الجمعة ٣١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢١
بقلم الهادي عرجون

المجموعة الشعرية «في حضرتها تراتيل وجد»

المجموعة الشعرية «في حضرتها تراتيل وجد» عزف على إيقاع الأمنيات والأغنيات للشاعر التونسي الزبير بالطيب

لا مناص من أن يحرك وجدانك وتنغمس أفكارك في محاولة أولى لتفكيك هذا البناء وأنت تعيد ما تشكل من تراتيل الوجد وتبحث عن الحضور بالغياب أو الغياب بالحضور في حضرتها هكذا نرتل مع الشاعر الزبير بالطيب مجموعته الشعرية التي اختار لها من الأسماء، (في حضرتها تراتيل وجد)، الصادرة عن دار الثقافية سنة 2017 والتي جاءت في 89 صفحة. قامت بتقديمها للقارئ الروائية نجاة إدهان، بقولها: "لا أعسر من أن تقول الشعر نثرا، أن تحاول تفكيك عوالمه لتعيد بناء ما قد لا يسرق النثر ألقه"(ص7).

من الوهلة الأولى وأنت تتصفح المجموعة الشعرية (في حضرتها... تراتيل وجد) تقدح المعاني بشرارات العشق في وجدان القارئ لما تحمله من عاطفة قوية تظهر ملامحها من القصيدة الأولى لتشمل جل قصائد المجموعة، وما تحمله من الألم والحزن والقلق والغربة.

فكلمات العشق ومرادفاته في الديوان تجسيد للعلاقة بين المحبوبة وبين الذات الشاعرة المنصهرة في وجدانه. كما أن تيمة العشق تشكل بذاتها وحدة تؤهلها لاشتعال الرمز في حقول دلالية مختلفة توحي بالتطلع إلى آفاق ماضية ومستقبلية يحدوها الحلم والأمل.

في حضرتها، في حضرة القصيدة وهي تلقي بسحرها لتشير إلى معاني النص الذي يراود من قدت قميص اللغة وافتضت سكون الكلمات لينتفض الإيقاع ويعلن وجوده كاشفا عن سر من أسرار الشعر وهو يهم به ويهم بها –وأقصد هنا القصيدة-ويهم بالوجدان لينطلق وهو يمتطي صهوة النثر ليقتفي أثر القصيد.

كيف لا يقتفي القصيد، وقد حمل الشاعر الأمل والأمنيات بين جوانحه، وقد تراقص الأمل، وغردت الأمنيات في ثنايا نصوصه لتشكل أمواجا من الأمل المشرق رغم مسحة الحزن التي طغت على نصوص المجموعة حتى أنك تدرك تمام الإدراك وأنت تتصفح هذا الأثر، لتشد انتباهك تيمة (الأمنيات) التي تكررت 14 مرة، حيث يقول في نص(استفاقة)، ص25:

"فقد رحلت لغة عودتك العطاء
وما عاد للحرف رونقه حين تقتاته الأغنيات
ولا عاد للحن أي شجن
إنما صفرت ريح حزنك في مكب الأمنيات
فارحل...
وغادر مكانك يا...شاعرا من خراب"

كما أن الشاعر يؤمن تمام الإيمان بأن الكلمة الشعرية بمفردها قادرة على أن تمنح الأشياء وجودها ليكون القصيد، وتكون القصائد بوابة العبور من أمل الوجود إلى الإيمان بالنص الموجود والمنشود، كيف لا وقد تكررت تيمة (القصيدة) بكل اشتقاقاتها اللفظية (القصيد، القصيدة، قصائد...) أكثر من 26 مرة في كامل المجموعة حيث يقول في نص (مدارات الجنون) ص42:

"أنا يا ممعنا في الاغتراب
أؤسس للقصيدة
أبحث فيها عن مواعيد وأنغام وإيقاع
ولي شرف الكتابة حين تختنق العبارة في الحناجر"

بالإضافة على تيمة (الشعر) بكل ما فيها من اشتقاقات (الشعر، شعري، شاعرك) التي تكررت بدورها 21 مرة، ليكون في حضرة الشعر ينهل من مشكاته ليكون الشعر همزة الوصل، ومركب النجاة الوصول لحضرة الحبيبة، حيث يقول في نص:(سأهديك شعرا) ص16:

"أأهديك لحنا، أأهديك شكوى؟
سأهديك شعرا...سأهديك شعرا...
سأهديك صحوا...
سأمعن في رحلتي في صفاء سمائك
حين يعاودني الانكسار
فشكرا لأنك جئت تخفف عن خاطري الحزن
يا موكب الحب والورد والأغنيات"

في حضرتها... تراتيل وجد، نعم هي تراتيل وجد وأغنيات، فالترتيل أو الترنيمة لغة تعني التناسق والتحسين، والتطييب في التراص، وتستخدم أساسا لوصف طقوس عبادة أو صلاة تتم عبر تلاوة أدعية أو مدائح أو نصوص مقدسة مع لحن ونغم بغرض أداء صلاة أو العبادة تقربا لآلهة أو مقدس.

وهو يرتل مواويل الحاضر والماضي ليستل الفكرة من آلهة الحب ويلقي بها للبشر ليفضح سر الآلهة "إيزيس" و"حتحور"، آلهة الحب والبهجة والسعادة لدى قدماء المصريين، و"أفروديت" و "إيروس" آلهة الحب والجمال والرغبة الجنسية لدى الرومان واليونانيين.

لا تتعجب وأن تتصفح الأوراق حين تنتشي بعطر المحبوبة وهي تقص بدورها سيرة الحب الأولى عندما ينتقل الحب عبر مراحل عبرها الشاعر وينتظر عبورها فللحب 14 درجة، ويأتي الوجد في ترتيبه الرابع فأوله الهوى والصبوة، والشغف، والوجد، والكلف، والعشق، والنجوى، والشوق، والوصب، والاستكانة، والود، والخلة، والغرام، وآخر درجاته الهيام.

في حضرتها، في حضرة القصيدة أم في حضرة المحبوبة التي يحتار الشاعر ماذا يهديها، لتطل لفظة الأغنيات التي تكررت بمختلف اشتقاقاتها اللفظية في المجمل (27 مرة)، وقد بدا جليا اهتمام الشاعر بالإيقاع في جل المقاطع، دونما تكلف كأنها أنغام تراتيل الوجود يغترف منها الشاعر رحيق إيقاع التراكيب التي وقع بها أنغام قصائده، بكلمات وأجراس الحروف، كما تتوشح اللغة بموسيقى الشجن، مما أدخل نصوص الشاعر في حوار تلفه الأغنيات في أجمل معانيها وصورها، إلى حد الانتشاء بموسيقى الكلمات وبنبض المعاني المتدفقة في لغة شعرية أخاذة تسحر الألباب.

فيظهر الحزن جليا و قد أينع حين تبعثره الانتظارات، ليصير حدائق من العطش ومتاهة خوف كلما زفرت ريح الأحزان في موكب الأمنيات والأغنيات التي تعزف الحزن لحنا ليلملم الشاعر حزنه ويسافر من غير صحبة، وقد بشر بالدفء والصحو و بالموعد القادم العذب، لتعصف غربة القصيد مأخوذة بحزنه وبعذابات الحروف. يقول في نص(ولم تأت...)ص60:

"لا تعاود أي بحث عن خطاي...
سوف تذروها رياح حاقدة
لا تبال بقصيدي أو شرودي أو...بقايا الأمنيات
كن كما عودتني منذ افترقنا...
متقنا للصمت
مأخوذا بحزني وعذابات الحروف"

فالأغنيات التي انتفضت على وجع صاحب الأغنيات وتسللت لترسم قافية للقصيد هي التي توقد لحن الرحيل، لتكتب بعض أغان حزينة، والتي تجاوز فيها الشاعر التوظيف السطحي للأسطورة اتهاما وتكفيرا وتمجيدا وتقديسا ليجعلها ترتد الى ذاته بداية لحكاية بل لكل حكايا العاشقين. حيث يقول في نص (أساف ونائلة) ص63:

"أساف:
ممعن في العشق... مسكون بأوجاع القصيدة
موغل في الحلم...
يشرع للجنون نوافذ من أغنيات...
لا يبالي إن تحجر... إن تلاشى الليل أو جن العويل
كان في الحب رسولا
كان سمفونية للعاشقين
نائلة:
أغنيات من نقاء
موجة من دفء أنثى
مرفأ للمتعبين"

ليقف الشاعر الزبير بالطيب على عتبة الماضي ليسترجع ذكريات الطفولة، فيستعيد المكان والزمان وهو يحمل الصور والذكريات التي تتراقص في مخيلته، فالمكان يدل على الحبيب والحبيب يدل على المكان ليقف على طلل الماضين كما كان يفعل الشعراء القدامى عندما يتملكهم الشوق والحنين إلى المحبوبة ولكنها صورة شعرية في جبة جديدة ولكنها امتداد لحالة الشاعر الجاهلي.

في حضرتها تنبجس معالم النص ليفتح الشاعر الزبير بالطيب لنفسه معالم جديدة ورؤية متفردة يطوعها كيف يشاء، لتظهر "الملكة" المحبوبة، التي تذهب بالقارئ مذاهب شتى، هي التي توقظ مضج الشاعر، والتي نجدها أحيانا الزوجة والأم وقد نجدها أحيانا أخرى الأرض والوطن عند الشاعر البدوي المسكون ببيئة صحراوية، حين يخاطب رفيقة الذاكرة، ذلك الشعر وتلك القصيدة التي يعتبرها شقيقة الروح، والتي تحاصرها الغربة من حين لآخر ليولد النص، حيث يقول: (ص 71):

"آه يا غربة
حاصرتني... اتركيني
لقد هجر الشعر رونقه
وبدت كلماتي كرجع صدى
كترانيم بحارة
فقدوا البوصلة..."

و في الختام يمكن القول أنه بعد تصفحنا للمجموعة الشعرية "في حضرتها تراتيل وجد" أن الشاعر الزبير بالطيب قد بنا أركان هذه المجموعة على جملة من الأسئلة التي تعتبر جوهر الشّعر وعمقه فالشاعر هو عدو اليقين حبيب السؤال ولا خير في قصيدة لا تزرع فيها الأسئلة ومرارات الرحيل بحثا عن معنى في وجود بلا معنى، ليبني تجربته الشعرية في ثقة وصبر، لتنبجس معالم النص وليفتح لنا الشاعر معالم جديدة ورؤية متفردة يطوعها كيف يشاء، ليولد النص جديدا مبتكرا في نسيجه الفني وبنائه المعنوي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى