السبت ١٢ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم عبد الدائم السلامي

بخورُ الأجسادِ

كلّما انتهى بنا الشارِعُ إلى عِطرِ أنثى عن يمينِ بابِ البحر، بعدما نكون أَدَّيْنا واجبَنا النهاريَّ في حُبِّ أوطانِنا وصرنا جاهزين لارتكاب خياناتِنا الصغيرةِ، ترقصُ حولنا موسيقى خضراءُ كأنّها سقسقةُ أنهارِ الجنّة أو هي الإغواءُ، ويغمرُنا انتشاءٌ صوفيٌّ تذوب منه أتعابُنا ونذوبُ فيه ذوبانَ الشمعةِ بينَ رِيحيْن على عَداوةٍ. قد نجلِسُ على حجرٍ، لا شَجرٌ هناك يزاحمُ في الظلِّ داليةً عرّشتْ سهوًا في ذاكرةِ شيخٍ انتبه إلى الدنيا بعد أن هرمتْ فيه قُواه، ولا قمرٌ رغم ظلمةِ المكان، الإنسانُ واحدٌ هنا في جمعِه. نصطفُّ طوابيرَ، لا أحدَ أفضلَ من أحدٍ في التأويلِ والتفسيرِ. كلّنا سواسيةٌ أمام بركاتِ هذه الأجسادِ وجبروتِها وفعلِ الموسيقى في أثوابِ عِظامِنا (فكَسَوْنا العِظامَ لحمًا ثم أنشأناه خَلْقًا آخرَ- المؤمنون 14). كنّا طوابيرَ ترتجفُ خوفًا من انهيارِ سُدودِ لذّاتِنا قبلَ قطفِها وطمعًا فيها. وَجِلين من أرواحنا تمامًا، نتمنّى لو كان يمكنُ أن نسجُنَ الروحَ في مقهى ونأتي هنا أجسادًا بلا أرواحٍ لنُغمِّسَها في أجسادٍ أخرى، ونُفْرِغَها من أيقوناتِ شهواتِها، ونُعمِّدَها ببخورٍ يفوحُ رقراقًا من غُرَفٍ صغيرةٍ ثم يعودُ إليها حارًّا بالحرمانِ.

أشهَدُ أنّي رأيتُ الإنسانَ هنا كاملاً في صفاتِه: ضعيفًا جدّا، نظيفًا جدّا من غبارِ الأخلاقِ العامّةِ، جائعًا جدّا إلى اللحمِ جُوعَ بناتِ آوى، كارهًا طراوةَ السياسةِ والأحزابِ ودساتير الأمم المتحدة، مؤمنًا بشؤون الله في خلقِه، بائعًا نصيبَه من الدّنيا بنصيبٍ موهومٍ من الشهوةِ في انتظارِ جزاءِ الآخرةِ الكبيرِ (والذاكرينَ اللهَ كثيرًا والذاكراتِ أعدَدْنا لهم جناتِ النَّعيم- الأحزاب 35)، متكلِّمًا فصيحًا بلغةِ أعضائه، عاشِقًا فناءَها في أعضاءٍ أخرى، متوحِّدًا في الجماعةِ، كأنّه فكرةٌ من أفكارِ الغيبِ، مندهِشًا بحَيْرةٍ ممزوجةٍ بماءِ الوَجْدِ من انكشاف مقدَّساتِ جسدِه. كان إنسانًا صافِيًا، لولا ضوضاءُ المكانِ.

ثمّةَ تواصلٌ صموتٌ بين أجسادِنا ونحن نكركِرُها من بابٍ إلى بابٍ إلى بابٍ متتبِّعينَ الدعواتِ. عَيِينَا من كثرةِ الكَبحِ، سندخل بإذن الله ونُسلِّمُ أمرَنا له تسليمًا (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ- النور 61). في الدّاخل، كان الضوءُ يترصَّدُ أنفاسَنا ويضغطُ عليها لتُفْصحَ بأصواتِنا وتُعرّينا حقيقةً مبحوحةً أمامَ سِتارٍ. هذه البقعةَ أعرِفُها، قلتُ، وإنّي غارِفٌ منها حاجتي. وانطفأ الضوءُ في دمائنا وعميتْ أعضاؤُنا، وكان الخروجُ الذّليلُ بغيرِ حقٍّ. خرجنا أنّنا لن ندخل أبدًا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى