الجمعة ١٩ شباط (فبراير) ٢٠١٦
بقلم عصام شرتح

حوارنقدي كاشف مع حميد سعيد

س: نحن نعلم أن لكل ديوان من دواوينك، طقسه الإبداعي الخاص، ومنظوره الوجودي المميز، وأنت في مجموعتك الشعرية الجديدة – أولئك أصحابي – تشهد قفزة نوعية وجسارة رؤيوية غير معهودة في توظيف شخصيات أبطال الأعمال الأدبية الخالدة، ما هو منظورك الرؤيوي لهذا الاستخدام، ولماذا اختيار هذه الشخصيات؟

ج: لا أتواضع حين أقول، إن تجربة تَمَثُل شخصيات روائية، ليس سوى محاولة لتجديد قصيدتي، والوصول بها إلى مدى لم تكن قد وصلت إليه من قبل، وليس ادعاءً، حين أقول، لقد اقترنت تجربتي الشعرية بهذا التوجه، منذ وقت غير قصير، إن لم أقل منذ بداياتها، إذ حاولت باستمرار أن أبتعد عن التكرار وأضيف ما هو جديد على الصعيدين الفكري والجمالي.
وكانت بعض هذه المحاولات، مغامرة من دون حسابات، كما هي قصيدتي – نص تكعيبي – مثلاً، يومها حاولت أن تتشكل بنى القصيدة كما تتشكل اللوحة التكعيبية، موضوعا وخطوطاً والواناً، وتلك محاولة لم أكررها ثانية، رغم كل ما استأثرت به من اهتمام نقدي، واذكر إن أحد أصدقائي، قال لي معلقاً، على تجربة– نص تشكيلي – لو أن شاعراً غيرك، كتب مثل هذه القصيدة، لكررها في عشرات القصائد وادعى إنها، اختراع، ينبغي أن يحصل عليه براءة اختراع !
ما أريد قوله، لو فكرت، بما سيقوله النقاد أو كيف سيستقبلها المحيط المتلقي، لما كتبتها، أو لما نشرتها، حتى بعد كتابتها، وهكذا هو الحال في قصائد مجموعتي – أولئك أصحابي – أي أنها محاولة لإضافة جديد إلى كل ما كتبت من قبل.
وهذه المحاولة ما كانت ابنة لحظتها، بل هي فكرة تأملتها طويلاً، ولا تفاجأ حين أقول إن هذه الفكرة، تعايشت معها أكثر من ربع قرن، وكلما حاولت أن ابدا بها، أجد ما يحول بيني وبينها، ثم وجدت نفسي مهيأً لكتابة قصيدة قادرة على أن تعبر عن تلك الفكرة، فكانت قصائد – أولئك أصحابي -.

س: من المعهود لدينا، إن الكثير من الشعراء، يوظفون الشخصيات التاريخية، بينما عمدت في هذه المجموعة إلى أبطال روايات معروفة، واستقطبتها من طقوسها وأزمنتها الإبداعية، وهذا منزع مبتكر – غير مسبوق – ما المغزى الفني والدلالي من هذا التوظيف المبتكر، ولماذا هذا العدد من الشخصيات، وماذا أردت أن تقول من خلالها؟

ج:أما أن تكون محاولة، تَمَثُل شخصيات روائية في القصيدة،محاولةً– غير مسبوقة – كما ورد في السؤال، فذلك ظنٌ يخامرني أيضاً، لكنني غير متأكد منه، ولربما، هناك من سبقني إلى هذه المحاولة، لكنني لم أطلع عليها.
ومع هذا، ليس السبق في هذه المحاولة، ما يمنح القصيدة أهميتها، بل إن ما يمنحها أهميتها، هو المستوى الإبداعي في هذا التَمَثُل.

إن اي شخصية من شخصيات – أولئك أصحابي – عرفتها من قبل، وكانت لي علاقة بها، وهذه العلاقة في البدء، فكرية طبعاً، لكن طالما حولتها المخيلة إلى علاقة شخصية، قد تكون إيجابية وقد تكون غير ذلك.
ومنذ مرحلة الصبا، وبداية قراءاتي في الرواية العالمية والعربية، كنت أتخيل الفضاء الذي تدور فيه أحداث الرواية التي أقرأها، أية رواية، وتقودني المخيلة إلى مكان أعرفه أحياناً، ولا أعرفه احياناً أخرى.
وكذلك مع الأشخاص، فقد يتجسد لي في كيان شخص أعرفه أو سمعت به، وهناك من أحبه وأتعلم منه وأتبادل الود معه، وهناك من أعترض على سلوكه وأحاوره فيه.

ولكل من الشخصيات التي تمثلتها في – أولئك أصحابي – حضور في تجليات الحياة والثقافة عندي في آن، وليس أصحابي هم الذين استأثروا بقصائد المجموعة المذكورة فحسب، بل هناك شخصيات كثيرة من روايات أخرى، كان يمكن أن أتمثلهم في قصائد أخرى.

وعلى سبيل المثال كنت أسمي الأخوة آل الجندي، إنعام وسامي وخالد وعلي وعاصم، حين ألتقي بهم جميعاً أو بعضاً منهم، وأستمع إلى حواراتهم وحكاياتهم ومفارقاتهم – الأخوة كرامازوف– بل كنت أتخيلهم كما الأخوة كرامازوف.
وكانت لنا زميلة جميلة وذكية ومثقفة، لكنها لم تكن تقدر أن تكون بلا عشيق، ومن المفارقة إنها لم تكن رخيصة أو مستهترة في سلوكها وتصرفاتها، وكنت أناديها مازحاً باسم – إيما – لأنها تذكرني بإيما بوفاري.
وكنت وما زلت، كلما أعدت قراءة رواية – مدام بوفاري – أجد تلك الزميلة في شخصية مدام بوفاري، أما – القبطان إيهاب – فطالما عاتبته على سلوكه الثأري، في حوارات متخيلة لم تتوقف، وعلى ذكر القبطان إيهاب، كنت يوماً مع الراحل محمود درويش في مقهى بمنطقة ميناء مدينة برشلونة، بانتظار معارف له من مدينة حيفا، وكنا قد دعينا من قبلهم على – مقلوبة – فلسطينية، وفجأة شاهدت شخصاً يدب على عصا، يخرج من شارع فرعي ضيق، باتجاه شارع عام، إنه هو القبطان إيهاب كما أتخيله، بمعطف طويل وقبعة سوداء، وإذ كان يواصل المشي باتجاه مكان ما، كنت كمن في غيبوبة أواصل الحوار معه، منفصلاً عن المكان الذي كنا فيه، وعن رفيق رحلتي وأحاديثه، عن أصحابه الذين كنا في انتظارهم.

س: ثمة خيط جامع لهذه الشخصيات، هو إحساس وجودي أو منظور رؤيوي عام، تحاول إيصاله، من خلال هذه الشخصيات، ماهي الرؤية الجامعة لهذه الشخصيات وما انعكاسها على عالمك الوجودي، ولماذا نوعت هذه الشخصيات؟

ج: نعم، إن ما يجمع بين شخصيات – أولئك أصحابي – هي الرؤية الجمالية التي حاولت من خلالها كتابة قصائد المجموعة، وهذه القصائد تنفرد كل واحدة منها بموضوعها، وهو حاصل تفاعل عاملين، فضاء الرواية التي تمثلتُ أحداثها أو اشخاصها أو بطلها، إنْ كان هذا الوصف يعبر حقاً عن الشخصية التي تمثلتها في عدد من القصائد دون غيرها من الشخصيات، والرؤية التي حددت طبيعة التمثل للأحداث والأشخاص.

لكن، لكل شخصية رمزيتها، وموقفها من الحياة، سواء كان هذا في الرواية أو في الواقع، إذا افترضنا إن بعض شخصيات الروايات التي اخترتها، هي شخصيات واقعية، قبل أن تدفع بها مخيلة الروائي إلى صورتها في الرواية، وهذا سيتكرر في النص الشعري، لأن النص الشعري في – أولئك أصحابي – لا يمكن أن يشتغل خارج فضاء الرواية التي تمثَلَ أحداثها أو أشخاصها، حتى وإن اختلفت أدوات الشاعر عن أدوات الروائي، واختلفت مخيلة الشاعر عن مخيلة الروائي.
إن شخصية –القبطان إيهاب - في رواية – موبي ديك – في سيرتها أو في رمزيتها، تختلف عن شخصية الصياد العجوز – سانتياغو – في سيرتها أو رمزيتها، حتى علاقة الأول بالبحر، مملكته العظيمة، وبمخلوقاته وأسراره، تختلف عن علاقة الثاني بالبحر، فضائه الساحر ومكوناته، ولكل منهما، أخلاقياته، بل لكل منهما مصيره.

وما أشرنا إليه، من اختلاف بين شخصية القبطان إيهاب والصياد العجوز، يمكن أن نجده في شخصيتي – مدام بوفاري – وشخصية – الليدي شاترلي - وإذا كان لكل منهما علاقة جنسية مع عشيق، دافعها الجسد الفتي، فإن لكل منهما مبرراتها السايكولوجية أيضاً، ولكل منهما ما يميزها سلوكاً واستجابات.

لقد كانت علاقتي بهم جميعاً، على اختلاف مكوناتهم واختلاف حضورهم الرمزي، لا تختلف عن علاقة إنسان اجتماعي، تفرض عليه الحياة الاجتماعية، أن يلتقي بنماذج إنسانية مختلفة، من النساء والرجال، وأن تشكل هذه اللقاءات، علاقات، ذات طبيعة مختلفة أيضاً.

في الحياة مثلاً، يمكن للمرء أن يتحدث عن جار أو قريب أو زميل عمل أو سفر، وقد يتحدث عن امرأة متمردة وأخرى منضبطة، وما إلى ذلك من نماذج إنسانية.

إنهم جميعاً، يشكلون محيطه الاجتماعي ويكونون عاملاً مؤثراً في تجربته الحياتية، أما أولئك الذين تمثلتهم في قصائد هذه المحاولة، في تنوعهم، فإنهم مصدر غنى وفعل حيوية لتجربتي الوجودية.

س: إنك تريد أن تصل من خلال استحضارك طقوس الأبطال الإبداعية، إلى رؤية جوهرية،تصب في دائرة الاغتراب والألم، على غير ما كان في شخصياتك المثالية في مجموعتك – من أوراق الموريسكي -؟

ج: لو توقفت عند إجابتي السابقة، بشأن اختلاف الشخصيات، في مكوناتها وفي سلوكها، وأحلامها وإراداتها، وفي رمزيتها أيضاً، وقبل ذلك اختلاف فضاءاتها، مكاناً وثقافة.

أي أن تَمَثُل هذه الشخصيات بكل خصوصياتها، في مجموعة شعرية واحدة أو في تجربة شعرية واحدة، لا يجردها من خصوصياتها هذه أو من طموحاتها، لذلك لا يمكن محاصرتها،كما يقترح السؤال، أو كما يرى السائل، في دائرة الاغتراب والألم، فقد تصح هذه الرؤية على بعضها، لكن البعض الآخر منها، عصي على الدخول في هذه الدائرة أو في أية دائرة أخرى، فهو يعيش في فضاء الحياة.

حتى ما وصفها السؤال بالشخصيات المثالية، في مجموعتي الشعرية – من أوراق الموريسكي– لو ارتضينا هذا الوصف، فما كانت الشخصية المثالية أو أية شخصية مهما كان توجهها، نسخة تتكرر، حتى يكون بالإمكان الحديث باطمئنان عن مواصفات ومكونات واحدة لهذه الشخصية.

إن ما شغلني، لزمن طويل، وأنا أفكر بكيفية تمثل شخصيات روائية، تعايشتُ معها إلى حد أن أتخيَل إنني عرفتها في الواقع، وليس على صفحات رواية وفصول كتاب، هو الجمال الإبداعي، في هذا التمثُل،أكثر مما شغلني، ماذا أقول، أو ماذا تقول هذه الشخصية أو تلك، في النص الشعري الذي أكتبه أو سأكتبه.

لكن الشخصية ورمزيتها، لا بد أن تظهر في النص، بما هي فيه، او بما تضيف إليها المخيلة، وحين تعددت الشخصيات بتعدد قصائد المجموعة، كانت الحياة، بتنوعها وتعدديتها في الثقافة والسلوك ومكونات الإنسان الاجتماعية والنفسية، فالقارئ يلتقي وكما أشرت من قبل، بإنموذج إنساني إيجابي مثل الدكتور زيفاغو ويلتقي أيضاً بشخصية سلبية مثل الأب كرامازوف، ولكل منهما، حياته، ولكل منهما أثره الذي يبقى متفاعلاً مع فكر المتلقي، وما يصح على الشخصيتين المذكورتين، يصح على شخصيات أخرى، التقى بها في أولئك أصحابي.

س: قد يظن بعض القراء، بأن استخدامك لهذه الشخصيات من باب المما حكة الثقافية وإبراز عضلاتك المعرفية، وقراءاتك، فماذا ترى؟

ج: لا عليك بالظن، وقبل أن أجيب عن هذا السؤال، أود القول بأن لا اعتراض عندي على الفكرة وأعترض على الوصف، حيث يوحي بأن التوفر على المعرفة، هو استعراض عضلات معرفية.
والفرق كبير بين التوفر على المعرفة، واستعراض العضلات، حتى لو كانت معرفية.

نعم، أنا أوظف ما أتوفر عليه من معرفة وما أمتلك من ثقافة، في كل ما أكتب، وبخاصة في ما أكتب من شعر، وقد عرفنا شعراء كثيرين موهوبين، وبداياتهم تفصح عن موهبتهم، لكنهم يظلون عند البدايات، يكررونها من دون تجديد أو إضافة، لأنهم لا يمتلكون ثقافة عميقة، وجادة وحيوية، أو لأن ثقافتهم محدودة وهامشية، وأمثال هؤلاء، أما أن ينصرفوا عن الكتابة الشعرية فتضمر موهبتهم، أو أن يكون نتاجهم، مجرد كم يتكرر.

وسواء في قصائد هذه المجموعة أو في سواها، أجد في الثقافة وفي القراءات، ما يغني تجربتي الشعرية ويعدد مساراتها، وينفتح بها على آفاق واسعة، وأمداء جديدة.

أكان عليَ، أن أتنازل عن معارفي وثقافتي وتجاربي وقراءاتي، وأضعها في محيط معزول، لتبدو قصيدتي سطحية وباهتة، لا تقارب إلا ما هو شائع ومعروف ومكرر من الأفكار والصور، من أجل أن أتصالح مع ناقد كسول، وقارئ أكثر كسلاً،، او مستمع يصفق لما يعرف وينأى بنفسه عما لا يعرف.

س: بصراحة شديدة، إن مجموعتك – أولئك أصحابي – موجهة للنخبة من القراء، لا نبالغ في قولنا: إلى نخبة النخبة، ودليلنا كثرة الشخصيات التي تمثلتها، وهذا يتطلب ثقافة واسعة لا يمتلكها الكثير من مثقفينا ومبدعينا، الأمر الذي يجعل قراء كثيرين في عزلة عن الرؤى والدلالات التي تريد إيصالها، ما قولك، وكيف يتواصل القارئ مع معطيات هذه المجموعة، إذا لم يطلِع على هذه الأعمال، الا يمكن أن يكون ذلك مزلقاً خطيراً، في التلقي النصي الفاعل لقصائدك، وكيف تتصدى لهذه المشكلة؟

ج:إن افتراض، قراءة أي من قصائد المجموعة مقترن بضرورة قراءة الرواية التي تمثلَت القصيدة أحداثها، أو تمثلت أحد شخصياتها، افتراض غير صحيح، فللقصيدة، أية قصيدة من قصائد المجموعة، مقوماتها ومفاتيحها، التي لم تكن نسخة مكررة من مقومات الرواية ومفاتيحها، أي، يمكن قراءة القصيدة وإدراك رسالتها، بالوعي أو بفضاء التأويل، بعيداً عن الرواية، حتى لو كان القارئ قد اطلع على الرواية وقرأها قراءة واعية عميقة.

وبالتالي يمكن للقارئ أن يقرأ القصيدة وهو لم يقرأ الرواية، فقصائد – أولئك أصحابي – كلها، تتوفر على رمزيتها الخاصة وتتوفر على مفاتيحها أيضاً، ثم أليس مما هو إيجابي، أن ينفتح النص الشعري المقروء على قراءة الرواية بدافع ثقافي محض، أو حتى بدافع حب الاستطلاع، بل أليس مما هو إيجابي أن يعود القارئ إلى قراءة رواية قرأها من قبل، بفعل ما يثير النص الشعري المقروء من قضايا وأسئلة.

نعم، اكثر من صديق، حدثني عن قراءة هذه الروايات أو عدد منها، بعد أن قرأ النص الشعري، ومن هؤلاء الاصدقاء القراء، من أعاد قراءة روايات، كان قد قرأها من قبل، وأنت تعلم إن النص الشعري، ينفتح على أكثر من قراءة نقدية، وينفتح كذلك على أكثر من قراءة في التلقي، فهو ليس مسألة رياضية ينبغي حلها بمنهجية واحدة، لتكون النتيجة واحدة، سواء جرى حلها في القطب الشمالي أو في غابات إفريقيا أو في جزيرة من جزر المحيط الهندي.

وإذا كان للنص الروائي، رؤاه ودلالاته، فليست هي رؤى ودلالات النص الشعري ذاتها، وإن كانت الرؤى والدلالات في النصين، تتكامل من خلال الحوار وليس من خلال تكرارها أو نقلها من النص الروائي إلى النص الشعري.
أما، ما يطرحه السؤال بشأن، النخبة أو نخبة النخبة، فإن القارئ الجاد، هو من النخبة، أو نخبة النخبة دائماً، والمقصود هنا، النخبة القارئة، وليس النخبة الاجتماعية او النخبة الأكاديمية، أو ما إلى ذلك من نخب.

إن القارئ هو الذي يفكر ويسأل ويستنبط الأسئلة، وليس القارئ الذي ينتظر معنى يعرفه، مثلاً سائراً او حكمة معروفة او قولاً شائعاً، ولو كان الأمر كذلك، لكان على العالم أن يمحو الكثير من الملاحم والقصائد ولرفض كل ما هو جديد ومضاف وغير مألوف، ولكان على العالم أن لا يعترف بالأعمال السمفونية وكذلك الأعمال التشكيلية العظيمة، السوريالية والانطباعية والتجريدية.

س: في مجموعتك " من أوراق الموريسكي " اقتصرت على عدد محدود من الشخصيات، ورغم ذلك لم يفك طلاسمها ورؤاها العميقة إلا النخبة، فكيف ترى الأمر الآن، مع هذا العدد الكبير من الشخصيات التي لا يدرك ما تمثل، كثيرون، الا يمكن أن يجعل شخصياتك في عزلة، وديوانك رهين أوراقه، لا يخوض غماره إلا نخبة النخبة، كيف ترمم هذه الهوة بينك وبين القارئ؟

ج: لو كان الحال، كما ورد في السؤال، لما حققت مجموعة " من أوراق الموريسكي " كل هذا الانتشار، وخلال زمن قصير، نفدت الطبعة الأولى منها، وصدرت طبعة ثانية، نفدت هي الأخرى أو تكاد، لأن دار النشر اضطرت إلى تصوير نسخ منها على عجالة، لأنها مازالت مطلوبة، كما أنها استقبلت بكتابات تتوزع بين النقد والخاطرة والحوار التاريخي، ولو كانت مغلقة الطلاسم، كما يصفها السؤال، لما كان مثل هذا الاستقبال الثقافي، ولما وزعت مثل هذا التوزيع، وما زالت تلقى اهتمام الباحثين والنقاد والأكاديميين.

لا أريد أن أتحدث عن المشاريع التي تعمل عليها الآن، بين القراءات النقدية والبحث الأكاديمي، وهي كثيرة حقاً، وفي أكثر من مكان وأكثر من جامعة.

ثم لابد من القول، إنني حين أكتب قصيدتي لا أفكر بالقارئ، ولو فكرت به، لما كتبت قصيدتي بكل تحولاتها، ولبقيتُ مثلما هم الشعراء الذين يدمنون المنابر، أكتب قصيدة ترضي المتلقي ولا ترضي الإبداع، وقد لا ترضي المتلقي ولا ترضي الإبداع.

لقد قلت في مناسبة سابقة، إن القصيدة هي التي تبدع قراءها، بمعنى أنها لا تحدد مواصفاتها على مواصفات القارئ، وإن القصيدة الحقيقية، ستجد قارئاً يقدرها ويفك مغالقها، يدرك مضمراتها من الأسئلة،ويقترب منها بالأسئلة أيضاً.
إنه قارئ مجتهد ومبدع، لا يرى الإبداع بما وجد عليه الآباء من ثوابت وقناعات، بل يراه بما يكتشف فيه.
أما كثرة الشخصيات، التي يخشى السؤال عليها من العزلة، فأرى انها ستعمل على مزيد من الانفتاح، وعلى كثير من الحوارات والمحاورين.

س: إذ نبارك لك هذا الجهد، وهذه الجرأة في تمثل الشخصيات في مسار إبداعي، كيف ترى هذا الأمر، إذ أن من شروط نجاح التمثل أن يعي القارئ الشخصية المتمثلة، والدور المنوط بها، حتى يواجهنا في السياق الإبداعي الجديد، كيف الحال في قصائدك؟ وكيف تواجه هذه المشكلة؟ وكيف يساهم القارئ في حل هذه المعضلة مع نصوص المجموعة الشعرية هذه؟

ج: ليس من قراءة واحدة، تتحكم بها اشتراطات محددة، فقد تقرأ نصاً يتمثَل شخصيةً ما، وأنت تدرك طبيعة هذا التمثُل أو تتخيله، وقد تقرأ هذا النص من دون إدراك طبيعته الشخصية، أي أنك تقرأ نصاً بكل مقوماته، وتكون الشخصية مقوماً من هذه المقومات، وفي مثل هذه الحالة، يكون النص في السرد او في الشعر، هو فضاء التواصل مع القارئ، وليس الشخص – البطل – بمعزل عن النص بكل مقوماته.

ويمكن أن تكون القراءة، اقصد قراءة نصوص – أولئك أصحابي – هي الأخرى عملية تمثل للفضاء الروائي والأشخاص، وهذا التمثل لا يشترط أن يكون، نقلاً لتمثل الشاعر.

كما أن، ليس كل القراءات، سواء كانت قراءات نقدية أو قراءات تلق ٍ، تكون توصلاتها متشابهة، فلكل قراءة توصلاتها الخاصة، وتعدد هذه التوصلات، ليس مما يسيء للنص الإبداعي، بل مما يغني النص وينفتح به على آفاق الحياة والمعرفة.

وما قلته بشأن نصوص – أولئك أصحابي – يصح على قراءة جميع نصوص الشخصية، واقعية كانت أم أسطورية أم تاريخية، وعلى سبيل المثال إن شخصية –إبنة الجلبي – في قصائد السياب، لم تكن هي نفسها في جميع القراءات النقدية وفي قراءات التلقي، فكل قراءة رأتها من منظورها الخاص.

و- بينلوب– زوجة عوليس الإغريقي، كانت هي الأخرى، لها حضورها في نصوص روائية وشعرية ودرامية، وكان حضورها مختلفاً بين نص وآخر.

ولا يختلف الأمر على صعيد التلقي، حتى في قراءة النص الواحد، فلثقافة المتلقي الذاتية والاجتماعية والدينية أثرها، في تمثل شخصية –بينلوب– أو أية شخصية أسطورية أخرى.
ومن الشخصيات التاريخية، يمكن أن نتوقف عند شخصية – صقر قريش -، كما تمثلها أدونيس، وسنجدها تختلف بين قراءة وأخرى، كما كانت الرؤية الأدونيسية لها، تختلف عن رؤى شعراء وروائيين آخرين.

س: تتناول مكان وزمان شخصياتك، وهذ يعني أنك تريد أن تحيا المعطيات الإبداعية كلها، أن تعيش في متنفسها الإبداعي، هل ثمة أجواء روحية لديك، لما ترتوي بعد؟ وما استحضارك لهذه الشخصيات، إلا لإرواء صبابة روح معذبة مغتربة، ماذا تقول يشأن ماجاء في السؤال؟

ج: الأساس في هذا المشروع، أن أتمثَل الشخصية بواقعيتهاورمزيتها، ثم بما تحتمله من أبعاد فكرية وجمالية، ومن الطبيعي أن يكون للشخصية، في كل مضانها،الواقع والتاريخ والأسطورة، وفي النص الأدبي، مسرحية أو رواية أو قصة قصيرة أو سيناريو أو قصيدة، زمان ومكان، أو لنقل، لها محيطها الحياتي،المجتمع والثقافة واللغة.
نعم، حدث في عدد من قصائد – أولئك أصحابي – أن أُسْقِطْ على الشخصية، معاناتي، أو أبرز في معاناتها ما يوحدها بمعاناتي الشخصية عموماً أو في هذه المرحلة تحديداً، لكن هذا الإسقاط، لا يمحو صفاتها ومكوناتها كما تعايشت معها في النص الروائي، ليمنحها صفات ومكونات أخرى.

لذا، ليس من الوهم أو من غير الواقعي، أن نرى في شخصية – القبطان إيهاب –في قصيدة – تجليات الماء – ما كان في شخصيته في رواية – موبي ديك –أو نرى في شخصية – الدكتور زيفاغو– في قصيدة – ملهاة الدكتور زيفاغو–ما كان في شخصيته في رواية – الدكتور زيفاغو -، وهكذا الأمر في شخصية – زوربا – و- سي السيد – و – الليدي شاترلي– وغيرها من الشخصيات.

وإن كان ثمة متغيرات أو إضافات أو حذف، في مكونات هذه الشخصية أو تلك، فهي مما تتطلبه أو تفرضه بنى النص الشعري ورؤاه.

وبعيداً عما تفترضه قراءة السؤال، ومن الطبيعي أن تكون للسؤال قراءته، وهي قراءة السائل.
إن الدافع الأساس لهذه التجربة، هو دافع جمالي أولاً، يتضمن البحث عن جديد وعن إضافة، وثانياً، الإفادة من خزين ثقافي، في الوعي والذاكرة والمخيلة.

س: كما يشير العنوان، إن شخصيات القصائد، هم أصحابك في غربتك الوجودية، وهذا يعني أنك تريد أن تعيش حالات الاغتراب التي تعيشها هذه الشخصيات وأن تتنفس عالمها الوجودي المأزوم، فهل أنت قادر على تحمل كل هذه الفيوضات والعذابات والتأملات الحارقة في عالم الاغتراب المرير،حتى تعيش كل هذه الحالات في هذا العدد من الشخصيات، وهل يعني أنك تريد مشاركة المعذبين في الأرض عذاباتهم؟

ج: لقد عشت حياتي كما أريد، حتى حين تعرضت للعسر، واسمح لي أن أستعمل كلمة – العسر – بدلاً عن مفردات لاأحبها، لكثرة ما تعرضت للتحريف والكذب والمبالغة، واستعمالها في غير محلها وغير دلالاتها، مثل الاضطهاد والقهر والغربة، وما إلى ذلك من مفردات وأوصاف.
لقد عرفت أشخاصاً، لم يخسروا شيئاً ولا فرصة، ولا فاتهم مكسب أو غنيمة، ممن يرقصون في كل عرس ويتباكون في كل مأتم، ومع هذا، يدعون أمام من يعرفهم ومن لا يعرفهم بأنهم تعرضوا للاضطهاد والقهر، أكثر مما تعرض لها –زيفاغو– في تحولاته أو – يوهان موريتز– بطل رواية – الساعة الخامسة والعشرون – في تحولات الأنظمة.
أما أنا، فأتحمل مسؤولية كل المعاناة التي عشتها، بما فيها ابتعادي عن وطني و بيتي ومدينتي وأصدقائي، مكتبتي وحديقتي المنزلية، وأعدها خياري.

لذا حين اقتربت من هذه التجربة في قصائد – من أوراق الموريسكي– لم أقترف التباكي والشكوى وذم الزمان،بل تناولتها كتجربة وجودية، عاشتها شعوب وجماعات على امتداد التاريخ، وعاشها أشخاص في كل صقع من أصقاع الدنيا.
وما كتبت إلا عن هؤلاء الأشخاص الذين عاشوا هذه التجربة، ولقد تعلمت من تجارب جميع أشخاص – أولئك أصحابي – إذ استمعت إليهم ورافقتهم في حيواتهم وحاورتهم في أقوالهم وأفكارهم، ليس بإحساس الاغتراب، بل بإحساس من يحاور صاحباً، إذ كانوا وما زالوا أصحابي.

أما على الصعيد الشخصي، فأنا أتحمل كل مفاجآت الحياة وما ينتج عن متغيراتها، لم أضعف يوماً ولا شكوت،أ ما معاناة أصحابي، فقد شاركتهم فيها، مشاركة القادر على إدراكها ومواجهتها لا مشاركة الضعيف المتباكي على مآسي الآخرين وعسر أيامهم.

س: وهل أردت استحضار أجواء المبدعين في اغترابهم وعذاباتهم، لتعيش متنفسها المثال أو المتخيل؟

ج: لا، بل معايشة المدرك الرائي، الذي لم يتوهم يوماً، بأن الإنسان يختار ظروف حياته، فيأخذ منها ما يريد ويرفض ما لا يريد.

وفي هذا القول لا أصدر عن رؤية سلبية، بل أصدر عن رؤية واقعية، وهكذا هي الحياة، في الماضي والحاضر وفي المستقبل أيضاً.

فلكل تجربته، ولكل خصوصية هذه التجربة، التي هي نتيجة ظروف تاريخية واجتماعية وبيئية وثقافية، ولكل تجربة من هذه التجارب ما يمكن أن نتعلم منها، بالحوار والمعايشة.

س: في مجموعتك – من أوراق الموريسكي– استحضرت الشخصيات المثالية، لتعيش الرؤيا المثال، أما في هذه المجموعة فقد استحضرت شخصيات لا مبدعة في سياق إبداعي، وكأن ساحة الإبداع عندك مفتوحة تتجاوز المجال الأدبي لتدخل المجال الحياتي، هل هذا ما قصدته أم أنك تريد أن تتمثل روح المبدع في الجوهر وليس في الشكل أو المظهر الإبداعي؟

ج: ما ذهب إليه السؤال بشأن ساحة الإبداع، ووصفها بأنها ساحة مفتوحة، هو وصف لا خلاف عليه.
وهكذا، كان المدخل إلى هذه التجربة التي كنت أعرف أنها ستثير حولها نقاشات طويلة،مثل كل المحاولات الجديدة وغير المألوفة وغير الشائعة، وستقابل بالرفض او القبول، بالرضا أو بالتشكيك.

إن هذه التجربة التي يمكن الوصول إلى نتائجها وما آلت إليه، في قصائد –أولئك أصحابي – ليس من المنطقي أن أحكم عليها، أنا شخصياً، بل أترك الحكم عليها للآخرين، سواء وَجدوا فيها، ما هو جديد في الإبداع الشعري أو لم يجدوا، هذا الجديد.

لكن، بمجرد أن تكون قادرة على أن تفتح باب نقاش بشأنها، فذلك أمر جد مهم، او هكذا أراه.
ويكفي أنها قادرة على أن تكون مولدة لأسئلة جمالية، فذلك عندي أهم من كل آهات الاستحسان المألوفة، وهز الرؤوس.

س: في هذه المجموعة، تتنوع الشخصيات، من مجتمعات عديدة ومختلفة أيضاً، ما الشيء المشترك الذي تريد قوله من خلال هذه الشخصيات وما القاسم الرؤيوي المشترك بينها جميعاً؟

ج: ليس ما أردت قوله، وإنما ما قلته، في تمثل شخصيات كثيرة من بيئات مختلفة ومجتمعات وثقافات عديدة، كل لها قيمها وأخلاقياتها.

إن الحياة الإنسانية في تغير دائم، في الثقافات والقيم والعادات والالتزامات والمفاهيم، وإن الإنسان، منذ أن تشكلت المجتمعات في ظل حضارات عديدة وثقافات مختلفة، عاش تعددية، لم تقدر أية أحادية مهما كانت تلك الأحادية، أن تلغي مفاهيم غيرها، وقد حاولت أحاديات مختلفة، امبراطورية واديولوجية واسطورية وغيرها، أن تكون هي الحياة، لكن الحياة في حيويتها ومتغيراتها، كانت أقوى من تلك الأحاديات، فسقطت امبراطوريات واندثرت عوالم أسطورية وتفككت أديولوجيات، واستمرت الحياة في تعدديتها وحيوية متغيراتها وتجددها.
إن تنوع الشخصيات، ليس سوى تأكيد للتنوع الإنساني،وهذا ما لايمكن تجاوزه، مهما كانت أدوات الفعل الأحادي المضاد.

س:ثمة رؤية جوهرية، تطرحها هذه الشخصيات، في أعمال أدبية خالدة، هل خلود مثل هذه الأعمال يعود للدور الوجودي الإبداعي لهذه الشخصيات، أم للسياق الإبداعي الذي أنتجها أم يعود إلى الواقع المتخيل أو المثال الذي أنتج مثل هذه الشخصيات؟ وما هي الرؤية الجامعة بين هذه الشخصيات؟

ج: ألا تلاحظ، إننا في حماسة حديثنا عن الأشخاص، قد استُدرجنا إلى تفريد الأشخاص عن فضاءاتهم الروائية، سواء كانت واقعية أو متخيلة، أو نتيجة تكامل الواقعي والمتخيل.

وهذا التفريد، مصدره خطأٌ منهجي، فمهما كانت أهمية الشخص في النص الروائي ومهما كان دوره أساسياً، فإن التعامل معه بعيداً عن فضائه الروائي، سيجعل منه كيانا مصطنعاً وظلاً باهتاً، للشخص الذي كان.

وسأضرب مثلاً بأنموذج هو الأبرز في دور الشخص في النص الروائي، وهو الضابط الألماني –ورنر فون – في رواية – صمت البحر – لكن لو فردناه عن أحداث الرواية وبقية أشخاصها، لفقد حضوره وإشعاعه،
وليس من شخصية في جميع الروايات التي جاء النص الشعري بتأثير منها، إلا وكان حضورها، من حضور الرواية وليس بمعزل عنها، ولما كنا نتحدث عن أعمال روائية خالدة، كانت وستبقى مصدر غنى للواقع وللتاريخ.
وعلى سبيل المثال، فإن أحداث الدكتور زيفاغو الروائية، ستظل تضيء الواقع في المرحلة السوفيتية الأولى، وتكاد تكون أكثر تأثيراً وإشعاعاً وإدراكاً للواقع، من كثير من النصوص التاريخية، الباردة الجامدة، حتى لو كانت قد سلمت من تدخلات القوى الفاعلة بشقيها، السلطة والمعارضة.

وكذلك، كان حضور الصياد العجوز – سانتياغو – في رواية – الشيخ والبحر – تلك الشخصية الآسرة التي احتلت المجال الأوسع من فضاء الرواية، ما كان يمكن أن يكون لها كل هذا الحضور لو كانت – افتراضا – في عمل روائي ضعيف ومهلهل، ولم يكن كاتبه على معرفة بحياة البحر ويوميات الصيادين وخبراتهم.
إن جميع الشخصيات التي تمثلتها قصائد – أولئك أصحابي – بكل مكوناتها، اخذت أدوارها ومن ثم أهميتها من أهمية الأعمال الروائية التي تحركت في أمدائها وشاركت في صنع أحداثها على المستوى الرمزي.
أما حضور النصوص الروائية، وسنفترض خلودها أيضاً، فما كان ليكون إلا بفعل ما تمثل من أحداث على المستويين الواقعي والرمزي، ومستوى تقديم هذه الأحداث جمالاً وموضوعاً.

س: ما هو سر نجاح هذه الشخصيات، من منظورك، هل يعود إلى عمق تجاربها أم إلى الشخصية ومكوناتها، ماهو الأفق التأويلي للوصول إلى إجابة عن هذا السؤال؟

ج: إليهما معاً، مكونات الشخصية وتجاربها، لأن مكونات الشخصية وتميزها، ما يتيح لها أن تخوض تجارب عميقة ومهمة.

ولو افترضنا إن الشخصية في الواقع تتسم بالسطحية والسذاجة والضعف، هل يمكن أن ننتظر منها تجارب عميقة، سواء في الفكر أو التصرف؟

وكذلك الحال في الرواية، فسيكون التناقض بيناً، لو كانت الشخصية، سطحية وساذجة وضعيفة، وتزج في تجارب عميقة ومهمة.

س: في – أولئك أصحابي – ثورة لغوية في بناء السرد الوصفي وتنويع مجريات الأحداث، هل من رأي في هذه التقنية، وما المؤثرات فيها، وفي هذا الثراء اللغوي؟

ج: اللغة، بنىً ومفردات، هي المادة الأساسية في تشكُل الكتابة، أية كتابة، إدائية أم شعرية، وكما لكل نص لغته، فللنص السردي خصائص في لغته وللنص الشعري خصائص أخرى ومختلفة.
فلكل كتابة خصائص لغوية، فالكتابة الصوفية في لغتها هي غير الكتابة التاريخية، والكتابة الفلسفية في لغتها أيضاً، هي غير الكتابة في مجال العلوم، وفي الجنس الأدبي الواحد، تختلف اللغة بين مرحلة زمنية وأخرى، وبين متغير إبداعي وآخر، فلغة القصيدة الرومانسية، تختلف إلى حدٍ ما عن لغة القصيدة الرمزية، أو قصيدة الاتجاه الواقعي.
ولغة الدراما هي غير لغة الوصف، وهذا موضوع تناولته أنت، في عدد من دراساتك النقدية، وتوسعت فيه، وتابعته في كثير من تفاصيله.

وحين أجيب عن لب سؤالك وجوهره، فالنص الشعري الذي لفت نظرك في ثراء لغته وفي تقنية بناه اللغوية، هو نص، بفعل طبيعة موضوعاته، يجمع بين السرد والحوار والوصف، ويعبر عن شخصيات متباينة، تنتمي إلى ثقافات وبيئات وأزمنة مختلفة أيضاً.

ومثل هذا النص، لابد أن يتوسع في قاموسه اللغوي ليستوعب كل هذا التعدد في أنواع الكتابة، والتعدد في الأشخاص وأزمنتهم وثقافاتهم وبيئاتهم.

إن قصائد – أولئك أصحابي - في تعدد أساليبها وثراء قاموسها، حال لابد منه، لأن الأسلوب الواحد والقاموس الفقير، لايتحقق من خلالهما التوازن بين الموضوع واللغة، كما أن الشاعر وهو يخوض في تجارب كل هؤلاء الأشخاص وكل هذه التجارب، لابد من أن يتوسع في قاموسه ويعدد في البنى اللغوية.
ولو كانت القصائد غنائية أو وصفية، لما احتاج إلى هذا التوسع في القاموس وإلى هذا التعدد في البنى اللغوية.

س: ماذا تريد قوله، في خلاصة هذه المجموعة على الصعيدين الشخصي والعام؟

ج: لا أريد أن أقول، أكثر مما قالته الشخصيات في جميع القصائد.
ويمكن أن أضيف إليها، إن وجودها جميعاً في مجموعة شعرية واحدة، ربما انفتح على حوارين متداخلين، حوار متخيل بين جميع الشخصيات، بكل مصادرها الثقافية وخصوصياتها الاجتماعية والبيئية، وحوار آخر، بين المتلقي، وهذه الشخصيات، ومثل هذه الحوارات لا تمثل غنى ثقافياً فحسب، بل تمثل انفتاحاً يتجاوز الأحاديات والتعصب وضيق الأفق.

س: بعد هذه المجموعة، إلى أين على صعيد الإبداع؟

ج: كما يحدث حين أنتهي من كتابة مجموعة شعرية، أفارق الهاجس الشعري أو يفارقني، وأعيش حالة من التطامن، حتى كأنني لم أكتب الشعر يوماً، وفي هذه المرحلة أنصرف للقراءة والتأمل والحوار والكتابة الأدبية أو الفكرية.
وهكذا أنا الآن..

ثم قد يدق بابي الهاجس الشعري من جديد، أو لا يفعل هذا، فأعيش في هدوء وراحة بال، بعيداً عن حرائق الشعر وعذاباته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى