الاثنين ٢١ أيار (مايو) ٢٠١٨
بقلم سلوى أبو مدين

حلم خلف القضبان

قبل أن تقلّني الطائرة كنت أودّع زواياه.. وأُقبّل كلَّ ركن فيها، حيث الدفء والسكينة، جدرانه الطينة المتجعدة الخشنة.

جارنا أمين والعم رمضان، تلك الضمائر الطيبة التي تلتقي كل مساء، يتداولون الأخبار، وإذا ما غاب أحدهم لمرض أََلَّمّ به فإنهم يتوافدون لزيارته. أبعدتني سنوات الغربة، ولم أنسَ حوائط الدفء والحب.

عدتُ بعد سنين قضيتها، وقلبي يخفق لرؤية بيتنا الذي تتوق عيناي لمعانقة كل جزء فيه.

في حارته العتيقة، العم طالب بائع الخضراوات، وبجانبه دكان السمك.. كانت رائحة بيتنا تشدني. عندما أطلقت الطائرة العنان للهبوط رف قلبي. وهو يحتضن شوارع مدينتي.!

ركبت السيارة التي اخترقت بي الطريق الفسيح، ولكن اختلف الاتجاه.. مدخل فمنعطف.. وشوارع واسعة.. إشارات ضوئية..

القلق والخوف يبتلعانني.!

فجأة أوقفتني السيارة أمام مبنى شاهق ضخم!

تَلَفَّتُّ يمنة ويسرة..

وقدمت ورقة صغيرة كتب عليها عنوان بيتي بخط صغير.. تبسم السائق مشيراً إلى المبنى الكبير!

ذهول.. يلفني للحظات.. وأطرقتُ أفكر..

أمّا السائق فأخذ ينتظر أجرته وهو لا يلوي على شيء!

حملتُ حقيبتي الصغيرة.. وقادتني قدماي المرتعشتان الى ذاك المبنى الشاهق.

سكون يخيم على الشارع الفرعي إلاَّ من صوت أبواق السيارات المسرعة، وجوه لم أعتدْ على رؤيتها تمشي في اتجاهات مختلفة..

أين وجه العم طالب، وحمزة، والجدة نور.؟

كتل أسمنتية بلا أرواح، حوائط باردة.

حارس يربض أمام المبنى، وما إن رآني حتى أقبل مسرعاً يحمل حقيبتي، وهو يهلل بالترحيب المعتاد.. لأجل الحصول على وريقات من المال.

كل شيء داخلي يرتعش.. قتامة الأشياء تحاصرني..

فُتح باب ذو طلاء بني قاتم.. وطل وجه غريب لسيدة شابة توحي ملامحها بأنها من شرق آسيا..

بلهجة متكلفة وابتسامة باهتة ترحب..

لا أبالي بما تقول.. كل ما أود معرفته أين هو بيتنا؟

الذي أنهكته الرطوبة.. لم نكن نشعر بالبرد ورعشته!

لم نكن نمرض من تقلبات الجو.. بيتنا الذي بناه العم رمضان مع أبي وجدي.. لم أعد أراه!

اعتقدت أنها لحظة حلم أمر بها.

بخطوات عاثرة. دفعتُ قدميَّ.. إلى حيث المجهول.!

من أين أبدأ؟ وإلى أين انتهي؟

سياج من اللهب يلفني.

إضاءة ساطعة.. كراسٍ وثيرة.. أرضية ناعمة.. بسط فوقها نوع من السجاد العجمي.

ومازلتُ أرقب المجهول!

كان عليَّ افتعال الحنان.. كلّما احتك جسدي بأشياء لم اعتدْ على ملامستها.

خواء شاسع يلتهمني!

ارتشف الخوف من كوب الوقت المتثاقل..

لا أجيد الحروف.. سوى أن تسربلت بالذهول!

فقدت الإحساس.. بتلك الرائحة الممتزجة بالجدران.. رائحة الطين.. حجرات متلاصقة، مائدة واحدة تجمعنا!

كيف أنسى؟!

رغبة مؤججة في لقاء الماضي..

وعناق يراودني!

استيقظ على أشياء تسرق حلمي.. حجرات متباعدة. أفراد يقيمون متفرقين.. برودة الجدران.. رائحة الخوف تلفهم..

أقفال توصد أبوابهم.. حراس تقف لحراستهم!

فقدوا الطمأنينة.. باتوا يخافون من أي صوت يأتي من الخارج!

حتى القمر مبعث الحب والشجن.. احتجب خلف ستائر سميكة.. ونوافذ محكمة الإغلاق!

ارتديتُ ثوب الصمت للحظات..

وما بين الصحوة والإغماء..

أطلّت أمي بوجهها، مشرقة كعادتها، احتضنتني في بحر أذرعتها.

كنت أبحث في صدرها عن مرفأ لأحلامي الموءودة.

لشارع.. لظل بيت.. لوهج قمر يستلقي فوق نافذة قديمة!

ولا زال ألف سؤال.. وسؤال يداهمني؟

أين عبق بيتنا القديم؟

ضحكات الصغار.

الطباشير فوق أرضية زقاقه الضيق.

صور خُبئت بين حقول نفسي المشطورة

تحملت الدهشة التي ألقاها لي الموقف!

ليل تأخر.. هواء مخنوق..

و أقتات الضجر.

ويتبعني جرح دامٍ!

وثمة سؤال أكبر منا؟

مَن حوَّل جدرانه الدافئة إلى كُتل باردة لا روح فيها؟!

ما يؤرقني كلما اختبأت تحت بياضه الناصع..

تحاصرني شقوقه الصغيرة بين أركانه المحفوفة بالرغبات الدافئة..

ويظل هاجس لعبة الطباشير.. والغميضة.. شجرة الليمون، لا تغادرُ طفولتي التي نفضت غبارها عني!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى