جاسم العايف في ذكراه الأولى
في معظم الأحيان تتعثر وتخوننا الكلمات وتبقى قليلة لتعبر عن الحزن الذي في داخلنا عندما تدق لحظة الوداع لشخص موجود في قلوبنا وأعتدنا على وجوده ويترك لنا أصعب الذكريات التي تملأ قلوبنا وجعا وأشتياقا.
تمر علينا الذكرى الأولى لرحيل واحدا ًمن الأسماء البصرية الثقافية التي أتسمت بالعطاء في كثير من المجالات الإبداعية وحتى اللحظة الأخيرة من حياته.. أن جميع الذين يعرفون كاتبنا"جاسم العايف"عن كثب هم كثيرون يعترفون ويشهدون له بجميع المآثر والصفات الحميدة:
"كالمثل والقيم والمبادئ والاخلاق السامية والعلم والمعرفة والرأي الصائب والوفاء والاباء والكبرياء".
أحياء ً لذكرى وفاة الكاتب "جاسم العايف" أقدم قراءتي لكتابه الخامس والأخير "في ألق الكتب" والذي صدر عن دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع / دمشق 2019 قبل رحيله بفترة وجيزة يوم 17 / نيسان / 2019.
تبدأ رحلته الأولى مع الشاعر "مجيد الموسوي.. رثاء الذات عبر الآخر". انه ذلك الوجد المتسرب لروح الشاعر التي لا تعرف استقرارا ً لولا تهدأ عن الهيمان، مجموعته"دموع الأرض "ثمة ضجيج الأسئلة الغارقة في الوجدان عن مدينته البصرة كأنما خلق لها وغمس في تيارها وأستنشقها، الموت مهيمنة ومتكررة في شعره، الموت ليس كمحاولة لإلغاء الذات بل الخوف على الذات من الإنقراض الأشد قسوة، والتصدي الذي يعمد اليه وهو أستعارات الغائبين، والأمكنة النائية، وعبرها يعقد علاقة تضاد بين رقة المتخيل والواقع الفظ والذي لم يتصالح معه نهائيا، مراثي الموسوي للراحلين ومخطاباته للآخر، وللأشياء الزائلة التي مسكها شعريا، هي توجه، لا شك فيه، لإملاء النقص الحاصل في الوجود اليومي، ومحاولة للقبض على تلك اللحظات التي تتبدد، ومعها تتسرب الحياة.
تبدأ رحلته الثانية مع الشاعر "كاظم اللايذ" ومجموعته الشعرية "على تخوم البرية.. يجمع لها الكمأ" .. ويعبر فيها عن نتاجه الشعري الذي ينبع من أدنى درجات سلم الألم متوجا بمديات التوتر الانساني العارف بلا تكلف، ويسترجع في شعره كثيرا ذلك الزمان الذي تميز بالقهر وخيباته، بالترافق مع ألقه الذي تبدد عبر الأنكسارات التي ألقت بظلها الأسود على نكهة الحياة البسيطة، "اللايذ" يستفيد في قصائده بوضوح من فن السرد الواقعي تحديدا، وعوالمه التي لا حدود لها، وهو يكتشف الأمكنة التي يمر بها مهما نأت عنه وعن "بصرته" الغارقة في الوجدان، ويتفرس في بقايا الأمكنة المحلية وخصوصيتها التي كلما ننأى عنها. ويعود لأستعادتها بوسائل وطرق وصيغ شتى ويسقط عن الكثير من بعض مظاهر حياتنا الصعبة – القاسية – الراهنة – الذاهبة نحو المجهول.
تبدأ رحلته الثالثة مع القاص "وارد بدر السالم" ومجموعته القصصية "البار الأمريكي.. العتمة وعوالم الأرق" والتي سبق وفازت بالمركز الأول في مسابقة جائزة دبي الثقافية للابداع "الدورة الخامسة 2007".
ضمت مجموعة "البار الأمريكي" ثماني قصص قصيرة، تطرح عوالم لكائنات الأرق والسهر واللذة العابرة منزوية في جو العتمة المقصود والتي هي بمثابة "بؤر"تتسع بعيدا عبر أفكار مزدحمة بالوقائع والحكايات والأحلام التي لا تنقطع، وغالبا ما يهيمن صوت الراوي" الوحيد القاص ذاته" على الثيمات ليتلبس عبر لغة سردية مرنة، ورؤى تمزج بين الواقع والأفتراضات المتخيلة ومنها المستكشف الجغرافي تارة أو المؤرخ أو العالم الأنثروبولوجي تارة أخرى، ويستخدم "السالم" في قصصه التوظيف الفني – الدلالي للواقع العراقي المعيش في تحولاته القاسية الصاخبة المريرة، منقبا عن دور ضياع الانسان العراقي، كاشفا الظروف المعقدة التي تغيب وتكبل تطلعاته نحو عالم جديد لائق بالحياة الآدمية، متطلعا بوله نحو الفضاءات الرحبة والغنية التي تنطوي على ما هو جميل ونبيل وحافل بالثراء الوجداني الانساني.
تبدأ رحلته الرابعة مع الشاعر "مهدي محمد علي - البصرة.. جنة البستان".
بعد فراره من البصرة برفقة الشاعر"عبدالكريم كاصد"عبر صحراء البادية الجنوبية العراقية، بقى الشاعر"مهدي محمد علي"
يعيش حياته في الغربة والبصرة تسكنه عبر الذاكرة كأنه لم يغادرها
"قررت أن أحمل بصرتي معي مهما تتبدل المنافي والبلدان، بكل أحوالها وتحولاتها، ورأيت أن ذلك يستلزم أن أحفظ مدينتي تلك في صفحات كتاب، وعليه باشرت برسمه بالكلمات وقد رسمت المدينة كما رأيتها وعشتها وكما رأيت ناسها وعايشتهم من عمر الخامسة حتى الخامسة عشر".
يذكر الشاعر "عبدالكريم كاصد" عن كتاب "البصرة.. جنة البستان" هذا الكتاب من أجمل الكتب التي صدرت في المنفى، قرأه الكثيرون"مهندسون، أطباء، عمال، طلاب"وقد عدَ بعض الكتاب "البصرة.. جنة البستان" من أدب السيرة التي تغدو مدينة الكاتب جزءا من حياة كاتبها.
تبدأ رحلته الخامسة مع الناقد "مقداد مسعود" وقراءة في الحداثة الشعرية العراقية"من الإشرعة يتدفق النهر".
يضع الناقد"مقداد مسعود "في بداية كتابه مهاداً نظرياً وتطبيقياً يسميه" القراءة "ويتألف من أربع فقرات، في البداية يذكر انه ينصب القراءة سلماً وقيماً عالية ليعالج عبرها أختلالا بين بنى الواقع وأفق التلقي، ويقرر أن حيوية الحضور الشعري العراقي الذي لم ينقطع بل تدفق عبر تطوير تجربته الشعرية، ويؤكد أن قصائد "نازك الملائكة" في "عاشقة الليل" تقع ضمن المؤتلف الشعري لكنها في مجموعتها الثانية "شظايا ورماد" بدأت بالتمرد الشعري واعلنته على مستويين هما التنظير من خلال المقدمة التي كتبتها لمجموعتها تلك، هذا التنظير حسب ما هو معروف بات نواة أولية لكتابيها النقديين اللذين حمل الأول فيهما أسم "قضايا الشعر المعاصر" الصادر عام 1962، والثاني "الصومعة والشرفة الحمراء" الصادر عام 1965، ويورد أن د. أحسان عباس رأى أن الشاعرة "نازك الملائكة"حين كتبت قصيدة "الكوليرا" لم يدر في بال الشاعرة الملائكة أنها تكتب القصيدة المخالفة للشعر العمودي، في حين يؤكد الناقد البصري "عبدالجبار داود البصري "في كتابه" نازك الملائكة.. الشعر والنظرية" 1971، أن نازك تراجعت شيئا فشيئا في ما كتبته لاحقا عن كل تلك التنظيرات السابقة وتقدم "ترسيمة" تتألف من مجموعة من الرؤى والتنظيرات التي قدمتها"نازك الملائكة"وأخذت بالتراجع عنها حتى تنتهي "الترسيمة" بصفر يساوي صفر.
تبدأ رحلته السادسة في ذكرى رحيل محمود عبد الوهاب.. محمد خضير يطلق"الرجل والفسيل".
تضمن "الرجل والفسيل" مقالات كان قد كتبها القاص "محمد خضير" بالترافق مع أخلاصه كشهادة عن مثل وقيم نادرة في الوفاء والأمانة في الزمن العراقي الراهن، لعلاقة عميقة حميمة جمعت بينه وبين محمود عبدالوهاب، ويرى "محمد خضير" أن جميع قصص "محمود عبدالوهاب" وأعادة نشرها في "الرجل والفسيل" وبعد سنة من وفاته سيملأ جزءا من لوحة الغياب الفاجع فلقد قطع الرحيل السرمدي لرجل أستثنائي أي أمل في أنتاج متعدد الأصول، رحلت السحابة بمطرها وأغلق الشباك على ساحته بعد أن أكتفى الأسلوب بعنوان أصيل.
تبدأ رحلته السابعة مع عالم"غائب طعمة فرمان "الروائي.. دراسة الدكتورة فاطمة عيسى جاسم".
لقد لعبت نتاجات "غائب طعمة فرمان" الثقافية والأدبية والفكرية دورا مهما في تعميق وبلورة الوعي الأجتماعي، الإنساني في الصراع ضد أشكال القهر والقسوة والتردي والتخلف، وحفزت الكثيرين على دراستها وأستكشاف عوالمها الفنية، وفي المقدمة منها روايته "النخلة والجيران" والتي يتفق أغلب الدارسين في حقول الأدب العراقي على انها البداية الفنية للرواية العراقية، فلقد عدَه"جبرا ابراهيم جبرا "الكاتب العراقي الوحيد الذي يركب أشخاصه وأحداثه في رواياته تركيبا حقيقيا.
أن "غائب" قام بابراز الشخصيات الروائية ذات الملامح الشعبية البسيطة التي تعيش هموما مشتركة بسبب من التزاماته الفكرية وأختياراته الأجتماعية وأنحيازه للفقراء والمهمشين أجتماعيا، وكذلك قدراته في أستبطان تلك الشخصيات نفسيا والتي تشكل وحدة أجتماعية تتأثر وتؤثر بالمحيط الخارجي والعالم الذي وجدت فيه.
تبدأ رحلته الثامنة مع كتاب "نزعة التجديد والتجريب في السرد العراقي القصير "للناقد جميل الشبيبي".
يؤكد في كتابه وعبر الدراسات التي قدمها الى أن التجديد والتجريب في السرد العراقي قد أقترن بالعلاقة مع الواقع العراقي المعيش هماً أو كابوساً أو بناءاً مفارقاً من خلال لغة القص التي حفلت بالتقنيات المتعددة والمتنوعة لإنشاء هياكل شكلية غير معروفة ومسبوقة في السرد العراقي القصير، ويؤشر على ميلاد سرد قصصي جديد مختلف ومتنوع في تقنياته ومنفتح سرديا على المنجزات العربية والعالمية لتعزيز الإنجاز العراقي الوطني وبالشكل الذي يعزز الهوية السردية، روائيا أو قصصيا بثيماته المحلية.
تبدأ رحلته التاسعة مع كتاب "عبير التوابل : للكاتب أحسان السامرائي.. وبعض المسكوت عنه".
يعرَف الأستاذ "أحسان وفيق السامرائي" كتابه بصفته لوحات عن الحياة الإجتماعية والثقافية والفنية والتأريخية في البصرة من القرن العشرين حتى سنة 1979، وتناوله لأحداث ووقائع وسيرة المدينة وناسها سواء أكانوا في أعلى السلم الأجتماعي أم في درجات مختلفة منه ومن ضمنه القاع، وهو لم يتجاهل أو يتغاضى عن سكانها وميزاتهم مهما كانوا لأن هذا التغاضي يعني القفز على تأريخ المدينة وتجاهل سماتها وفراداتها التي تميزها عن غيرها، فالمدن كما يقال بناسها، فالبصرة مر بها أقوام عدة وأختلطت على تربتها أجناس بشرية شتى جاءت عبر مواكب تأريخها، لكن كل من حل فيها نسي ماضيه وأمتزج بثقافتها وشخصيتها ذات السمات المميزة بتقاليدها ومذاهبها عربية وغير عربية.
وصف الشاعر حسين عبداللطيف كتاب "عبير التوابل" بأنه:
"يدخلك الى متحف فيه من كل نادرة عجيبة، وقائع وأحداث، حكايات وأساطير، نوادر ومآسي، فيضانات وأوبئة، غزوات وأحتلالات، وآثار سياط وعذابات خاصة – عامة، مزقت نسيج البصرة الإجتماعي والسياسي والأدبي والثقافي وما زال ميسمها شاخصا على الأجساد والأرواح وحتى المؤلف نفسه لم ينج من تداعياتها ونكباتها وعذاباتها في ما بعد 17 تموز 1979.
تبدأ رحلته العاشرة عن "شارع المتنبي.. ذاكرة مغتالة".
شارع المتنبي بالنسبة للعراقيين هو موطن الأسرار والكتابات المخفية عن عيون السلطات وهو حكاية البحث عن المفقود منذ زمن بعيد، وهو المكان الذي يقرأ الباحث والأعلامي والعراقي "توفيق التميمي" تأريخه وحاضره بعيدا عن التأويل.
شارع المتنبي الذي يحتل قلب بغداد هو سجل الأدباء والسياسيين والمجانين والشعراء الرواد والصعاليك الذين توزعوا في بلدان العالم والذين يتمنون أن يقلبوا في الآن كتابا تنقل بين الأصابع كالبلدان التي وطأتها أقدامهم، أغلب المصادر التأريخية تؤكد أن هذا الشارع يعود في أصله الى آواخر العصر العباسي وهو منذ ذلك الحين أشتهر بازدهار مكتباته والمؤسسات الثقافية التي كانت فيه، والملك غازي هو الذي أطلق عليه تسمية "شارع المتنبي" عام 1932 تيامنا بالشاعر "أبي الطيب المتنبي".
مع كل الجهد التأريخي والتوثيقي والمعاينة اليومية التي بذلها "التميمي" لغرض توثيقها ومن ثم كتابتها فهو بدراية وبتواضع كبيرين فأنه ينقب في المكان / الرصيف المحدود مسافة والمفتوح زمنيا لأستعادة مكونات وتأريخ هذا الرصيف، الذاكرة لغرض الحفاظ عليها من الأندثار أو النسيان ولتوصيلها الى الزمن القادم والأجيال المتعاقبة.
تناول الكاتب "جاسم العايف" أيضا في كتابه"السينما النازية.. والتلفيقات العنصرية"و"الى السينما يذهب بيكاسو وبراك"
و"المايم.. بانتوفيم، والصمت هو الصمت" و "أشكالات في تأصيل المسرح العربي" و "واقف في الظلام.. وتلك الأيام"
و"قتل الملاك في بابل.. أحتجاجات وملاحظات" و "الحفر في تأريخ مدينة".
عشنا مع الكاتب "جاسم العايف" عبر كتابه "في ألق الكتب" من خلال ثقافته المتنوعة ويقظة ذاكرته وتوجه أفكاره نحو التغيير الأيجابي لصالح الانسان.
قال عنه الشاعر "جمال جاسم أمين" في وداع "جاسم العايف":
"ألف تلويحة حزن لا تكفي لوداع ناحل مثل "جاسم العايف" على شط العرب أن يتوقف دقيقة حداد.. وعلى السيبة أن تهدل على كتف الفاو هديلا مرا، آه أيتها البصرة كم تذرفين رطبا وحزنا على الكحل المتدفق في سوق العشار أن ينظم الى أقرب ليل! مع الأعتذار لفكرة الأمل، ها نحن سقطنا في باحة اليأس، كل هذا ولا يكفي لأنك الطيب والصادق أيها "العايف" الذي عاف كل شيء ولا شيء بعده.. وداعا ما اردت لك الوداع"!!