السبت ١٠ آذار (مارس) ٢٠١٨
بقلم جورج سلوم

النسبيّة.. كوسيلة إقناع

مع أنني أحبُّ استعمال النّسب المئوية..لكنني كنت أحرص دائماً على كتابة النسبة رقمياً وليس حرفياً..هروباً من قواعد حذف الألف في مئة أو مائة..وتأنيث العدد لمعدود مذكر وغيرها..لذا ترددت كثيراً قبل إرسالها إلى موقع أدبي كديوان العرب..وكأنني أترجى من الدكتور مواسي تصحيحاً أو تعقيباً بمقالة تشرح ذلك.

كنت أطرح النسبيّة بين كلماتي كوسيلة للإقناع..فأقول إنّ نسبة نجاح تلك العملية عالية جداً وبالتالي يرضى المريض بالخوض في غمارها فوراً..ولو كان ذلك المريض فضولياً سيسأل عن رقم..وأرقام الترغيب معروفة تتجاوز التسعين بالمائة فتزداد ثقته بالشفاء..وترجح كفة الموافقة..ولو فشلت العملية فالجواب جاهز أنت للأسف من العشرة الباقين قليلي الحظ.
أما النسب العالمية التي درسناها فقد نسيناها لقلة الاستعمال..قد نستعملها في مؤتمر طبي فقط..فيقولون نسبة (المورتاليتي) أو الموت..ونسبة (الموربيديتي) أو المرض وهناك نسبة العيوشة..ونسبة الإختلاطات والعقابيل وغيرها.

عملياً يدخل المريض في متاهة من النسب..يتلقّى محاضرة في الرياضيات والإحصاء والنسب المتداخلة..فتراه مذهولاً ولا يعرف الجهة التي سيستند عليها في مقعده..ولا أي منقلبٍ سينقلب...عيونه الطائرة بدون طيار قد تقع على لوحة جدارية خلفك..أو شهادة قديمة شاخ إطارها..أو مجسّم صنعي لعظم تكسوه بعض العضلات الملونة..

ويسرح الطبيب في محاضرته بلا رقيب..قد يأتي بشهود وشواهد في سياق حديثه مستعملاً أسماء بعض المرضى ممّن سحبهم من الموت بحذق وبكلّ بساطة..ذلك طبعاً بعد أن عجز زملاؤه ورفعوا الرايات البيض..لكنه تدخّل في اللحظة الأخيرة وأنقذ الموقف..طبعاً أرسله الله كمُصلح للأخطاء الطبية..

كم هو جميل أن تلقي محاضرة طبية لأناسٍ لا يفهمون شيئاً بالطب!..كمن يتشدّق بأحكام الهمزة المتوسطة لأناس أمّيين!!

يجب أن يرنّ الهاتف في تلك اللحظات..ويعتذر الطبيب عن الكثير من الأعمال بسبب زحمة المواعيد...ثم يعود إلى حديثه..ويسأل ذوي المريض عن النقطة التي توقّف عندها وانقطع حديثه..وطبعاً لن يعرفون فهُمْ في عالمٍ آخر.

هم ينتظرون رقماً في نهاية المحاضرة عن تكاليف الإجراء الطبي..وهو لن ينهي محاضرته حتى يسمع عبارة (توكّلنا على الله)!

ويبدأ الضياع عند المريض عندما يعرض حالته على أكثر من طبيب..عندها سيسمع نسباً مختلفة عن نجاح العمليات وفشلها..وأرقاماً مختلفة عن التكاليف..وطبعاً سيتخلل ذلك شتائمَ بذيئة وانتقاداتٍ لاذعة للطبيب السابق من قبل زميله..

حالة مريضكم يا إخوتي يجوز فيها العلاج الجراحي بنسبة خمسين بالمائة..وعلاج بالقثطرة الشريانية بنسبة خمسين بالمائة..أو نعالجه بالأدوية فقط بنسبة خمسين بالمائة..ولم ينتبه حتى الطبيب أن المجموع تجاوز المائة!

قصتي هذه المرّة مُستقاة من تجارب مريض..كان يعمل محامياً وهو حالياً في سن التقاعد..وقد أصبح اليوم صديقاً نتجالس كثيراً..ونتنادر..ونتقهوى..ونفضفض خبايا نفوسنا بشفافية.
قال لي:

 مهنة المحاماة إنسانية كمهنة الطب..ويستعمل المحامي النسبية للإقناع..لكن بدون أرقام فيقول أن الدعوى مضمونة النتائج أو ضعيفة

وتابع مباشرة غير مبالٍ باستغرابي:

 يعتقد البعض أنّ الطبَّ إنسانيٌّ إذا كان رحيماً..أو مجانياً..ولكن الحقيقة أن صفة الإنسانية جاءت من كونه يتعامل مع الإنسان..وهناك الطب الحيواني..ولا يكون الطبيب البيطري إنسانياً حتى ولو عالج البقرة مجاناً!...ولذلك فالمحاماة إنسانية أيضاً إذ لا يمكن أن تراجعني ظبية لرفع دعوى ضد الأسد الذي اقتنص ابنها...أو حمامة لأن الحية أكلت بيضتها..لا جواب على ذلك..نقول لها إنه قانون الغاب ونقطة انتهى.

قلت له:

 أنا أظن أن إنسانية الطب تأتي من كون الطبيب يتعامل مع المرضى والمستضعفين والجرحى..يتعامل مع الإنسان في أضعف حالاته..أما أنتم المحامون فقد تترافعون وتدافعون عن إنسان مجرم أو مغتصب أو مختلس..أي إنسان في مرحلة من القوة والقدرة على الاعتداء..أما عن التعامل مع الإنسان فالحلاق أيضاً إنساني..حسب نظريتك..والشاعر إنساني لأنه يكتب للناس فقط يبدو أنه لم يعبأ بما قلت..وكأنّ كلامَه كان مقدّمة لقصةٍ سيرويها رغماً عن السامعين..لذا ضرب عكازه بالأرض عدة مرات كقاضٍ يطرق بمطرقته ليُسكِتَ الجمهور..وتابع السّرد:

 عندما أتيت إليك للمرة الاولى منذ ثلاث سنوات..كانت الجراحة مستعجلة حسب رأيك..وإلا فنسبة البتر لهذا الطرف السفلي عالية..والعملية سهلة ونسبة نجاحها تتجاوز التسعين بالمائة..وغيرك قال ثمانين..وأحدهم إثنان وسبعون بالمائة..

قال ذلك..وكان يبتسم بسخرية:

 وعندما رأيتني عازفاً عن الجراحة بعد مرور شهرين..قلت لي إن هناك نسبة من التحسن الجزئي بالعلاج الدوائي لكن مع نسبة من العجز الحركي قد يرضى بها المريض المسنّ..
وعندما راجعْتك ولم أكن قد اشتريت شيئاً من دوائك..ولم أعترف طبعاً بذلك..طلبت مني الاستمرار بنفس العلاج..لأن نسبة الشفاء ترتفع بالاستمرار بالدواء مع المعالجة الفيزيائية الفعالة..بالله عليك..من أين أتيت بكل هذه النسب؟..وكيف ترفعها وتدنيها على كيفك؟
أحسست بعد تلك المرافعة بأنني متّهم بشكلٍ نسبيّ..فلابد من الدفاع:

 الشفاء أمرٌ نسبيّ يا أستاذ..كالألم مرتبطٌ بعتباتٍ ذاتية يبدأ خلالها وقد يغيب عفوياً..أنت تعتبر نفسك شافياً ولكنك مازلت تعرج ولا تستغني عن عكازك..وبالتالي مازلت أنا أعتبر نسبة شفائك متدنية..

عملنا الطبي قائم على النسبية..والنسب التي نستعملها تابعة لنسبة الرضى عن الشفاء..ولا يوجد في الحقيقة شفاءٌ تام عن أي مرض لذلك تنتفي نسبة الكمال في عملنا..فهي للخالق وحده..نحن أدوات ووسائل للشفاء..والله هو الشافي..وإذا مرضت فهو يشفين.

لم يُطِق المحامي دفاعي..واعتبر استشهادي بالله كوسيلة هروب..فلم يتحمّل الجلوس إذ تذكر وقوفه في المحكمة وكيف يتوثّب وينبري لإثبات مواقفه..لذلك استند على عكازه ووقف ليبدو أكبر حجماً..وبدأت نبرة صوته تأخذ أسلوب الخطابة:

 حتى رب العالمين وآياته تسخّرونها لخدمتكم...تعلّقونها على جدرانكم ليراها المريض ولا تعملون بها..تلتحون وتسمّون بالله قبل فحص المريض..كمن يبسمل قبل شرب الخمر..سجاجيد الصلاة ظاهرة في عياداتكم وتتركون المريض عاري الصدر وتسجدون للصلاة في موعدها أمام الجماهير...وإمامُكم القرش الذي يتدلى من جيبه..مسرحية مكشوفة حتى لأبسط المرضى.
ساعَدْته ليجلس إذ بدا الإجهاد عليه...وافقته الرأي ليرتاح وتخفّ غلواء نفسه..ثم حكى لي الكثير من القضايا التي ترافع فيها ضد الأطباء..واعترف بأنه رضي بإسقاط الدعوى مقابل تعويضات مالية للمريض..وللأسف له أيضاً..اعترف بأنه لعب على الحبلين وتقاضى أجوراً من الطرفين..وأقنع المريض بالنسبية في الشفاء.

في بلاد الغرب (الموحش) لا يمكن للطبيب أن يُطلق تلك النسب جُزافاً..والأخطاء الطبية لايمكن الإتكاء بها على رب العالمين..فالعمل الجراحي الكبير والبارد أي غير الإسعافي يسبقه عقدٌ مكتوب بين المريض والطبيب..فيه بنود محددة لنسب الشفاء والاختلاطات والعقابيل..ومدة النقاهة المقترحة أي التعطيل عن العمل..وذلك كله بإشراف شركات التأمين التي تدفع ولكنها أيضاً قادرة على التحصيل بوجود خللٍ ما..أما عندنا فالورقة التي يوقع عليها المريض عند دخوله المشفى ما هي إلا عقد إذعان..يوافق فيه المريض على الجراحة دون أن يحمّل الجراح أو المخدر أو المشفى أي مسؤولية..وتبقى تلك النسب مطاطة ولعبة قابلة للشد والإرخاء..

في النهاية توافقنا على النسبية في كل أعمالنا..فالشفاء من المرض نسبي إذ أن النكس وارد..فيكون الشفاء مؤقتاً..وعودة المرض ممكنة طالما كان المريض حياً يرزق..وفي المحاكم كل القضايا تنتهي بشكل نسبي..إذ أن الاستئناف والطعن بالحكم وارد وممكن..أما الإعدام فلا نسبية عنده..فيقولون شنقاً حتى الموت.

وهكذا فالحياة كلها نسبية!

فالسعادة نسبية وكذلك الصحة والغنى والفقر والجوع..والنجاح والخسارة وقس على ذلك.
وتبقى الحقيقة المطلقة والوحيدة والكاملة هي الموت..فلا يوجد موت نسبي..إنه كلّي وعنده تتوقف النّسب (بكسر النون)..ويسخر الموت من العلاجات الطبية ويعتبرها تأجيلاً فقط لزيارته....ولكن إلى حين!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى