جدار العار
كرّر صديقي الأستاذ الجامعي سؤاله مرات متتالية، وهو يجرع بيرّته ويطلق ضحكاته المجلجلة:
– سمير ما بك؟... لم تصمت هكذا؟.. هل غضبت؟.. هيّا يا أخي.. كن لطيفا وامرح معنا... نحن هنا للفضفضة والمرح والاسترخاء.
اكتفيت بالنـّظر إليه وأنا أتصنّع ابتسامة أداري بها بؤسي دون أن أعرف إذا كنت قد نجحت.
ويواصل الجماعة حوارهم حول الحداثة. بينما أغرق في صمتي، أدخّن سجائري وألملم ذاتي... طعم السجائر مرّ حارق ولذلك أحتاج دائما إلى سائل يجعله مستساغا.. قهوة أو شاي أو مشروب غازي. وإذا عزّت السوائل أكتفي بالماء الذي يرطّب الحنجرة ويدفع كل هذه المرارة إلى جوفي. أما أن أدخن السجائر هكذا، وحدها، فإنه العذاب الأزرق في هذا المكان العجيب.. حانة في تونس العاصمة ليلة سبت.. عندما جاء النادل بالبيرّة لجماعتي طلبت قهوة فقال إنهم لا يبيعونها. فطلبت مشروبا غازيا فسخر مني:
– يا سيّد انتبه لنفسك، فأنت في حانة. فاهم يعني حانه؟ بقي لك أن تقول لي عمّرْ لي الشاي ومعه مشموم؟؟
ضحك جماعتي حتى تفصّد جبيني عرقا. وصمتت وأنا أتعجّب.. ألا يوجد في هذا المكان غير الخمر؟.. هل استوت الأذواق كلها؟.. هل اتفق كلّ هؤلاء الذين يزدحم بهم المكان على احتساء الشراب نفسه؟.. قبل أن أقلع عن الشراب منذ بضعة سنوات كانت الحانات تقدّم القهوة والمشروبات الغازية، حتى أن بعضهم كان يمزج الكحول بالسّيفن آب. أما أنا فقد كنت أختتم بقهوة ثقيلة تدفع عن الجسد بعضا من تخثـّره... فما الذي حدث إذن؟ نظرت حولي أفتش جميع الطاولات فلم أجد غير البيرة.. أكثر من مائة شخص محشورون في مكان ضيق قذر يشربون الشراب نفسه: البيرّة الخضراء التونسية الشهيرة.
إلى جانب طاولتنا تحلـّق خمسة شبان يشربون ويضجّون، بينما انطلق أحدهم في الغناء، باذلا كل جهده في شدّ الأسماع إليه. غير أن جلساءه انشغلوا عنه بأحاديثهم.
من أين لي بكأس ماء يطفئ لهيب هذه السجائر التي أدخنها منذ ثلاث ساعات بلا شيء؟؟؟ أين يمكنني إيجاد الماء في هذا المكان؟ ربما في المرحاض.. لكن قذارته وامتلاءه بإفرازات السكارى المختلفة سيمنعني عنه... ربما أجد الماء خلف مصطبة النّادل.. فهل أجرؤ أن أطلب منه كأس ماء؟؟ إنّ لذع السجائر في الحنجرة ألطف من لذع سخريته..
ولكن ما الذي جاء بي إلى هذا المكان؟..
اتـّفقت مع صديقي بهيج على أن أمضي الليلة عنده.. سيقرأ لي آخر أشعاره، وسأحدّثه بأسئلتي وبآخر ما كتبت. وستكون ليلة نجدد فيها العهد مع الأكاديمية.. آه على الأكاديمية.. سهرات حتى مطلع الفجر أملؤها مع بهيج وبعض الأصدقاء أحيانا بالقهوة والسجائر الملتهبة والنقاشات المتوتّرة حول الثقافة والدين والتاريخ والسياسة... كنا نتناقش في كلّ شيء. وكانت نقاشاتنا أقرب إلى العراك، حتى أننا نتخاصم أحيانا ونقاطع بعضنا.. لم نخض يوما نقاشا هادئا. ومع ذلك، وبعد أن يجف حلقي وترتعش أوصالي ويصيبني الدّوار وأشعر بالانهيار في كلّ مفاصلي جرّاء تلك النقاشات، أشعر في النهاية أنّي نفضت الكسل عن ذهني وقريحتي وجوارحي كلها. ولذلك كنت مؤمنا بفعالية الأكاديمية في إبقائي حيّا..
فكرت ليلتها أننا سنعقد الأكاديمية. سنبدؤها في بيته. وعندما يغلي الكلام نهيم في الليل لننفس في المشي شيئا من توتـّرنا، ولنبتعد بعراكنا إلى قفر حتى لا نزعج النيام من الجيران بصياحنا.. وعندما جاء محسن بسيارته قلت هذا عضوجديد في الأكاديمية، وقد تنفع السيارة في إخراجنا من وسط العاصمة عندما نحتاج إلى الخلاء لنصيح ونتعارك. لكن بهيجا قال إننا سنذهب للقاء فيصل الذي يصل في قطار العاشرة. صديقنا فيصل أستاذ جامعي ومفكر كبير، ولا يكتب إلا في المواضيع الكبيرة.. جميع كتبه ودواوينه الشعرية تتناول مواضيع كبيرة، أكبر منا نحن الثلاثة المبتدئين في عالم الكتابة. ولذلك كان فيصل بمثابة الشمس التي تدور حولها كواكبنا الضئيلة.
التقينا فيصل في محطة برشلونة فقلت هذه ليلة الأكاديمية. لكنه طلب أن نمرّ على النزل ليضع حقيبته. وعندها بدأت أشكّ. وركن محسن السيارة قرب النزل. ومشينا فمضوا بنا إلى هذه الحانة. هل كانوا متفقين مسبقا؟ لقد جاؤوا إليها بعفوية كأنهم جميعا يعلمون وجهتهم... شعرت بالحرج لأن بهيجا لم يخبرني. كان يعرف أني قبلت المبيت عنده من أجل الأكاديمية، فلم غيّر جميع الترتيبات دون أن يخبرني؟... سأسلي نفسي إذن بمجالسة أصدقائي... سأكتفي بقهوة أوقهوتين إذا طالت الجلسة، وسأدخن الكثير من السجائر وأحاور أصدقائي.. سيكون جميلا أن نعقد الأكاديمية في هذه الحانة على قذارتها واكتظاظها وبؤسها. ولينسجم عراكنا مع عربدة السكارى..
وجاء النادل فطلب فيصل ثمانية... يجب أن تكون البداية معه، فالإبل تمشي على كبارها.. ويا لنكبتي.. لا قهوة ولا أي شيء آخر غير البيرة الخضراء القذرة. والنادل يسخر مني لأني أفكر في شيء آخر غيرها. فكيف سيستساغ طعم السجائر الكثيرة؟.. لا بدّ أن تكون كثيرة.. احتسى الجميع شرابهم. وبقيت القارورتان أمامي. فحاول بهيج دفعي إلى الشراب. فاعتذرت. فانتقدني واتهمني بالخيانة. وراح يحكي للجماعة عن صولاتي عندما كنت أسكر وأنزع كل ثيابي.
ضحك الجماعة. وقال فيصل:
– يجب أن تشرب حتى تتمكن من مسايرتنا في جوالسهرة.
وتمسكت باعتذاري فقال بهيج بحدّة:
– والله لأعيدنّك إليها يا سمير.. كيف ستكون مبدعا دون شراب؟.. وكيف ستحلم؟ وكيف ستتمرّد؟
تردّدت في دخيلتي، نظرت إلى القارورة، وكدت أتناولها، لكني تذكرت الطعم البغيض فامتنعت. وتساءلت سرّا: لماذا يقسم على إعادتي؟ هل أصبح الأمر تحدّيا شخصيا؟.. هل خنته حقا؟.. هل أحتاج إلى هذه البيرة الخضراء القذرة حتى أحلم وأبدع وأتمرّد؟؟
انضمّ إلينا شخصان آخران من معارف بهيج. وطلب الجميع المزيد من الشراب كلّ على حسابه هذه المرّة. وخاطبني بهيج بنبرة مشجّعة:
– هيّا اشرب.. خذ الجرعة الأولى وتخلـّص من العقدة.
وا عجبي.. هل أصبح الأمر عقدة؟؟ رددت عليه بنرفزة:
– لماذا تضغط عليّ؟.. قلت لك لا أريد.. هل ستتوقف الدّنيا إن امتنعت؟.. استمتع بشرابك ودعني مع سجائري.. ولنتجاوز هذا الموضوع.
وتدخل فيصل، وهويمدّ يديه ليأخذ القارورتين من أمامي قائلا:
– خلاص.. الرّجل لا يريد.. لندعه وشأنه.
تنفست الصّعداء لأن كبيرنا حسم الموضوع. وواصلت مع سجائري. وبدأ فيصل حديثه عن مشاريعه الثقافية.. كتب للترجمة.. قصائد جديدة.. بحوث أكاديمية... وكلما عبّرنا عن اندهاشنا لبراعته في النبش عن مواضيع لا ينتبه إليها أحد، ردّ علينا بإشراقته المعهودة:
– أنا أعرف أشياء لا أحد يعرفها..
وانشغل فيصل بأحاديثه التي يبدوأنها سحرت بهيجا كثيرا فكاد الأمر يتحوّل ثنائيا بينهما. وعندها انحنى عليّ محسن حتى كاد فمه يلامس أذني، وسأل بلهفة وارتباك:
– هل أعجبك مقالي حقـّّا؟
– نعم أعجبني.. وقد علـّقت عليه... أظنّ أنّ نشره في ذلك الموقع الكبير دليل على جودته.
– قرأت تعليقك. لكن خفت أن يكون من باب المجاملة... إنه أوّل مقال أكتبه.. لم أتعوّد كتابة المقالات.. ليست لي براعتكم..
– بداية جيّدة وعمل متميّز.
انفعل محسن وسأل بفرح:
– حقـّا؟.. لا أنت تحاول رفع معنوياتي..
كان محسن قد كتب المقال قبل شهرين وأرسله إلى موقع عربي كبير. ولمّا أبطؤوا في نشره أصابه البؤس حتى أصبح يشكوإليّ باستمرار.. كان يقول إن لعنة الأسماء الكبيرة أصابت مساحات النشر العربية فلا حظّ فيها للصغار والمبتدئين.. وعندما نسي أمر المقال فاجؤوه بنشره. ولا أحد يتصوّر فرحة محسن غير الذين عايشوها فعلا.. لقد سألني عن رأيي أكثر من مرة، وأنا أرى في ملامحه ولهفته ونبرة صوته ذلك التنازع الغريب بين رغبته في إثارتي للحديث عن المقال كأنه يريد أن يملأ فراغا في روحه، وبين توجّسه من أن يكون قد بالغ أوأثقل... كنت أرى فيه عذابي وخوفي من ألا يكون صوتي قد سمع..
رفع فيصل صوته بالسؤال كأنما ليعيد انتباهنا جميعا إليه:
– تعرفوا يا جماعة .. أنا صنعت فيلما.
ردّ بهيج باندهاش:
– فيلم؟
وسألته:
– يعني فيلم حقيقي؟.. بسيناريووممثلين وتصوير..؟ أم أنك صنعته عبر برنامج رقمي؟
فأشرق وجه فيصل وهويجيبنا:
– ما هوالفيلم الحقيقي؟.. صورة وصوت؟.. هذا فيلم فيه صورة وصوت... أخذت صورا لقضبان حديد، ثم جعلتها تتحرك من خلال الكمبيوتر. وأدمجت معها موسيقى فبدت القضبان وكأنّها ترقص.. نصف ساعة من رقص القضبان على أنغام موسيقية ساحرة.
اندهشنا جميعا.. ويبدوأننا أخذنا في تخيّل رقص القضبان لنملأ صمتنا. فتمهّل فيصل لحظة ثم قال بإشراقته وابتسامته المزهوّة:
– أنا أعرف أشياء لا يعرفها أحد.. هذا الفيلم كان أعجوبة.. كل الذين شاهدوه بدا لهم أعجوبة.
جاء النادل بالمزيد، فقطع علينا حديث الفيلم. ونظرت إلى الشاب المغني في الطاولة المجاورة فإذا به يؤدي مواويله بالكثير من الشغف والتفاني، وقد وقف بين يدي أحد جلسائه وأخذ يتمايل ويركز عليه بصره، وينحني حتى يطلّ على ملامحه.. يبدوأنه وجد منه بعض اهتمام فوجّه إليه جوارحه كلها. لكنّ الجليس لم يكن مهتما كثيرا.. إنه يميل على كرسيه حتى يخترق انتصاب مغنيه ويمدّ سمعه وبصره إلى حكايات بقية جلسائه... احترت بينهما.. مع من عليّ أن أتعاطف؟.. مع المغني الذي يجهد ليحمّل أغنيته كل طاقة فيه صوتا وكلمة وحركات وملامح يحاول أن يحمّلها إحساسه؟.. إنه ذات تجاهد لتسمع صوتها حتى لصديق في حانة... أم هل أتعاطف مع المستمع؟.. لا يبدوأن الغناء يشدّه فعلا.. بل لعلـّه يودّ أن يبتعد هذا المغني المتعسّف حتى يرى أصحابه ملء ناظريه.. كم أودّ أن أقرأ ملامحه.. لكنه يلتفت إلى الجهة الأخرى فلا أرى منه غير الظهر..
اقتربت من فيصل حتى أسمعه صوتي عبر ضجيج الحانة. وقلت له:
– لقد نشرت بعض المقالات في الأنترنات. هل قرأتها؟
وقرأت في وجهه عدم الارتياح، فتساءلت هل أسأت طريقة التعبير، أم اختيار اللحظة؟ لكنه أجاب:
– لا.. لم أقرأها.
شجعني جوابه، فقلت:
– طيب، إذا رغبت في الاطلاع عليها فهي في الموقع الفلاني في الصفحة الفلانية... هل أكتب لك عنوان الموقع؟
– لا. لقد حفظته.
انتابني الشكّ.. كيف سيذكر فيصل أمري وسط هذا الضجيج؟.. ووسط اهتماماته الكثيرة؟.. قبل سنتين أعطيته نصا كتبته فوعدني بأنه سيقرؤه ويعطيني رأيه. وانتظرت ولم يفعل، فهاتفته، فأجابني بنبرة باردة إن النصّ أعجبه. هل قرأه؟.. هل أعجبه؟.. لقد كان محسن محقا في خوفه ولهفته وتردده وإصراره على معرفة حقيقة رأيي..
قال فيصل كأنما ليفتح بابا للحديث الذي بدأ يفتر:
– تعرفوا يا جماعة؟.. نحن العرب مازلنا بعيدين عن الحداثة.. أصلا نحن لم نتفق حول مفهوم للحداثة.. وكأنّ الحداثة عندنا ثوب يخيطه كل واحد على مقاسه.. أغلب الناس يظنونها امتلاكا للآلات والتقنيات الحديثة.. والحال أنها تتأسس على تجاوز العيش في الماضي والوعي بحركة الزمن.
فردّ عليه بهيج:
– نحن لا نتفق حول شيء.. الآن تطرح على الساحة خصومة حادة بين أنصار قصيدة النثر وأنصار قصيدة التفعيلة. بينما حُسم الموضوع في الغرب منذ بدايات القرن الماضي.
ردد ت عليه:
- هذه خصومة مفتعلة.. لا يوجد شقاق بين النمطين. بل هناك أنماط أخرى من الشعر كثيرة. وكل نمط يجد قرّاءه ولا يلغي غيره.
ردّ بهيج باحتداد:
– كيف تقول إنها خصومة مفتعلة؟.. اقرأ الصحافة.. واكب الأنترنات لترى حجم الخلاف والشقاق وتبادل الاتهامات..
– ما قصدته أنّ كل هذا مفتعل لأن وجود أنماط كثيرة من الشعر يعتبر علامة تنوّع وثراء، ولا يقود بالضرورة إلى خصومة.
– وماذا تقول في الناس التي تهاجم من الطرفين؟
– لا يفهمون الشعر.. الشعر لا يمكن أن يكون نمطا واحدا.
تدخل فيصل:
– يعني لا أحد غيرك يفهم؟.. أنت تعرف الشعر وكلّ الآخرين لا يعرفون؟
– لم أقل هذا.. أنا قلت إن التنوّع لا يعني الخصام لتكون الغلبة لنمط من الشعر يلغي البقية. كلّ من يغذي هذا الخصام يعتبر في نظري جاهلا بالشعر.
عندها ازداد بهيج احتدادا وصاح:
– أنا أعرف سمير.. أعرف كل آرائه.. خذوا مثال الفن التشكيلي.. كل التجارب الحديثة سيقول عنها سمير إن أصحابها يعبرون من خلالها عن عجزهم عن الإبداع الحقيقي.
أدهشني تعليقه، فسألته:
– كيف تعرف كلّ آرائي؟.. يعني أنا كتاب حفظته كلـّه؟..
– نعم أنا أعرفك.. ماذا قلت عن لوحات إيناس قبل سنتين؟.. أذكر أنك قلت بالحرف الواحد إنها تعجز عن الرسم الحقيقي فتخلط الألوان كما اتفق بحجة التجريد.
– يا أخي لوحاتها لم تعجبني.. هل أصبحت إيناس الآن مقياسا للحداثة؟؟.. هذه مسألة ذوق.. وإذا أنجزت إيناس أعمالا لم تعجبني فهذا لا يعني أني لا أفهم في الفن الحديث.. هناك الكثير من الأعمال التجريدية التي تعجبني.
علا الصياح بيننا فتدخل فيصل موجّها كلامه إليّ:
– اسمع يا سمير. أنت صديقي.. وأنا أقول لك هذا الكلام لأنك صديقي... أنت إنسان تقليدي.. أنت متزوّج ولك أبناء ولا تشرب وتذبح خروف العيد.. يعني في النهاية أنت إنسان تقليدي وسلفي وبعيد عن الحداثة... وإيناس هذه رسامة مبدعة وترسم لوحات جميلة. وهي لم تعجبك لأنك تقليدي.
وخزني كلامه في صميمي.. أعادني إلى بدايات علاقتي به.. كان بهيج من قدمه لي قبيل عيد الإضحى. واقترحت عليه أن أستضيفه في العيد عندما عاد بهيج إلى أهله وبقي وحيدا. فقبل دعوتي. وحدثني يوم عرفة عن المجزرة التي ترتكب في حق الخرفان في بلاد المسلمين. وقال إن الخرفان المذبوحة في سنة واحدة تكفي لإبعاد شبح المجاعة عن إحدى الدول الإسلامية الفقيرة. وقال إنه لا يأكل لحم العيد حتى لا يشارك في الجريمة النكراء.
شعرت بالإحراج وقتها وتساءلت كيف نأكل اللحم وهومعنا في البيت ولا يشاركنا؟.. لكن أفكاره أعجبتني. وقلت لعله نباتي، أولعله محق في تحليله. وصباح العيد شرعت في ذبح الخروف وسلخه بينما جلس هوبقربي يشرب قهوته. واقتربت ابنتي سمر التي كانت في الثالثة وقتها بفضول الصغار. لكنها ما إن رأت الخروف يتخبط في دمه حتى ارتعبت وبكت، فأخذتها زوجتي بعيدا. لكنها لم تلبث أن عادت خائفة مترددة رافضة أن تبتعد. فاقترح فيصل أن يشغلها بحكاية، فمكثت عنده تسأله وتسألني عما نفعله بالخروف المسكين. وما إن فرغتُ ونظفت المكان وشققت بطن الذبيحة ورأت اللحم الطازج حتى نسيت رعبها وحيرتها وراحت تردد بعفويتها الطفولية ولغتها التي لم تستقم بعد:
– سآكل لحمة، وسآكل كرشة، وسآكل كبدة، وسآكل مصرانا...
حتى ضحكنا كلنا. وعندما أعدّت زوجتي الكانون وتهيأنا للمشويّ قال فيصل:
– تعرف سمير.. أنا لا أعترض على أكل الخروف لكنني أخاف من الكولسترول.
أفرحني كلامه ذاك، وقلت له:
– هذه بسيطة.. سنضع الليمون عليه ولن يصيبك مكروه. ثم المشوي لا خطر فيه لأنّ دهونه تحترق.
وشويت للجميع حتى اكتفوا. وتخيّرت لفيصل كما تخيرت لأطفالي القطع الخالية من الشحوم تماما.
الآن وأنا أجلس مع أصدقائي في هذه الحانة القذرة والمكتظة، يحوّل صديقي فيصل تلك الطقوس العائلية حجة ضدي ليبرهن لي ولنفسه أني بعيد عن الحداثة...
أجلت نظري في الحانة التي عقد الدخان في فضائها الضيق سحابة عتمتها وجعلت هواءها ثقيلا. كان بعض الشبان يتضاربون ويتدافعون، وآخرون يحاولون فضّ العراك. وكان الشابّ المغني قد ترك سامعه المزعوم وراح يطوف. وكلما وجد فسحة بين العباد توسّطها ونشط للغناء والتمايل والدوران حول نفسه، وهويجيل ذراعيه في الهواء فيحدث قبس سيجارته رقصة نارية دقيقة، بينما تتهادى القارورة الخضراء الشهيرة في يده الثانية. وكانت ملامحه تتفاعل مع غنائه على نحوبائس، ونظراته تتفرّس في الوجوه كأنّها تبحث عمّن طربوا لغنائه.. رثيت له.. حاولت أن أستمع إليه، لكن حركاته المفتعلة بدت لي بغيضة. عدت إلى فيصل:
– أنت يا فيصل لا تعرفني.. تقول هذا الكلام لأنك لا تعرفني.. اقرأ مقالاتي وستعرف كيف أفكر، وكيف أنظر إلى الأشياء.
وعندها اهتاج بهيج وصاح:
– ما بك يا سمير؟.. كتبت مقالتين تريد أن تجعل لنا من (......) مرجعا؟..
وخاطبني فيصل هويضغط على الكلمات محاولا أن يحافظ على هدوئه:
– اسمع يا سمير.. هذه المرة سأدمّرك.. سأقول لك كلاما.. واكرهني أوقاطعني أوافعل ما تشاء.. لكنني سأدمّرك.. أنت عندك معرفة في كل شيء.. وجاهز للرد على أي ملاحظة.. وكأنك امتلكت المعرفة... أنا أتمنى لوأسمعك مرة تقول لا أعرف.. نفسي أسمعك تعترف بجهلك.. أنت تتحدث عن مقالاتك وكأنه لا أحد كتب غيرك.. يعني نحن أمامك حمقى لم نكتب شيئا.. يلعن (.....) مقالاتك.. ويلعن (.....) أنت تفهم في الشعر وفي المقالات وفي الفن وفي الحداثة... يعني أنت جاحظ زمانك؟... يلعن (.....)ـك..
كان قد تشنّج تماما حتى تناثر زبده واهتزّ جسمه. فتركته حتى هدأ. ثم سألته:
– هل أستطيع الردّ على كلامك؟
لكنه رفع يده بعنف وصاح بنبرة قاطعة:
– لا تكلمني.
وخيّم علينا صمت ثقيل حتى قطعه بهيج:
– أنا أعرف سمير.. لم يكن هكذا.. والله لم يكن هكذا.. نصيحتي لك يا سمير أن تقرأ.. أمامك الأنترنات فاقرأ، واقرأ كثيرا... أنا أمضيت سنتين أدمن القراءة حتى أصابني المرض، والآن وصلت الدرجة الصّفر من المعرفة... افعل مثلي.. اقرأ..
ما أقبح هذه المواساة المتثعلبة والمبطنة بالغرور وبالخديعة.. قلت له:
– نحن حضارة لا تعترف بالفرد.. كل شيء عندنا جماعي قطيعي.. حتى أننا نستعيذ بالله من ضمير الأنا (*) ونجرم من يقول أنا.. إذا تحدث واحد عن نفسه بضمير الأنا نعامله وكأنه اقترف جريمة نكراء... ما المشكلة في أن أتحدث عن مقالاتي أوآرائي أوأقول إن لوحات إيناس التي رأيتها قبل سنتين لم تعجبني؟.. أنا فرد من بين سبعة مليارات. ولي مقدار من المعرفة والذوق والمشاعر يعادل واحد على سبعة مليارات. وعندما أتكلم فأنا أتكلم عن ذلك المقدار الضئيل الذي لا يساوي قشة في بحر. لكنه رأيي.. يعبر عني وعن رؤيتي لما حولي وتفاعلي معه. فما المشكلة في ذلك؟..
صمتنا مجددا. وطال بنا الصمت حتى وصل منذر. فسلـّم علينا ووقف متأففا، مجيلا رأسه في المكان علـّه يعثر على كرسيّ. فخاطبه بهيج:
– لم تأخرت؟ ظنناك لن تأتي.
– تأخرت في العمل.. وصلت لتوّي من الكاف.. رجل حاجّ ذهبت لأصلح له المكيّف فأضاع لي ساعتين وهويعاند في أمر لا يعلمه. وفي النهاية سلـّم بجهله وطلب السماح. لكنني انتقمت منه... بعد أن أنهيت العمل أخذ يطلب السماح. فقلت له لا تعتذر. بل اجلب خمسة بيرة وهات نقودي. وفعلها.. حاجّ وفعلها.. أحضر البيرات الخمسة وسلمني أجرتي وركبت الطريق.
ضحك الجماعة حتى سرّي عنهم. وعادوا إلى أحاديثهم. بينما تصيّد منذر كرسيا وطلب شرابا.. وعندما استوى وجرع جرعة كبيرة نظر إليه بهيج وسأله:
– كيف حال عشيقتك؟ هل مازلت بارعا في مسك خيط التوازن بين الزوجة والعشيقة؟
تراجع منذر ليتـّكئ على كرسيّه، وأخذ يمسّد كرشه التي أخذت في الظهور دون أن تصل حدّ الترهّل وقال:
– آه.. النظام.. كلّ شيء يحتاج إلى نظام.. إذا نظّمت الأمور جيّدا يحافظ كل واحد على مكانه، وتستفيد من الزوجة ومن العشيقة. أما إذا أخطأت ولوخطأ بسيطا فإن كل شيء يقع على رأسك.
– ألا تخجل من نفسك؟ متزوّج، وفي هذه السنّ، وتتخذ عشيقة؟
عندها اندفع منذر إلى الأمام وصاح به:
– وما لك في هذا؟ هل اشتكيت إليك؟.. هل طلبت مساعدتك؟..أنا قادر فما دخلك؟.. ثم هوحلـّل أربعة.. وما داموا قد حرّموا علينا فلنتـّبع المذهب الـ...
وعندها دوّت ضحكة فيصل المجلجلة:
– اسمعوا.. هذا مفهوم جديد للحداثة..
وضحك الجميع.. ثم التفت فيصل ناحيتي، وضرب على ركبتي وقال:
– سمير مالك؟.. هل غضبت؟.. لماذا كلّ هذا الصّمت؟.. يا أخي الحياة فيها الرّمادي.. تعرف اللون الرّمادي؟
لم أجبه. لكنه ألحّ في السؤال. فقلت له:
– أنا أعرف الرمادي التي في العراق. عرفتها من نشرات الأخبار.
– لا يا صديقي.. هذا ليس ردّا لطيفا، ولا يليق بمثقف.. الرمادي يعني الوسط... بين الأبيض والأسود.
لم أجبه. فقال بهيج:
– اتركه.. إنه غاضب.. كلنا غاضبون.. نحن جميعا غاضبون وعصابيون.. لأن هذه الحضارة التي ننتمي إليها جعلتنا هكذا.
احتسى فيصل شرابه. ونهض لي وقبّلني على جبيني. ومع ذلك لم أستطع الخروج من صمتي.
طالت الحكاية ولم أتحدّث عن الجدار.. حكاية الجدار هذه حكاية بسيطة... مثل حكاية جدار برلين تماما، بل مثل حكايات كل الجدران.. لكن المشكلة التي لا حلّ لها هي أنا وأصدقائي.. هي هذا المغني الذي لا يجد من يستمع إليه.. هي هذه الحانة التي توفر الشراب نفسه للجميع.. هي هذه الأصوات التي تتصارع فيحاول كل صوت إثبات حضوره بإقصاء البقية... المشكلة إذن نحن جميعا.. كلنا نتباكى ونندّد ولا نفعل شيئا لأننا غارقون في عجزنا.. مكبلون بأمراضنا.. لا نعرف الطريق إلى أنفسنا، ولا إلى أصواتنا، ولا إلى فردانيتنا التي تحررنا. ولذلك لا نعرف الطريق إلى جماعتنا، لأنها تتألف من ذواتنا الفردية كلها.. عندما يصبح الواحد منا فردا حرّا في تفكيره وعقلانيا وعمليا... وعندما يتاح لرؤوس جميع الأفراد أن تطلّ من مستنقع المجموعة، فتخرج المجموعة كلها من المستنقع.. عندما يدرك الأفراد أن ذواتهم الفردية هي التي تؤلـّف المجموعة.. عندها سيتمكن خمسة ملايين منا فقط أن يسيروا إلى مكان الجدار ويوقفوا البناء.
(*) في تونس يتجنب الناس استعمال ضمير الأنا في حديثهم، وعندما «يخطئ» أحد فيقوله يستدرك بالقول: «أعوذ بالله من كلمة أنا».