .. واستطرد :
– طيب عدم بعض العبارات .. مثل جرح عميق بطول .. وتهتك فى قفص الصدر .. وكسر فى الترقوة .. ومثل هذا كثير يحتاج إلى التعديل .
– ولا حرف .
– يابنى .. تعبت معك .. سأرى مدير المستشفى وقد يثنيك عن عزمك .. وتقبل منه النصح .
وجاء مدير المستشفى ولكن الدكتور " اسماعيل " ظل على إصراره ورفض .
وأخيرا قال له المدير :
– يا بنى أنت متزوج حديثا .. وأصبحت أبا لطفل .. وعليك مسئولية الأبوة .. وأرجو أن تقدر المئولية .. وأنت لاتعرف ما يجرى تنقصك التجارب .
وسقط مدير المستشفى فى نظر الطبيب الشاب .. سقط سقطة أبدية .
وسأل الطبيب الشاب مديره :
– وما الذى تريده منى ..؟
– تغير من لهجة التقرير الحامية ..!
– أغير الحقيقة .. وأكتب الباطل .. أزور .. هل هذا هو ماتعلمته من الدكتور عبد العزيز اسماعيل .. والدكتور على ابراهيم .. والدكتور محمد صبحى .. والدكتور أحمد شفيق .. هل تعلمت من هؤلاء الأفذاذ التزوير .. حتى أكتبه .. حرام عليكم حرام .. وحرام أن يصل الهوان بنا إلى هذه الدرجة .
– يعنى تصر على رأيك ..؟
– إلى يوم القيامة ..
وتناول المدير التقرير وخرج غاضبا .. وعلم زملاء الدكتور اسماعيل بما حدث .. فانقسموا قسمين قسم رأى التغيير .. وقسم رفض .
وشاع أمر التقرير فى المستشفى بين المرضى والجرحى والممرضات والأطباء .. كان ما فعله الدكتور إسماعيل بقوله الحقيقة هو شىء شاذ وغير مألوف فى حياة المستشفيات .
وعندما رجع الدكتور إسماعيل إلى بيته .. لاحظت زوجه حاله .. وعلمت بالخبر .. فظهر على وجهها الألم .. وحاولت كتمان آلامها فى تحركاتها فى الشقة وانشغالها بطفلها وعملها البيتى .
ثم لما سألها عن رأيها قالت له :
– من رأيى أن تنزل عند رغبتهم .
– هكذا بكل بساطة ..!
– نعم ..
– يا لخيبتى فيك .. كان يسعدنى أن أسمع عن سيدة مصرية من هذا الجيل وقفت بجانب زوجها فى وجه العاصفة حتى تمر .
– أنت تعيش بخيالك وبعيدا عن عذاب العيش ولقمة العيش وهو الشىء الذى تشعر به المرأة .. وتعمـل له الحساب قبـل الرجـل .
– ولماذا هذا المنظار الأسود .. وتتوقعين الشر ..؟
– لأنى أرى فى كل ما حولى .. انتصار الشر .. وسيبقى صراع الخير والشر أزليا .. سيبقى الصراع أبديا إلى قيام الساعة ، وتلك إرادة الله وحكمته .
– ولهذا علينا أن نقاوم الشر بكل ما أعطانا الله من قوة .. حتى نقضى عليه .
– لو أراد الله الخير الخالص فى هذه الدنيا .. لما أبقى الشيطان فى الأرض بعد أن عصاه وأخرجه من الجنة .. أبقاه يعيش مع الإنسان فى الأرض لأنه جل وعلا هو الذى خلق الإنسان ويعرف طبيعة تكوينه عندما ينزع إلى الخير .. وعندما يكون شرا من الوحش فى ضراوته إذا نزع إلى الشر ..
– يعنى أبقى الشيطان على الأرض لأن الحياة الدنيا لاتستمر فى مسيرتها بغير شيطان وشياطين ..!
– نعم .. والا فكيف تختلف عن الجنة .. فى الجنة النعيم المقيم .. وفى الأرض الخير والشر وإذا قاومت الشر وحدك وأنت ضعيف ستخذل حتما .. تلك سنة الحياة .
– ولكن أشعر بكل الناس معى .
– أين هم .. أنى لا أرى حتى زميلا لك من أطباء المستشفى .. جاء ليزورك ..؟
– سترينهم .
وسمعت قرعا على الباب فمشت اليه وهى تتوقع زيارة صديق ممن يزورنه فى بيته .. ولكنها وجدت خالة لها قادمة بزيارة من الريف فانشغلت بها .. ودخل إسماعيل إلى حجرته بعد أن حيا الضيفة ورحب بها .
وفى اليوم التالى زاره وكيل الحكمدار فى بيته .. وكان الدكتور اسماعيل يتصور أنه جاء ليرجوه كغيره تغيير ما كتبه فى التقرير .. ولكنه وجده يشجعه على شجاعته ووقوفه فى وجه العاصفة التى أثيرت حوله .
وأخيرا قال له وكيل الحكمدار فى حماسة وهو يبتسم :
– يابنى أنت لم تر جدك " عبد المنعم " ولكنى رأيته .. فيك كل طباعه وكل صفاته .. أنا كنت ضابطا صغيرا فى النقطة ببلدكم .. وطوال مدة خدمتى فى النقطة والمركز لم يدخل فلاح واحد من أهل قريتكم نقطة ولا مركز .
عاش جدك عبد المنعم ومات وهو عمدة ولم يذهب فى حياته فلاح واحد من أهل القرية نقطة ولا مركز .. وكان يقول لى :
– أهين أهل بلدى .. وأجرهم إلى سجن المركز .. لا .. قد يخرج الطيب منه شريرا فى يوم وليلة .. لا لن يحدث هذا وأنا بصحتى أن وظيفتى كعمدة فى حسم الأمور هنا .. وإلا فلا خير فينا للناس المساكين الذين لاحول لهم ولا قوة ..
كان يعالج الأمور بطريقته الفذة .. سرقت جاموسة من " شريفة " وجاءت تشكو له ..
فيقول لها بابتسامته الوضاءة :
– طيب روحى يا شريفة .
وفى الصباح التالى تعود الجاموسه إلى بيت " شريفة ".
وهكذا ما يحدث من سرقة وعراك مع الفلاحين .. وما يحدث فى سوق القرية .. وفى غيطانها ونجوعها .. وفى زمن الفيضان وفتح الخزانات .. والنزاع على الرى .. وجنى القطن .. وضم المحصول .. وحراسة الأجران والجسور ..
مئات الأشياء التى كان ينهيها بقوة مراسه وهيبته وتجاربه ومعرفته بخلق الفلاحين وطباعهم .
وكانت قريتكم أول قرية أضيئت شوارعها بالفوانيس وأول قرية لم تحدث فيها حادثة قتل واحدة طوال مدة حكمه التى جاوزت عشرين عاما .. كنا نسميها القرية الآمنة .. فأنا يا بنى لم أدهش لفعلتك ولم أستغرب كما فعل غيرى فأنت خليفة والدك وجدك .
وشكر الدكتور اسماعيل وكيل الحكمدار وسره أن يكون من رجال القوة فى المديرية من هو على هذه الصفات الحميدة .
***
وبعد ثلاثة أسابيع نقل الدكتور إسماعيل إلى " أرمنت " .
ولما علمت زوجته بأمر النقل تركته إلى أهلها .. ووقف هو على رصيف المحطة وحده ينتظر القطار الذى سيقله إلى مقر عمله الجديد .
ولمح شبحا يتحرك فى سكون الليل .. والسنافورات تتحرك والريح تعوى وتصفر فى الأسلاك ..
ولما اقترب عرف الدكتور إسماعيل أنه معاون المحطة ..
وقال المعاون وفى صوته رنة الأسى :
– جئت أودعك يا بنى وأسلم عليك وأحيى شجاعتك فى هذا الزمن النكود ..
– شكرا يا عم " سمعان " فيك الخير ..
– لا تتصور أنهم انتصروا عليك بنقلك .. أبدا أنت المنتصر والناس تتصور دائما لغباوتها .. أن الحق مطموس وضائع .. والشر ينتصر على طول الخط .. وهذا خطأ .
اذهب الآن إلى المدينة بعد ما عرفوا فعلتك تجد الجميع يفخر بك ويصفق لك .. دخلت فى قلوب الملايين .. وسترى هذا الأثر فى عملك لو فتحت عيادة خاصة .. الناس لاتنسى الشجاعة أبدا ولا موقف البطل .. ولا تغفر قط للجبان الرعديد .. حتى وان كانوا هم فى أعماقهم جبناء لأنهم يقدرون من عبر عن شعورهم وما عجزوا هم عن فعله .. ومن هنا تكون صفات البطولة للبطل . أنه الفرد الذى تكلم وعبر عن خلجـات الجماهير الضائعة فى تيه الحياة .
ولا تفكر بطريقتهم ولو ضربنا وعذبنا كل مجرم وسفاح .. ما كانت هناك محكمة ولا محاكم فى الأرض .
– شكرا ياعم " سمعان " ملأتنى ثقة فى جوانب نفسى .. ولكن أشد ما يؤلمنى الآن ألا أجد زميلا واحدا جاء ليودعنى على المحطة .
– اعذرهم .. يا بنى .. قد يكون لهم عذرهم .. وقد يعوضك الله فى مقرك الجديد من هو خير منهم .
– شكرا لكلماتك الطيبة .. شكرا ..
– جاء القطار .. وقد حجزت لك أحسن المقاعد .. وخذ منى هذا التذكار البسيط .
وتناول الدكتور اسماعيل التذكار من المعاون وعيناه مخضلة بالدمع ..
وكان القطار وهو يدخل المحطة يصفر وأنوار عرباته تتوهج فى الظلمة .