الكلام عن الكاتبة والقاصة المغربية ليلى عبدلاوي
ليلى عبدلاوي كاتبة وقاصة مغربية،رزينة، ومحبوبة من الجميع، وهادئة بشكل عجيب، لكن بصخب حين تكتب، فتستميل القراء، ثم يقبلون على كتاباتها برغبة، شارك في صنعها الرسائلُ النبيلة التي تضمرها نصوصُها..
أستاذة لغة عربية حاصلة على التقاعد النسبي،
حاملة لشهادة الإجازة في الأدب العربي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة فوج 1983،
كاتبة خواطر وقصيد نثري باللغتين العربية والفرنسية وقصص قصيرة،
صدرت لها المجموعة القصصية الاولى (زوابع الصمت) من مؤسسة مقاربات للنشر بفاس في نونبر 2017،
شاركت بقصتين قصيرتين في الكتاب الجماعي الصادر عن نادي القصة السعودي سنة ٢٠١٨ (مرآة السرد وصدى الحكاية)،
صدرت لها مجموعة قصصية ثانية بعنوان (ليل وأسوار )سنة 2024 من مؤسسة مقاربات للنشر بفاس.
الكاتبة ليلى عبدلاوي تبوح، تابعوا معنا هذا البوح الجميل.
1 موقف طريف حدث لك في الأسرة، أو المدرسة، أو الحياة بشكل عام،
في الحقيقة هناك مواقف طريفة بلا عدد.. تفاجأنا بها إبان تقدمنا في دروب الحياة، قد تكون قد حدثت في محيط الأسرة، أو بين جدران الفصل، أوفي ساحة لمدرسة، أو بين جنبات الحي
موقف واحد ما يزال ماثلا أمام عيني...كانت بطلته جدتي رحمها الله تعالى.. وجدتي هذه تحملت نصيبا كبيرا في تربيتي.. وخلفت أثرا لا ينسى في طفولتي وصباي.. وكان لها دور فعال في بلورة شخصيتي وطريقة تفكيري وتصرفاتي عموما.. كانت رحمها الله تردد دائما أنني أشبهها في الشكل والصفات..
كنت أقضي الليالي الطويلة أستمع إلى حكاياتها الحقيقية.. التي عاشت أحداثها في عهد الاستعمار الفرنسي.. ولتجارب كثيرة تتراوح بين الفرح حينا والحزن والمأساة أحيانا كثيرة...وأستمتع لأحجياتها الشائقة التي كانت تغذي خيالي المتيقظ إلى القص منذ نعومة أظفاري.
أذكرالحدث كما لو أنه الآن... كنت أبلغ حوالي العاشرة من عمري، استدعتني لغرفتها، وضعت في يدي سبحتها و بعض النقود، وطلبت مني أن أتوجه إلى فقيه الكتاب المجاور لبيتنا ليقرأ على سبحتها بعض الآيات والأذكار لعلها ترتاح من ذلك الصداع الذي يلح عليها منذ أيام.
توجهت بخطاي الصغيرة إلى الدكان الذي كان الفقيه يتخذ منه كُتابا..لكني وجدته مقفلا..عدت إلى البيت وأخبرت جدتي بالأمر.
بقيت النقود في جيبي..وحينما غادرت المدرسة زوال الغد وجدت صديقاتي يتجمهرن حول بائع حلوى( غزل البنات) ومن هم من جيلي يعرفون جيدا هذه الحلوى.. لم أستطع التغلب على إغراء ألوانها الجميلة.. فاشتريت بنقود جدتي قطعتين..التهمتهما التهاما وأنا في طريق العودة أحاول إسكات صوت ضميري بأنني سأقرأ بنفسي الفاتحة وبعض السور على سبحة جدتي قبل إعادتها إليها..
عدت إلى البيت وقبل أن أتوجه إلى غرفة جدتي.. جلست في مكان قصي في الصالة، تناولت السبحة بين يدي وشرعت في قراءة الفاتحة عليها بصوت مرتفع.. دون أن أنتبه إلى أن أبي رحمه الله كان مستلقيا في ركن وراء الباب.. يراني من حيث لا أراه..
وجدته يقترب مني.. يتأملني بعينين متفحصتين ويسألني ماذا أفعل بسبحة جدتي.. ولماذا أقرأ عليها الفاتحة...لم أجد جوابا طبعا..
أخذني من يدي إلى جدتي..سألها عن الأمر..كانت امرأة قوية وذكية..نظرت إلي نظرة طويلة..ابتسمت ولم تقل شيئا..
لم ولن أنسى هذا الموقف/الدرس الذي -على طرافته-علمني الكثير..
ربما لو كنت قد تعرضت للعقاب..لمر الأمر سلاما...لكن الجميع في البيت آثر الصمت..وفضلوا جميعم الغفران على العقاب..
ازددت حبا لجدتي..وعاهدت نفسي ألا أعود لمثلها مرة أخرى..وكرست نفسي لخدمتها وطاعتها..
لايفوتني في هذا المقام أن أذكر أن فراق هذه المرأة العظيمة منذ عشرين عاما أحدث شرخا في نفسيتي لم يلتئم لحد الآن...
لم يكن أحد من أفراد أسرتي قد تلقى دروسا في أصول التربية..لكنني أذكر لهم مواقف مماثلة في مثل هذه التجارب..رحم الله جدتي ورحم ابي وألهمني ذكرهما والدعاء لهما باستمرار..ورحم أمواتنا جميعا واموات المسلمين...
2. الكتابة، حين تواتيك، كيف تُلبين نداءها.. هل من طقس معين،
الكتابة بالنسبة لي نداء قد يلح علي في أي لحظة.. لم يحدث أنني كتبت تحت نداء معين..أو لدعوة معينة..لذلك مع احتراماتي طبعا تجدني أستغرب حينما أقرأ في بعض المواقع...من وحي الصورة/أو أكتب في هذا الموضوع أوذاك..لأنني أعتبر أن الكتابة وليدة لحظة معينة..تأتي هكذا بدون استئذان..أو إشارة مسبقة.
يمكن مثلا أن أكون نائمة( وهذا نادر جدا) وأغط في دنيا الأحلام...فتمر أمام عيني سطور..أو أجدني أقول كلاما فصيحا..فأهب بسرعة لأسجلها على كراسة بقربي.. لأنني أعرف أنني سأستيقظ من منامي وأنا ناسية لها تماما..
قد أكون في تجمع عائلي.. يصلني منه حثيث كلام...أو ألاحظ حركة ما..أو تجذب انتباهي شخصية معينة...مما يوقد جذوة القصة الخامدة.. ويجعلها تشتعل في ذهني..فأبادر إلى تسجيل بعض الملاحظات و النقط على الهاتف قبل أن تتلاشى..
قد أتوقف في منتصف أشغال البيت..أمسح يدي من الماء.. وأتوجه إلى مكان هادئ لأكتب دون أن أشعر بتاتا بمرور الوقت..
غالباً ما أستغل وقت ما بعد صلاة الفجرلأكتب خواطر صباحية أنشرها على صفحتي على الفايسبوك..أو أشرع في كتابة قصة قصيرة..لا يمر يوم أو يومان في الغالب إلا وأكون قد أنهيتها...
أمر آخر لابد من الإشارة إليه للأمانة.. هو أن المجموعتين القصصيتين..تمت كتابة نصوصهما مباشرة على الهاتف...لم أستعمل بتاتا الورقة والقلم..وما إن أنتهي منها اضعها على تطبيق محفظة الهاتف..
ما أرومه من كتابة القص القصير..هو أن أبث انطباعاتي..اتحدث عن ذكرياتي..وأحلامي..أبث آلامي وآمالي..ما أعانيه.. وما يعانيه غيري من المسكوت عنه..
أكتب لأشفى من آلام جسدية قصوى يتسبب فيها داء مزمن على مستوى القلب..
أكتب لأريح هذا القلب قليلا من وقع الإحباط التي يسببه المرض من جهة.. وما تفرضه عليه حمى الحياة ومسؤوليات الأولاد الذين أراد الله لهم البعد عني والانتشار في بقاع متباعدة من العالم من جهة أخرى..
من طبعي أنني لا أشكو..أتقدم في العمر صامتة..صابرة..صامدة...شكواي أبثها لخالقي وحده...ولقلمي الذي ينزف بسخاء على الورق...
لا أكتب من أجل الأضواء..ولا من أجل الشهرة..يكفيني جدا أنني رأيت اسمي على كتابين.. وأملي أن يسعفني العمر لأراه مرات على كتب أخرى...وهمي الأول والأخير أن أترك أثراً طيبا..بعد أن أغادر هذه الحياة..
3. ورطة نُسجت لك أو وقعتِ فيها صدفة... كيف تخلصتَ منها،
الحدث الوحيد أو الورطة الوحيدة التي نسجت لي في حياتي وما زلت أذكر تفاصيلها الدقيقة لحد الآن...لأنني كنت ضحية وشاية وظلم كبيرين..ماتزال آثارهما ماثلة رغم توالي السنين...
كنت آنذاك تلميذة في السنة الأولى ثانوي أوكما يسمى اليوم بالسلك الثانوي التأهيلي.. مقبلة إقبالا كبيرا على مادة اللغة الإنجليزية.. أتابع دروسها في الفصل بشغف..وأحاول التطوير من مهاراتي فيها خارجه.
تم ترشيحي من قبل أستاذ المادة الفرنسي الجنسية ضمن ثلة صغيرة من تلاميذ المنطقة الشرقية للتسجيل بالتكوين المسبق الانجليزي للموسمي المواليين (السنتان الأولى والثانية بكالوريا في ثانوية عبد المومن بوجدة)
تم قبولي فعلا وأخذت أستعد نفسيا وماديا للانتقال إلى الثانوية الجديدة..
قبلت التحدي للحصول على أعلى الدرجات..بتشجيع من أستاذ المادة الذي كان يمدٌني في حماس نادر بمختلف المراجع والمجلات..
وقبل أن ينتهي العام الدراسي..
وقع ما وقع..رأيت الأستاذ يغير فجأة في معاملته..كنت أرفع يدي بالدقائق الطويلة للإجابة عن الأسئلة..أو للاستئذان للقيام إلى اللوح لكتابتها..بدون أن يأذن لي..كان يتعمد إقصائي تماما عن تفاصيل الدرس..وكنت أغادر الحصة كما دخلتها..ولم تنبس لي شفة..ولم يؤت لي جواب عن سؤال..
كنت أمر في نهاية الحصة أمام مكتبه فألقي التحية..لكنه لم يكن يردها أو حتى يرفع عينيه إلى وجهي..
مر الأسبوع مُرا كالعلقم...ثقل على الأمر..حرمني شهية الأكل.. والقدرة على النوم..فقد عشت طيلة حياتي الدراسية أحرص على كسب احترام أساتذتي..وكانت تقديراتهم الطيبة لي وملاحظاتهم الجيدة في حقي هي المجد الحقيقي بالنسبة لي..
زاد الجفاء عن حده..وازدادت المعاملة جفافا..وبرودة..
فاض الكيل..
انتهزت فرصة وقوف الأستاذ أمام باب القسم ليدخن في فترة الاستراحة..اقتربت منه...حييته..لم يرد..سألته عن سر هذا التغيير كله..ولماذا أقصى عن الدرس بهذا الشكل الغريب؟
نظر إلي مليا وقال:
– أنت التي كنت أراك مثالاً للتلميذة الجادة المثابرة.. كيف سولت لك نفسك أن تتحدثي عني لصديقاتك بتلك الطريقة المشينة؟
تفاجأت...وأحسست بغصة في حلقي... ولابد أن الدماء غارت من وجهي...
همست:
– والله أستاذي لم أقل شيئا.. والله...ليس من طبعي ولا من تربيتي..
قال:
بل قلت إنني أضع عطرا
والله أستاذي لم أقل شيئا.. والله...ليس من طبعي ولا من تربيتي..
قال:
بل قلت إنني أضع عطرا أنثويا..وماكياجا خفيفا لايرى....
صعقت هذه المرة..ازدادت الغصة في حلقي حجما..تكورت وكبرت حتى كادت أن تخنقني..أردت الكلام..لكن الصوت اختنق..قبل أن يغادر مخارجه..أخذت الدموع تنهمر بسخاء..اكتفيت بأن أهز رأسي يمينا وشمالا...واستندت على الحائط لكي لا أقع..
مرت أمام عيني جماعة الفتيات اللواتي كن أكبر مني سنا بكثير..يتصفن بالشقاوة القصوى...لايترددن عن التأخر والغياب متى أردن عن الحصص...لديهن جرأة غير معهودة على مخاطبة الأساتذة والطاقم الإداري.. يتبادلن الثياب في ما بينهن. وغيرها من التصرفات التي كانت تمثل بالنسبة لي بعيدة جدا عن عالمي..وانحرافا لا يمكن أن أتصوره مجرد تصور...
تذكرت فجأة نظرات الشماتة التي كن يرشقنني بها أحيانا في الغدو والآصال.. استنتجت أنهن وبإيعاز من الغيرة والحسد لسن بريئات من هذه الورطة التي أُقحِمت فيها إقحاما..
لا أذكر بالضبط كيف أكتشف الأستاذ أن الأمر يتعلق بمؤامرة...ولا كيف تأكد لديه أنهن كن كاذبات...كل ما أذكره أنني استرددت اعتباري..وأمضيت ما تبقى لي من أيام في ذلك الفصل رافعة هامتي..مستمتعة بمكانتي...
قد يتساءل البعض لماذا لم أتابع دراستي الجامعية في التخصص الإنجليزي..الاجابة هي أن هذا التخصص لم يكن بعد قد فتح في كلية الآداب والعلوم الانسانية بوجدة وكان على الراغب فيه أن يسافر إلى فاس وهذا كان طبعا مستحيلا بالنسبة لي..فقررت التسجيل بقسم اللغة العربية وآدابها والحمد لله لم اشعر بأي ندم.
4. أجمل أو أغرب، أو أسوأ تعليق عن "إبداعك"، سمعتِه من أحدٍ وجهاً لوجه، أو قرأته مكتوباً.
بالنسبة للتعليقات التي يذيل بها أصحابها نصوصي..لا أحد يمكنه أن ينكر مدى الفرحة التي تنتابنا عندما تشعر أن النص أحدث تفاعلا معينا لدى الأصدقاء..وأننا حينما نقرأ التعاليق المشجعة المخلصة..نزداد إقبالا على الكتابة.. وحماسا للإنتاج أكثر..لأن نفس الإنسان ميالة لمن يحسن إليها..ولو بالكلمة الطيبة..والكلمة الطيبة صدقة و من باب الإحسان..والآية الكريمة واضحة (وقولوا للناس حسنا)
حدث منذ شهور أن قبلت(على غير عادتي) إضافة شخص لا أعرفه ولا صلة له بتاتا بعالمنا الأدبي..بعدما أقنعتني استقامة معينة..وصور لآيات وأدعية تتكرر بصفة ملحة على حائطه فقلت لابأس..هذا الإنسان إن لم تنفعني صداقته لبعده عن الميدان فلايمكن أن تضرني.
أشير في هذا المقام إلى أن سفرياتي المتكررة إلى مصر وتنقلي بين أنحاء أرض الكنانة التي أعشقها عشقا.. يلهمني كتابة نصوص كثيرة ولله الحمد أعبر فيها انطباعاتي عن كل ما أراه.. قدسية سيدنا الحسين أو هيبة الأهرام..أوصفاء السيدة زينب..أو دفء الحواري العتيقة..وغيرها... وفي كل مرة أذيل نصوصي بصورة لي مع المكان..أو بصورة للمكان نفسه..رغبة في توثيق اللحظة لاغير.
وما أنا الا اأستيقظ ذات فجر..فأفاجأ بتعليق لذلك الشخص تحت صورة لي على النيل ومعها منشور.. أنقله لكم كما أذكره بالحرف:
(أريد أن أقول لك يا أستاذة انه إن كان غرضك من توثيق هذه السفريات المتكررة..وهذه الصور هو المباهاة وحب الظهور اقول لك أنها لا تؤثر فينا فما نحن إلا مواطنون عاديون مطحونون.. قدراتنا الشرائية محدودة.. همنا الاول هو تتمة الشهر بسلام و توفير الضروريات لأولادنا..إذن غير ارتاحي اختي وتهناي)
لم أدر حينها هل أضحك أم أبكي..رددت عليه في أدب وهدوء بأنه مخطئ تماما..وأن ما قاله ليس في نيتي إطلاقا..وأن ما أبثه ماهو إلا توثيق بحت للحظة.. وتعريف بالمكان لمن يتمنى أن يصل إلى تلك الربوع..ثم( وقبل أن أعطيه فرصة في الرد)حظرته نهائيا و إلى الأبد..وتعلمت درسا لن أنساه..لن أضيف لقائمتي إلا من أعرفهم أو لهم صلة بالابداع...
5- كلمة اخيرة
أقول إن في أعماقنا جميعا نحن الذين نكتب أرواحاً يُونُسيّة..قد ابتلعها الظلام منذ زمن....لاينير دروبها إلا ومضة صغيرة من أمل..ولا يذهب سمومها.. إلا جرعة من ترياق الصبر...
في أعماقنا جميعا غريقٌ منسيٌ..ينتظر من الأمواج العاتية أن تلفظه علىٰ الشطِّ..
هذه الومضة المضيئة....هذا الاستيقاظ على الشط..هذه الجرعة من ترياق بالنسبة لي..هي تلك اللحظة الإبداعية التي تنتاب كل من حباه الله بموهبة الكتابة..
هي لحظة سفر..لحظة انفصال ولو للحظات عن وجود قد يكون مريحا..قد يكون محبطا.. الأكيد فيها والأحق.. هو أنها لحظة ميلاد جديد..وتجدد...