الخميس ٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٠

تحولات البناء التخييلي للمكان في الرواية الحديثة

حسام الدين نوالي

شكّل هاجس الموضوعية في الإبداع، وتبني دقة الملاحظة في تصوير العالم، أرضيةَ الكتابة الروائية الواقعية في منتصف القرن التاسع عشر مع فلوبير وبلزاك وستاندال وزولا وآخرين، ولعلّ النظر إلى عناوين المنجز الروائي لبلزاك الذي سمّاه "الكوميديا الإنسانية" (La Comédie humaine) يوحي بمركزية الملاحظة، وبالحضور الضمني للمكان. فمعجم (LAROUSSE) يشرح (مناظر/Scènes) بدلالتها في المسرح، وبدلالتها المكانية أيضا، أي على أساس "الرؤية"، فيما تُظهِر المتون أن الوصف يحظى بنِسب كبيرة من مساحة الرواية، ومن ضمنه وصف الأمكنة. وهو وصف يسعى لمطابقة الواقع سواء في مكونات الموصوف وتفاصيله، أو في ترتيب النقل البصري كما هو في الواقع تماما. والرواية الواقعية تعتقد أن "الواقع هو الذي يتحكم في الأبنية المعرفية ويحدد أطر الوعي بالذات والعالم"، وتؤمن بمبدأ حتمية الواقع وتحكّمه في الإنسان، وهو ما يتناغم مع نمط الرؤية السردية السائدة آنذاك، وهي الرؤية من خلف.

وحين مالت الرواية العربية نحو الواقعية – مع نجيب محفوظ ويوسف إدريس وحنا مينة والطيب صالح والطاهر وطار ومبارك ربيع وعبد الكريم غلاب...- فإنها تبنّت الخلفية الفكرية نفسها التي أسست لها في الغرب، ولهذا فإن مبارك ربيع كان يعتبر ما تقدّمه الرواية هو "تركيبات ممكنة ومحتملة للواقع، أي بالتالي غير موجودة تجريبيا، ولكنها متسقة مع القوانين العامة للطبيعة، وتحتمل أن يقوم عليها البرهان بالدليل".
إن هذا الإصرار الموغل في الارتباط بنقل العالم الحقيقي إلى الرواية كما هو، يطال جميع مكونات النسيج الروائي، ومن ضمنها المكان، فمعيار المطابقة الواقعية كان معيارا أساسيا للقيمة، إذ الشخصيات والشخوص كانت تتطابق، والزمان كان عنصرا ناميا ومنطقيا واللغة معيارية تاريخية في كلماتها وأبنيتها وتراكيبها وعلامات ترقيمها، والمكان كان إحاليا مرجعه الواقع. ولهذا فإن غالب هلسا عند تصنيفه للمكان في الرواية العربية إلى ثلاثة أصناف (هي المكان المجازي:" وجوده غير مؤكد، وهو أقرب إلى الافتراض"، والمكان الهندسي: "تعرضه الرواية من خلال وصف أبعاده الخارجية بدقة بصرية"، والمكان كتجربة معاشة: "وهو مكان عاشه مؤلف الرواية، وبعد أن ابتعد عنه بدأ يعيش فيه بالخيال") فإنه يصف المكانَ المجازي بكونه (مكانا سلبيا)، والمكانَ الهندسيَّ بكونه (يثير سأم القارئ وضيقه، في حين أنه يعتبر المكانَ/التجربةَ المعاشة هو الــ "قادر على إثارة ذكرى المكان عند القارئ"، ويعطي نماذج من روايات نجيب محفوظ، وغائب طعمة فرمان، في تأكيد كبير بكون قدرة المكان الروائي -الذي يحيل على المكان الواقعي الحقيقي بأسمائه وتفاصيله- على إيقاظ أحاسيس الألفة والدفء وبالتالي التفاعل الطيب للقارئ مع النص، على غرار ما قدّمه غاستون باشلار.
على أن شكل تقديم المكان الروائي كان يتسم بتدرج منطقي، ينتقل فيه السارد من العام إلى الخاص، ومن الخارج إلى الداخل. وهذا يفترض مُرتَكَزين ينطلق منهما هذا التصور:

السلطة المطلقة للسارد وقدرته على الانتقال والتواجد في المكان الذي يريد، وبالمسافة التي يختارها.

الترتيب المنطقي للانتقال البصري.

ففي إحدى الروايات التي تنتمي للمرحلة التأسيسية بالمغرب، وهي رواية "في الطفولة" نقرأ:

"فتحت عيني فإذا أنا في منزل قديم يحيط به الغموض والابهام، كانت تقع خلفه حديقة كبيرة –كثيرا ما أشرفت عليها من النافذة-، وتقع أمامه حديقة صغيرة يحدّها حاجز حديدي طويل يقوم بين المنزل والشارع، ويخترقها ممشى قصير يفضي إلى بوابة عالية من حديد. وكان البيت يتألف من ثلاثة أدوار، كبير الأبهاء والغرف، ضخم النوافذ ملون الزجاج"

إن هذا التصوّر للمكان في الرواية، ينطلق من سلطة مطلقة للسارد، يتمكّن بها من أن يفتح عينيه داخل المنزل –في بداية المقطع- ثم يحلّق عاليا ليطلّ من فوق ويحدد محيط المنزل ومشكّلاته، ثم طوابق المنزل، ثم غرفه، ثم نوافذه، ثم زجاج النوافذ، وهي انتقالات متدرجة تنتصر للحقيقي المرجعي الذي يُحيل عليه العمل الإبداعي. وهذا الانتصار ستحتفي به الدراسات النقدية في المرحلة الواقعية التي كانت صدى للفلسفات المادية الغربية الواقعية وهي تسعى "لإيجاد مركز بنائي ثابت مع افتراض وجوده المسبق، ترتكز عليه دعائم الوجود"، وهي الفلسفات التي لقيت قبولا وانتشارا في الوطن العربي بسبب انتصارها للطبقات المسحوقة والحلم بالعدالة والديموقراطية؛ لهذا فإن الوعي الروائي بشكل عام، وفهمُ المكان داخل العمل الإبداعي على وجه التخصيص كان متّسما بـتفوّق الوعي الإيديولوجي على الوعي الجمالي، لأنه صادر عن جيل قد تربى وتعلّم في عصر الاستعمار وشهد بداية الثورات والانقلابات، ثم استيقظ على انهيار الحلم القومي...، ولذلك لم ينفصل المكان في هذه المرحلة عن ارتباطه بالمرجع الواقعي، مع تقليص الاهتمام بتفاصيله إلا بقدر استفادة خطاب الرواية منه، أي بما يُتيح تحميله من الوعي الإيديولوجي المهيمن.

ولعلّ مقارنة المقطع السابق بمقطع من رواية "المعلم علي" يبيّن أن المُرتكز الأول -الذي ينطلق من السلطة المطلقة للسارد في انتقاله لوصف الأماكن- سيبدأ في التقلّص –ولو بشكل يسير- مقابل استثمار المكان في الخطاب، ليس باعتباره حاملا للأحداث فقط مثل أي وعاء، ولكنه أيضا باعتبار أنه حامل للخلفية الإيديولوجية التي ينطلق منها الكاتب، فنقرأ:

"... يتنقل في الزقاقات والدروب والشوارع حافيا في الصيف حينما تكون الأرض تلسع بنيرانها المحرقة، وفي الشتاء حينما تكون الشوارع غارقة في وحلها..."

الزقاقات والدروب والشوارع والأرض ليست في المقطع أوعية تحمل الأحداث، ولا مساحات فقط يستوجبها الفعل الذي يحدث، ولكنها أمكنة تمّ وصفها بنعوت قاهرة للبطل "علي" الذي ينتمي لطبقة مسحوقة، عاملة، بروليتارية مقهورة بروتين البيت والعمل وحلم الراحة، ولعل هذا يبدو منذ أول مؤشر لظهور الأمكنة في الرواية، إذ أن أول عبارة تحيل على المكان تمعن في القسوة:

"وهو يتمطى على لحافه، وقد لسعه برد الغرفة القارس"

لكن من الواضح أن السارد لا يملك قدرة على الالتقاط والإحاطة بالمكان أكبر من قدرة القارئ، وبالتالي فإنه ينقل ما يُفترَض أن يراه القارئ ذاته بواقعية، باستثناء التكسير الزمني الذي يستلزمه السرد أصلا.

إنه بداية تحوّل في التعامل مع المكان في الرواية المغربية. وفي هذه الفترة كان الغرب يعيش مرحلة أخرى، وسيتم استيرادها في الوطن العربي –ومن ضمنه المغرب-. إذ منذ عقابيل الحرب العالمية الثانية والقنبلة الذرية اللتيْن كانتا بمثابة كسر للقيم الإنسانية ولمنطق الأخلاق ولأحلام السعادة المنشودة في الكون من الثورة الصناعية، فإن الفكر العالمي انعطف نحو سبل جديدة، "فتغيّر التفكير الفلسفي بظهور الوجودية، وتغير التفكير النقدي بظهور البِنَوية، وتغير الشكل الروائي بظهور بوادر جديدة للرواية" مع ميشيل بوتور و ناتالي ساروت وألان روب غرييه وغيرهم في فرنسا. هذا الشكل الجديد سعى فيه هؤلاء إلى التناغم مع متطلبات العصر وما ترسّب من نتائج الأحداث الكبرى الرهيبة، لذلك فإن فلسفتھا الأدبیة تقوم على نبذ القیم وتكسير الزمن وخلخلة المكان والتنكُر للتاریخ ورفض المعايير الجمالية التي كانت سائدة قبلها واصطناع تصور مغاير للشخصية يلائم هذا الفضاء الذي ستتحرك فيه من العبث والقلق والتشاؤم والاضطراب، حتى أن سارتر أطلق عليها صفة "الرواية المضادة"

(Anti-roman) في مقدمة (Portrait d’un inconnu ) لـ "ناتالي ساروت".

ولعل رواية "التحول" (La modification) لـ "ميشيل بوتور" تمثّل نموذجا صارخا لهذه المرحلة، بدءًا من عنوانها ذي الدلالة الكبيرة في هذا السياق؛ فهي رواية تقوم على وحدة المكان، وهو مكان مغلق متحرّك تمثّله عربة القطار، لكن الأحداث لا تتصل به، بل يمثل أرضية فقط تنطلق منها تأملات المسافر، إذ البطل "ديلمون" يظل مسجونا داخل هذا المكان بينما أفكاره ووعيه وأحداثه تجري خارج هذا الحيز الهندسي، في حين يورّطنا السارد في هذا التكسير للمكان ويعمّق هذه المفارقة من خلال اختياره ضمير المخاطب، فيصبح كل منا "ليون ديلمون" نفسه.

ومع رياح التأثير الغربي صار هذا الشكل من الكتابة الروائية يظهر في المنطقة العربية سواء في الأعمال المترجَمة أوالمؤلّفة، وظهرت بوادر التجديد عند نجيب محفوظ في رواية "اللص والكلاب" حيث تحولت كتابته من الاهتمام بالتسجيل الاجتماعي الخارجي إلى العناية بالشخصية وتكرار المونولوك، فيما اهتم بخلق المكان الروائي من خلال الذاكرة فقط، وهذا ما يوضّحه المقطع الذي يتحدث عن خروج "سعيد مهران" من السجن، فقد اصطدم بتغير الناس حوله بحيث طالَهم الغدر والخيانة، فارتد إلى الماضي الأليف في ذاكرته حيث الأماكن التي طبعت أحاسيسه بالرقي الروحي وهي زاوية الشيخ علي الجنيدي، فصار المكان مكانا مرتبطا بالذاكرة وبالحنين، أقام فيه سعيد مهران هروبا من المكان الحقيقي وأهله. وإذا كان هذا الاشتغال يبدو مبتدئا وبدائيا مقارنة مع جرأة رواية "التحول"، فإن الكتابة الروائية العربية سترفع من مستوى انخراطها في الكتابة الجديدة وفي الوعي الجديد بالانشطار والتصدع والتكسير كما في كتابات إدوار الخراط، وحيدر حيدر وغيرهما؛ فنجد مثلا رواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم، التي تحيل الواقع إلى خيال، فيصير فيها المكان ذهنيا ومرتبطا بالأحاسيس و بوَهْم الترصد والمخابرات وغيرها، فيما يمتد المكان في روايات ابراهيم الكوني خارج امتداد الصحراء ليشمل الأسطورة والتصوف والأديان، لدرجة أنه يغدو مكانا ملتبسا غامضا غير بيِّن. وبالتالي فإن المكان صار في الرواية الحديثة عنصرا حاملا للمعنى، وليس مجرد وعاء سلبي تُصَبّ فيه الأحداث وتتحرك عليه الشخصيات.

لكن كيف يتم تقديم المكان؟ وكيف يتم تلقّيه؟

إن أول سِمة للمكان في السرد هو كونه غير مرئي، فهو مغاير للمكان في العرض المسرحي وفي السينما حيث يستطيع المتفرج تلقيه مباشرة بالرؤية؛ إذ المكان في النصوص السردية يتم تقديمه من خلال اللغة، بالوصف. فهو مكان لفظي وليس بصريا، ويتشكّل من الكلمات، مما يجعله "يتضمّن كل المشاعر والتصورات المكانية التي تستطيع اللغة التعبير عنها"، ما يعني أن الكاتب يعيد صياغة المكان البصري ضمن آليات اللغة وأدواتها ومفرداتها وتراكيبها ومجازاتها وانزياحاتها... وغيرها، في حدود ما تتيحه هي ذاتها وليس ما يتيحه المكان الموصوف.

ولأنه يستند إلى اللغة، فإن المكان في السرد يوضع داخل دائرة الفهم وداخل دائرة التأويل، وبالتالي فإنه يُقدّم بمستويات متفاوتة من التشويش أوالصفاء، ومن الإيهام والصدق. فيغدو تصوُّر المكان خاضعا لاستراتيجيات التلقي والتأويل لدى القارئ؛ وهنا نكون إزاء المكان/المتعدد بدل المكان الواحد؛ هو مكان منفلت، زئبقي، لا نهائي، يستند إلى الوصف في تقديمه، وهو عنصر يسعى لتحويل المرئي البصري إلى مقروء، أي أنه يترجم المرئي إلى واقعي، ويثير بالتالي إشكالية التعارض القائم بين البعد المرجعي والبعد اللفظي، أي التعبير عما هو مرئي بشيء غير مرئي، وهذا لبّ اشتغال الاستعارة.

وبناء عليه، فإن القارئ ينخرط في عملية ذهنية لإكمال وصف وتمثّل الأمكنة التي يقدمها الرواة، وإكمال الفراغ والبياض الذي تخلّفه اللغة، والأشكال الطباعية (الفاصلة، النقط...)، إذ أن الوصف يُقدَّم في جمل منفصلة لا يماثل تتابعُها التتابعَ الخطي الذي تتيحه العين في الانتقال من موضع لآخر، والجُمل تقفز على أحياز وتختار أخرى، فيما القارئ يؤثث اللامقول ذهنيا لتُماثل الصورةُ الموصوفةُ الشكلَ الواقعي.

وهذا التلقي للمكان لا يخرج عن احتمالات ثلاث: فإما أن يتم اعتبار المكان عاكسا لما هو موجود في العالم الخارجي، وهو التطابق الذي توهم به الرواية، أو أن يتم اعتبار المكان حاويا لدرجة من التشابه مع الواقع، أو أن يتم اعتبار المكان في الرواية بعيدا عن كل المتشابهات الواقعية، ولا يحيل على مصدر مكانيّ خارجي.

ولضبط هذا التعدد في أشكال تقديم المكان في الكتابة الروائية، فقد عمدت الدراسات الحديثة إلى رفع الالتباس بين "المكان النصي"، و"المكان الحكائي" و"المكان الواقعي".
وينبغي التأكيد أن الرواية لا يمكنها نقل المكان كما هو تماما، لأنها تتأسس على مادة لغوية وليست بصرية كما في التشكيل وكما في المسرح حيث الحيّز يُرى – مثلما تُرى الشخصيات وحركاتها-، ولكي تقترب من تمثيل المكان وخلق تصوّر له لدى القارئ فإن تقنيات الطباعة تدخل على الخط إلى جانب اللغة، فتُشغّل المساحة البيضاء للصفحة، وتوزّع الحبر عليها من خلال علامات الترقيم وتوزيع الفقرات والفصول، فضلا عن توزيع الجمل وترتيبها وغير ذلك؛ وهذه المشكّلات تولّد مكانا خاصا ليس مطابقا للمكان المتخيّل ولا للمكان الواقعي رغم ارتباطه بهما.

المكان النصي، هو مكان لا يوجد إلا من خلال اللغة والأشكال الطباعية وتوزيع الحبر على الصفحة، مع ما تمنحه من تحقق بصري مولِّد للدلالة ومعضِّد لخطاب الرواية؛ وبناءً عليه يتشكّل مكان تخييلي داخل ذهن المتلقي، ربما لا يقوله النص بقدر ما يؤثثه القارئ بملء الفراغات وافتراض المحذوف واللامقول، فيعيد تخيّل أمكنة عَبَرَها أو شاهدها من قبل أو ينشئها ذهنيا، فيَنتُج من هذا مكانٌ آخر –أو أمكنة متعددة بتعدد القراء- هو مكان تخييلي تشكّل بفعل الحكاية، أي أنه مكان فني ينبني على التلقي، على الرمزي وعلى الجمالي. لكنه قد يلتبس بالمكان الواقعي لاقترابه منه ولتأسُّسه عليه أيضا.

وإذا كان من غير الممكن افتراض وجود (رواية خالصة) يكون فيها كل شيء مصنوعا من الخيال ومنفصلا عن الواقع، فإن النص الروائي يستثمر الواقع باعتبار أنه مرجع يراهن به على الإقناع السردي، ومن ثمة على الإيهام بالواقعية التي يصير معها التخييل حقيقة لا لبس فيها، ويكون فيها للمكان، وقابليته للتوظيف السردي، دورٌ كبير.

وهكذا، تغدو الأعمال الروائية والدراسات السردية الحديثة -في فصلها بين المستويات الثلاثة للأمكنة (المستوى الطباعي/ البصري، والمستوى التخييلي/ الاحتمالي، والمستوى الواقعي/ المرجعي)- تتناغم مع مستوى الإدراك التجريدي الذي بلغه العقل الإنساني من جهة، ومع تطوّر سيطرة الإنسان على الكون عبر تفكيكه إلى دوائر صغيرة ومواضيع ومعارف بالغة الدقة؛ ذلك أن التحولات المعرفية الكبرى تبصم الأثر الفني ومنه السردي فتنعكس فيه على شكل تحوّل إبداعي في التعامل مع المكوّنات السردية وأشكال بنائها.

لقد عرفت الرواية العربية الحديثة نقلة في التعامل مع البنية السردية ومكوناتها، إذ بعدما كانت المادة الحكائية تشكّل محور الأعمال السردية عموما، فإن باقي المكوّنات صارت تجد لها محلاًّ محوريا إلى جانب بعضها البعض، وربما طغى مكوّن على الأخرى، كأن الرواية تجعل منه قطبا تدور في فلكه باقي العناصر.

فتحوَّل المكان في كثير من الروايات إلى دائرة الفعل، وإلى مساحة الضوء والاهتمام، بعد أن كان شاحبا. بل إنه أصبح في أعمال أخرى يؤدي الوظيفة نفسها التي تؤديها الشخصية، أو الزمن، أو اللغة أو غيرها.

ولهذا فيمكننا تقسيم الحديث عن أشكال الوعي بالمكان في الرواية الحديثة إلى مستويين:

مستوى التفكير في المكان باعتبار أنه مكوِّنٌ أساسي، غير مُلحق بباقي المكونات أي غير تابع لها، بل تنهض به الرواية وتعتمد عليه في بنائها السردي.

مستوى الانتقال من تسريد المكان إلى تخطيبه، باعتبار أنه حامل للفكرة، وناقل للخطاب، ومُحاجِج عليه.

ولأن المكان "هو الذي يؤسس السرد"- بتعبير هنري ميتران، ولأن الأمم سرود ومرويات- كما يقول إدوارد سعيد، فإن المكان يغدو في الآن نفسه شرطا وجوديا، وشرطا حضاريا، ويرتكز عليه تطورُ الوعي الإنساني منذ بدء الخلق. ولهذا فإنه يتطوّرُ في توازٍ قائم مع وعي الجماعات والأفراد الذين يشغلونه، ما يعني أن الإنتاج الفكري والحضاري والفني الإنساني لابد أن تترسب فيه ملامح وعي المكان في المرحلة التي أنتِج فيها، وسيصير بإمكان الدارس أن يبرز هذه الملامح في كيفية تفكير الأثر الإنساني وما يشمله من أشكال الكتابة والتخييل.

حسام الدين نوالي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى