حوارُ الأضْداد
حوارٌ افتراضيّ بين الحقِّ الفلسطينيّ والضّميرِ العالميّ
في حديقةِ القصر الرّيفيّ المطِلّ على البحر، اِسترخى الضّميرُ العالميّ على أريكةِ الجلد الفاخرةِ المبطَّنةِ بريش النّعام. فتح أزرارَ بدلته الباريسيّة، أشعل سيجارَه الكوبيّ، شرع يترشّف قهوةً برازيليّة عَطّرها الهيلُ الهنديّ، نفض الغبارَ مِن على حذائه الّذي قُدّ مِن جلد تمساحٍ أفريقيّ، تفقّد ربطةَ العنق متلذِّذا بملمسِ الحرير الصّينيّ. ثمّ رفع بصرَه متثاقلا إلى الحقِّ الفلسطينيّ الواقف قدّامَه منذ وقتٍ غيرِ معلوم. تأمّل ثوبَه الرّثّ باستهانة، أجال بصرَه في قدميْه الحافيتيْن المشقّقتيْن، نظرَ في وجهِه الّذي عفّره غبارُ القنابل القذرة، منحَ طرفةَ عين لشَعرِه الملبَّد بالوحل، تمعّن في قامتِه الفارعة وعُودِه المصلوب على نحافته.
وأخيرا سأل الضّميرُ بلهجةٍ جافّة جفافَ سرابِ الهواجر وهو يُشِيح بوجهِه نحو الأفق:
– مَن تكون، يا هذا؟ وكيف تجرؤ على أن تقتحمَ خَلوتي دون إذني؟
تبسّم الحقُّ الفلسطينيّ قبل أن يُجيبَ بنبرةٍ هازئة عاتية لا يُعرَف فيها الغضبُ مِن الرّضى:
– أنا الحقُّ الّذي يراه كلُّ ضمير حيّ وتعمَى عنه بصائرُ الأفّاقين الآثمين الفُجّار. لقد اقتحمتُمْ، وما زلتمْ، أرضي وبيتي وهوائي وسمائي وأحلامي وكوابيسي... منذ خمسةٍ وسبعين عاما دون استئذان ودون أن تجدَ حمرةُ الخجل إلى وجوهِكم سبيلا. فكيف تستكثر عليّ تكديرَ إحدىَ خَلْواتك بضعَ دقائق؟!
صمتَ الضّميرُ العالميّ برهةً كي يستوعبَ الصّدمةَ ويتعدّاها بأمان. ثمّ استخبر ثانيةً بحسٍّ بوليسيّ مُوارَب:
– مَن سمح لك بالدّخول عليّ؟
أجاب الضّيفُ بلهجةِ التّحدّي الرّصين الّذي يستفزّ الخصمَ بقدر ما يكسر مجاديفَه:
– ألمْ تعلمْ أنّ الحقَّ يخترق الأبوابَ الـمُوصدة وأنْ لا بوّابَ يُوقف زحفَه الجارف؟!
تصاممَ الضّميرُ سعيا إلى تقصيرِ الحوار الثّقيلِ على قلبه المربِكِ لعقله. ثمّ سأل متصنِّعا الهدوءَ والـجِدَّ والحزْم:
– والآن، ما تريدُ منّي؟ ما الّذي أتى بك إليّ؟
دنا الحقُّ الفلسطينيّ خطوةً مِن الخصمِ المتمترسِ خلفَ جدار التّجاهل قبل أن يردَّ حاسما كالسّيف:
– أريدُ دمِيَ المفسوحَ أنهارا، أريدُ طفولتي المشوَّهة باليتمِ والرُّعب والحرمان، أريدُ شبابي المكبَّلَ بلعناتِ الأسر والتّعذيب والمحق، أريدُ زيتوني المعمِّر، أريد برتقالي الحزينَ، أريدُ تاريخي المزوَّر، أريد ثأرَ الأجيال الشّهيدة، أريد بُراقِي وأقصايَ وقيامتي، أريدُ غيومَ الجليل وشواطئَ غزّة وعذوبةَ طبريّا، أريد ميناءَ عروس البحر يافا، أريدُ أزقّةَ القدس القديمة... باختصار أريدُ وطني المسروقَ منّي في وضَحِ النّهار بقوّةِ الحديد والنّار.
تململ الضّميرُ في أريكته الوثيرة، نفضَ رمادَ سيجاره، أخذَ رشفةً مِن القهوة الباردة، تلفّت يمينا ويسارا كالباحث عن المدَد. ثمّ قال باستعلاءٍ متأمْرِك:
– على رسْلك، يا هذا! لقد صدّعتَ رأسي، وأفسدتَ مزاجي، وضيّعتَ وقتي الثّمين هدرا. ما دخلي أنا في ما تريد؟ لِـمَ تحمّلني وِزرا لا أُطيقه وذَنبا ليس ذنبي؟ ألم ترَ كمْ أنا مشغولٌ صباحَ مساءَ بردِّ الحقوق إلى أصحابها؟ إذنْ، لو رأيتُ لك حقّا يُذكَر لكنتُ أعدتُه إليك صاغرا رغم أنف المعتدِين.
اِرتسمتْ على محيّا الحقِّ الفلسطينيّ ابتسامةٌ مبهَمة ملثَّمة ماكرة قبل أن يقول:
– أمّا الوِزرُ فهو أثقلُ مِن جِرْمِك المتهافت. وأمّا الذّنبُ فهو أعظمُ مِن وُسْعِك الضّيّق. وأمّا الحقُّ فقد تأبّط شرّا وارتحل عن ديارك بلا رِجعةٍ.
قال ما قال. ثمّ اختفى فجأةً كالأشباح. تَردّد في المكان صدى كلماته مدوِّيا يكاد يصُمّ الآذان. بيد أنّ ذلك لم يصرفِ الضّميرَ العالميّ المتثائب عن أن ينفُثَ سُحبا مِن الدّخان وهو يتنفّس الصّعداءَ حامدا اللهَ على نِعَمِ العمَى والصّمَم والبُكم.