وليمةُ الجُوعِ
يجوع الإنسانُ لأنّ جسدَه مثقوبٌ. سنشرحُ هذه الفكرةَ لاحقًا. أمّا الآن، فسنبحث مع القارئ آلياتِ توليد الجوعِ من جهة كونه تقنيةً اجتماعيّةً وثقافيةً بَلْهَ وسياسيّةً. نُقرُّ بأنّه لا وُجودَ لجوعٍ ربّانيٍّ طبيعيٍّ. اللهُ لا يخلق أُناسًا جائعينَ على ما نعتقد، حتّى أنّ أكْلَ آدمَ للتفّاحةِ لم يكن من بابِ الجوعِ. وما نظنّه نوعًا من الجوع الطبيعيّ عند الرُضّع من الدّواب إنما هو محكومٌ بأسبابٍ مصنوعةٍ، يتّخذُ أصحابُها الغريزةَ أو العاطفةَ أو الضَّعْفَ سبيلاً لإعلانه في أصحابِهم. كلُّ جوعٍ وله رَبٌّ تُرابيٌّ يزرَعُه في الناسِ ويحميه. ولأنّ في الجوعِ سبيلاً لتجفيفِ منابعِ التمرُّدِ ولإعلان الطّاعةِ الرشيدة في المخلوقاتِ (حصارُ غزّةَ مثلاً)، كان لزامًا إقامةُ ولائمَ لإشباع الجياعِ بالجُوعِ في احتفالات رسميّة مسبوقةٍ بحملاتٍ دِعائيّةٍ تقوم كلّها على تفعيل الحالات غير المنتجةِ مثل اللّعب والأنشطة الجنسيّة والسياسيّة. تبدأ احتفالياتُ الجوع بإثارةِ شهواتِ الثقوبِ العليا في وضعها الأفقيِّ المنفتح على كلّ شيءٍ ضمن الجسدِ الآدميِّ الجائع: العيْنيْن والمنخرَيْن والأذُنَيْن والفمِ. ثم تُشحنُ طاقاتُ بقيّةِ الأعضاءِ بحركةٍ بهيجةٍ من تَمنٍّ مَوْهومٍ بالشَّبَعِ، فتهيجُ، وتموجُ وتتثنّى ويغشاها خَدَرٌ صوفيٌّ فتشطح شطحاتِ أهلِ النّارِ، ثمّ تسيلُ منها مياهُها مُطفئةً فيها اشتعالَها، فتفرَغ من (وجعلنا من الماءِ كلّ شيءٍ حيٍّ)، وتركن إلى السكينةِ والصّمتِ، بل وتشبعَ بالصمتِ.
جَوِّعْ كلبَكَ يتبَعْكَ (وإنّا نغتنم الفرصةَ لنرفع جميعَ عبارات التقدير والاعتراف لهذه الكائنات الطريّةِ التي تنبح ولا تعَضُّ إلاّ بسلطانٍ).
لإنجاز حدثٍ جُوعيٍّ بهيجٍ في أجسادِ العبادِ، تتكفّلُ فلسفاتُ أصحابِ خزائن الأرضِ بالتركيزِ على تفعيل وظيفةِ الثقوبِ السفليّة في أجسادِ الجوعى باعتمادِ مبدأِ الخسارة أو اقتصاد الإسراف في الضّياعِ. لأنّ وجودَ تلكَ الثقوبِ الدّائريّة المتعامدة مع الأرضِ، حيث تصبّ فيها كلّ الخيرات المجّانية الآتية من الثقوب العليا، يُسهِّلُ إهدارَ طاقاتِ العُنْفِ والتطرُّفِ والعصيانِ الكامنة فيها دون تكاليفَ رمزيّةٍ. وإذا كانت العينان نافذة الجسدِ الجائع على الدّنيا، فإنّ الثقوبَ السفليّة بابُه المشرَعُ عليها، ومن ثمة يدخل الوجود البشريّ في حلقةٍ فارغةً من الجوع والشبع بالجوع وإهدار الجوع ثم الجوع وهكذا...