بعد الدفن بقليل
دخل غرفته، أغلق الباب وراءه، أشعل نور المصباح فرآها تقف في وسط الغرفة يلفها البياض عدا وجهها الشاحب، ويديها المتيبستين وقد فرجَّت بين أصابعهما، ووضعتهما فوق صدرها ووهج غريب يشع من عينيها.
استعاذ بالله من الشيطان الرجيم مرتجفا كفأر باغته هرٌّ، ويداه تفرك عينيه.
كلمته بصوت بعيد:
– لاتخف لن أؤذيك.
حاول الخروج من الغرفة، تقدمت نحوه بهدوء، معترضةً طريقه إلى الباب. حاول إبعادها، لم يحس بملامسةِ شيء. استعاذ بالله مرة أخرى.
– لست شيطانة ولا جنيا، أنا عزيزة.. زوجتك .
– دفنتها اليوم، بيدي في القبر.
– أعرف.
– من أنتِ؟
– عزيزة، أجل أنا هي، أتريد إثباتا؟
– مستحيل، عزيزة ماتت.
– أجل، وهي ترقد بسلام تحت التراب.
– من أنت إذن؟
– عزيزة ياعزيزي؟
– أكاد أجن، كيف تكونين تحت التراب، وأنت هنا أراك بأمِّ عيني.
– وهل تظن بأن موت الجسد ودفنه يمحوني من داخلك؟ أنا أسكنك إن شئت هذا أم أبيت، سأتابع معك حياتك في كل شيء.
– مستحيل، أنت متِّ.. اتركيني وشأني.
– كيف سأتركك وأنت قاتلي؟
– حرام عليك، أنت الآن في عالم الحق، فلا تتجني علي.
– أتجنى عليك!!؟؟ لماذا يارجل؟ أنت كاذب.. منافق.
– دعي حسابي لله وانصرفي عني.
– لاأستطيع، أنا قدرك ولا فكاك لك مني، ستجدني في صحوكِ ونومك، في سعادتك وتعاستك رفيقة أنفاسك حتى آخر رمق فيها.
– ابتعدي عن طريقي.
– لم يشعر بجسدها فوقعت يده على الباب، فتحه وخرج من الغرفة مذهولا وأولاده يقفون أمامه بذهولٍ أشد، سألهم بغضب:
– لماذا تقفون هنا، ماذا تريدون ؟
لم يجبه أحد.. كرر السؤال ممسكا بكتفي ابنته الكبرى:
– غزل، لماذا تقفون هنا ؟
لم تجبه، هزها من كتفيها يأمرها بالرد عليه، فقالت والدمع يتحدر من مقلتيها فوق خديها المتوردين:
كنت تتكلم بصوت مرتفع أثارَ مخاوفنا، فجئنا للاطمئنان عليك.
– هل سمعتم أحدا يكلمني؟
– لا
حاول التماسك من أجل الأولاد فأمرهم بالذهاب إلى النوم.
جلس فوق الكنبة بعد أن أخلى أولاده المكان. أحس بنعاس شديد، تمدد وأطبق عينيه في محاولة للنوم. كان مصباح الغرفة مضاء. سمع صوت خطوات تقترب منه، أحس بتوبيخ الضمير فقد أقلق أولاده، ترى ماذا يريد القادم منه، فتح عينيه، وعندما التقت عيناه بعينيها هب واقفًا بذعر، رآها تزداد شحوبا وتيبسا، صرخ بصوت جعلها تشمئز منه:
– ماذا تريدين مني ياأنتِ؟
– ياأنتِ!؟ أرأيت حتى بعد موتي ترفض أن تناديني باسمي، كنتُ أحلم قبل أن أتزوج بأن أسمع زوجي يناديني باسمي، لكنك لم تفعل طوال سنوات زواجنا كلها.
– اغربي عن وجهي أيها الشبح..
– لاتغالط نفسك، لستُ شبحا، أنا كائن موجود يسكن ذاتك.
– هذه المرة سأقتلك حقيقةً.
– لن تستطيع ذلك، القتيل لايقتل مرتين.
يقف بغضب، يتناول مزهرية كانت فوق المنضدة، يقذفها فوق رأس محدثته، تسقط فوق الأرض محدثة صوت تهشم الزجاج. يخرج أولاده من غرفهم وهو يضرب كفا بكف. تسأله غزل:
– أبي، هل أنت بخير؟
يجيبها مرتبكا:
– أجل، أجل، عودوا إلى أسرتكم سأدخل غرفتي للنوم فيها.
يغلق باب غرفته.. يستلقي فوق سريره.. يغط في نوم عميق.
ثمة يدٍ ترتفع من تحت الغطاء تحاول ضرب الهواء.. أنين تتراقص فيه همهماتٌ صاخبة.. كانت عزيزة تخترق اغفاءته بسبر موجع..
– اتركيني.. ابتعدي عني.. لا أريد منك شيئا
تقترب منه أكثر
– خذ هديتك، افتح الصندوق ..
يصرخ :
– لا لن أفتحه .
– سأفتحه أنا.
– تفتحه، تندلق منه أفاعٍ سود..
يقفز من السرير، يخرج من الغرفة، يدخل المطبخ، يتناول كوبا من الماء..
تقابله غزل بباب الصالة، يصرخ بها:
– اتركيني وشأني .
يدفعها بكلتا يديه، تسقط فوق الأرض، يسرع إليها أخوتها وأخواتها، يرفعونها والدموع تنساب من عيونهم. تقترب، تضع يدها في يده، تسأله:
– مابك ياأبي، ماذا أصابك بعد موت أمي؟
– عزيزة، ابتعدي عني قبل أن…
– أنا غزل ياأبي.. أسمعني أرجوك..
– قلت لك اتركيني وشأني
– أبي، أنت متعب، سأستدعي لك الطبيب.
– الطبيب، ليقتلني أليس كذلك؟
– يهجم عليها تلتف يداه حول عنقها، تصرخ، يحاول أشقاؤها إبعاده عنها، يضربهم، تفلت منه، يسرعون إلى غرفتها، يقفلون الباب، يسمعون صوته:
– اتركيني ، اتركيني.
صوت باب يفتح، صوت إغلاقه، صمت مطبق، تخرج غزل من الغرفة، تتفقد البيت، لاتجد أباها، يسرع محمود للبحث عنه في الخارج، يصل متأخرا، لم يستطع الإمساك بوالده والابتعاد به عن طريق شاحنة كانت تمر مسرعة في جوف الظلام.