السبت ١٢ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم عبد الدائم السلامي

في المَمْنوعِ

جاءَ في المُدوّنةِ الخبرِيّةِ العربيةِ أنَّ أُسَافاً رجلٌ من جِرْهَمَ، يقال له أساف بن يعلى، ونائلة ابنة عَمٍّ له يقال لها نائلة بنت زيد، وكان أساف يتعشَّقها في أرض اليمن، فأقبلا حاجَّيْنِ، فدخلا الكعبةَ، فوجدا غَفْلةً من الناس وخُلوةً في البيت، فزَنَيَا به، فمُسِخَا حَجَرَيْن، ولمّا أصبحَ الناسُ وَجَدُوهما مَمْسوخيْن، فأخذهما عمرو بن لحي ووضع أسافًا ِلصْقَ الكعبة، ونائلةَ في موضع زمزم. وكانت قريشُ تذبحُ عندَهما القرابينَ. ويطوفُ بهما الناسُ عندَ طوافِهم بالكعبةِ، فَعُبِدَ الصَّنَمانِ من حيثُ لا يشعُرُ الطّائفونَ.

ولئن كنّا لا نطمئنّ، كبيرَ اطمئنان، إلى صِدْقيةِ مثل هذه الرواياتِ لضُعفِ الإسنادِ فيها، فإنّ بنيةَ حكاية أساف ونائلة تُحيلُنا إلى مسألة الجنس في تعالُقِها مع الدّيني والاجتماعيّ. ذلك أنّ في فعلِ أساف ونائلة الجنسيّ بمكّة، انتهاكًا منهما للدّينيِّ، وتعدِّيًا على قُدُسيّتِه ما أغضبَ الآلهةَ فمسختهما صنَمَيْن (هل تغضبُ الآلهة؟). ولعلّ اعتمادَ الغفلةَ والخلوةَ والتخفّيَ سَبيلاً إلى إشباعِ الحاجةِ الجنسيّة فيه كثيرٌ من الإيحاءِ بأنَّ الفعلَ الجنسيَّ الذي هو أصلُ الوجودِ البشريِّ لا يقومُ، منذ أن قامَ مع آدم وحوّاء، إلاّ في الخفاءِ باعتبارِ أنّه يدخل ضمنَ حقلِ المحرَّمِ الاجتماعيِّ. وهنا تظهر مفارقةٌ مُربِكةٌ بين الفعلِ الجنسِيِّ من جهةِ كونِه ضرورةً طبيعيّةً وكبحِ وعيِ الجماعةِ لهُ وِفقَ ما لها من أشراط دينيّة وأخلاقيّة قِيَميّةٍ باعتبارِه مُدَنّسًا دُنيويًّا. وبين التدنيس والتقديس يتأرجح فهم النّاسِ للعلاقة الجسديّةِ بين الذّكرِ والأنثى منذ آدم وحوّاء، وبينهما أو عنهما تُنْسَجُ الحَكاياَ الخضراء.

والذي في فِكرِنا أنّ الممنوعاتِ تحتلّ في بُعْدِها الاجتماعيِّ حيِّزًا هامًّا من العقليّةِ العامّة التي تحكم أفعالَ الناسِ وأحلامَهم، إذْ يتحوّل فيها كلُّ ممنوعٍ إلى فضاءٍ رمزيٍّ تتخفّى فيه الشهواتُ وتُفْصِحَ عن تلويناتِها في نفس الوقتِ. ذلك أنّ الإنسان محتاجٌ دومًا إلى شجرة وَهْمٍ يستظلُّ بها من هجيرِ الواقعِ والمعقول. بل هو يستنتُ أشجارَ الوهمِ حتى يظلَّ قادِرًا على تجاوز جفافِ العقلِ الواقعيِّ وملامسة الحاجات الفعليّة لبواطن نفسهِ. ويُعدُّ الجنسُ، من جهة كونِه فعلاً مرغوبًا فيه مادّةً ومرغوبًا عنه حَكيًا، موطِنًا آمنًا لتصنيعِ اللذّة وإخفائها عن الإكراهاتِ الاجتماعيّة التي تحاصِرُها في البدنِ الآدميِّ. وهو بهذا يتجاوز التصوّراتِ الهجينةَ التي نبنيها عنه إلى تصوّراتٍ رمزيّةٍ ثرّةٍ نراها أسَّ كلّ إبداعٍ بشريٍّ، باعتبارِ أنّ العقول التي لا تُباركُ اللذّة لن تبدعَ لذائذ للناس أبدًا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى