د فاروق مواسى فى حوارات كانت معه
أهدانا الصديق الدكتور فاروق مواسى كتابه "حوارات كانت معى" ومجلدين يحتويان "الأعمال الشعرية الكاملة" الذى صدر هذا العام 2005 - لم يذكر عليه تاريخ صدوره لسبب أجهله، وأظن أنه كان على دار النشر (كل شىء) إثبات تاريخ هذا الإصدار-.
لفتت نظرى هذه الحوارات لما فيها من شمولية فى رصد الحركة الأدبية فى البلاد وتطور أدب الدكتور فاروق خلال السنوات وتنوع إنتاجه بزخم كبير، إذ هو يراوح بين الشعر والمقالة والقصة وحتى الرواية، مع أنه لم ينشر أيًا من رواياته كما ورد فى الحوارات.
وهو يعتبر هذه الحوارات جزءًا من سيرته الذاتية، ذلك أنها تغطى مساحة إنتاج كبيرة تمتد إلى سنوات عديدة يلخص فيها تجاربه الحياتية والذاتية، ويستعرض آراءه فى كل إنتاج لمجموعة كبيرة من الشعراء والكتاب.. فهذه هى وظيفة الأدب، أن يكشف الأديب عن كل ما ذكرت.
وإذا ذكرنا أن اسم الكتاب "حوارات.." فهو فى الواقع عبارة عن مجموعة مقابلات حاوره فيها بعض الأدباء والصحافيين، وقد نشرت هذه الحوارات على مدى عدة سنوات وفى صحف مختلفة محليًا- أى فى إسرائيل وفى العالم العربى الواسع. من هذه الحوارات نأخذ أحدها الذى يتحدث عن طقوس الكتابة وعن تعريف الكتابة، ولماذا يكتب؟
يقول الدكتور مواسى فى (صفحة 7):
"إن الكتابة ليست ترفًا لدى، والصدق يستلزم أن أكون إياى.. فالشعر لدى فيضان تلقائى.. ومع ذلك فأنا لا اعتبر كلماتى كمالا مطلقًا."
ويضيف فى الصفحات التالية أنه إذا كان لكل شاعر شيطانًا يوحى له بشعره، فإنه يشذ عن كل الشعراء، حيث يعترف أن له جنيّة توحى له بشعره، وعندما تتراءى أمام مخيلته يتبعها بلباسها المغرى الشفاف.. بحيث توشك الصورة أن تكون جنسية حيث يقول:
"انحنت لى قليلا
فبدا تكوّر نهديها
فرمقت الزغب الأبيض
فى شهوة
ومضينا فى الكلام..
وفى القصيدة" ص 8))
فى لقائه بأيمن اللبدى المحرر الأدبى لصحيفة الحقائق اللندنية يجيب على السؤال: لماذا يكتب بقوله:
"أكتب لأننى مضطر أن أقدم الثمرات، وكأننى شجرة.. قد تكون عذبة شهية، وقد لا تكون، ولكنى أحس أن هناك من يسعد بها.. أعيد تركيب الأشياء والعناصر كطفل، وأتجشم مسؤوليتها كرجل، وأنقد طبيعتها كشيخ.. أكتب حتى لا أموت"!..
ويتابع مواسى:
"لا بد إلا أن أجد نفسى فى النص – إى نص وفى أى نوع أدبى، حيث يكون النص مسكونًا فى ذاتى، وذاتى مسكونة فى النص أولا أو قبلاً، وذلك من خلال نسيج لُحمته الصدق.. المهم أن لا انطق عن ثرثرة، بل فى هوى أستحبه، وأدعو لأن يحبه سواى، ويسعدنى أن أجد لى رفقة درب". (ص – 19)
أين يقف أدبنا المحلى اليوم؟
هذا السؤال يتكرر فى أكثر من مقابلة، وهو أى أستاذنا مواسى يؤكد فى أكثر من مكان أن الإنتاج الأدبى المحلى منحسر فى هذه الأيام، والحالة أشبه بخواء أدبى - اللهم بعض الكتابات هنا وهناك هى ومضات لا تدل على اتجاه، ولكن من جهة أخرى هناك مشاركات لأدبائنا، وكتابنا فى المدارس والمؤسسات التعليمية يساهمون فى التعبير عن قضايانا وإنسانيتنا! وفوق ذلك يعتقد أن جمهور قراء العربية محدود وقليل، وأنه ليس لدينا حركة أدبية، وفوق ذلك فإن صحافتنا فيها أثره، ولا تبحث عن اللب وتهتم بالقشور، ولذلك فإن الانحسار اليوم هو بادٍ نثرًا وشعرًا! وإذا كان لدينا نقد فإنه قليل ولا يرقى إلى المستويات المطلوبة فى الدراسات اللغوية والأدبية. فالنقد عامل بناء جدًا، لأنه يطور الذائقة الأدبية لدى جمهور القراء.
يعترض الدكتور مواسى على بعض الكتاب الذين نصّبوا أنفسهم قيّمين على الأدب وعلى النقد الأدبى، ويطالبهم بشيء من التواضع، وذلك لأن الناقد إذا ما انطلق من منطلق العطاء وتقدير صاحب النص وكان نزيهًا وموضوعيًا فهو إنما يخدم القضية الأدبية خدمة كبيرة، وكل أدب فى أية لغة وفى أى بلد لا يرقى بدون مثل هذا النقد، إذا ما توافر النقاد الذين يتعهدون المبدعين من الشباب حتى يشتد عودهم ويتحولوا إلى أدباء كبار بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان.
لماذا انحسر الإنتاج الأدبى؟
يجيب الدكتور مواسى على هذا السؤال فى الحوار الذى أجراه معه مؤيد أبو صبيح لمجلة "بلسم" عام 2003 (ص – 29) بقوله:
1 - لأن الأدباء القدامى لا تكاد أذهانهم تتفتق عن إبداع جديد ومؤثر.. وهناك أدباء حداثيون يطهون أنفسهم فى حساء الذات! كذلك المسرح والنقد والرواية إذا وجدت فهى غير جدية.
2 – لأن صحافتنا تملأ صفحاتها بالكلام الهش.. وتتابع محمود درويش أو سميح القاسم فقط.. ولا جديد تحت الشمس.
3 - أما المجلات فمصابة بالأنيميا!
4 - بسبب تردى مكانة الكتاب المحلى حيث يقرأه القليلون.
5 - لأن الكتابة مجانية لا بل مخسّرة.. وكل أديب مبدع لا بد إلا أن يحتاج للمال (ص – 60) فى حياته، وإذا ما عمل طغى عمله على إبداعه فضعف أو انحسر إنتاجه.
الجنى فى الشعر والجنى فى النثر:
لشاعرنا كتابان تدريسيان للطلاب هما: "الجنى فى الشعر" و "الجنى فى النثر".. وقد وضعهما المؤلف حسب رؤيته لعدة أسباب منها:
1 - بسبب ندرة المواد التى تعالج قصائد الشعر الحديث، لأنها وإن وجدت فهى ليست مطروحة بشكل منهجى.
2 - لأن كتاب المختار الذى يستعمله الطلاب، ليس فيه شروح، الأمر الذى يجعل الطالب مضطرًا لنسخ ما يمليه المعلم ، فيضيع بذلك جو النقاش المثمر.
3 - هناك بعض المعلمين لا يتذوقون الشعر الحديث.. وهم متعصبون للشعر العمودى الكلاسيكى ويستخفون بشعر الحداثة.
4 - اتبع الكاتب منهجًا خاصًا يقدم بموجبه القطعة الأدبية، فيسهل للطالب فهمها وتحليلها ويسلحه بالتالى بأدوات البحث والتحليل والمقارنة وهذه أدوات ضرورية لفهم القصيدة أو المقالة أو الرواية فهمًا عميقًا. (ص – 9)
من أجل ذلك كله اتخذ الدكتور مواسى منهجه الخاص الذى يتلخص فى النقاط التالية:
1 - يتناول أولا مضمون القصيدة أو المقالة أو القصة أو الرواية بحيث يضمن معرفة الطالب لما يدرس.
2 - يتناول شكل القطعة الأدبية من الناحية الفنية وحتى توظيف الألفاظ.
3 - التحقق من الإشارات الثقافية التى تتعلق بالقطعة الأدبية والتى تستوحى القطعة منها مضامينها وجمالاتها.
4 - وضع بعض الأسئلة التى تثيرها قراءة القطعة الأدبية والتى تضمن عند إجابتها مدى فهم الطالب لما قرأ ومدى استيعابها لجماليات القطعة.
5 - ذكر ترجمة قصيرة لحياة كل كاتب أو أديب، وذلك لأنه اهتم بأدب ذلك الكاتب لا بتاريخ الأدب.
من هنا فإن الطالب الدارس ثانويًا كان أم جامعيًا يجد فى هذين الكتابين معينًا لا ينضب من البحث والدراسة، بحيث يساعده فى فهم القطع الأدبية الأخرى، لأن الكاتب وفر له النموذج الذى لم يبق عليه إلا أن ينسج على منواله.
وفرق ذلك كله أضاف الدكتور مواسى مجموعة من المصطلحات الأدبية التى لا يمكن لطالب الأدب الاستغناء عنها، وبذلك وفر على المعلم وعلى الطالب جهودا كبيرة كان من الممكن أن تضيع فى معرض البحث عن تعريفها.
ثقافة التذويب:
فى مقابلة أجرتها معه صحيفة "الوطن" السعودية فى 10 شباط من عام 2004 أجاب الدكتور مواسى على سؤال عن دور القوى الديمقراطية اليهودية واليسار الإسرائيلى فى دعم القضية العربية فى إسرائيل ومحاولات السلطة تذويب النسيج الاجتماعى العربى فى المجتمع الإسرائيلى اليهودى.
يقول الدكتور مواسى ما مفاده (باختصار عن ص – 133) إن العربى فى إسرائيل هو فلسطينى أولاً وقبل كل شيء، وهو مواطن إسرائيلى ثانيًا.
ومع ذلك فهو فرع من فروع شجرة الأدب والإبداع الفلسطينى، يتلاحم مع القضية، يمس بها بعمق ويصارع من أجل وجوده دائمًا حتى خلال تعايشه مع الشعب الآخر، هذا الصراع ينعكس يوميًا فى كتابة الفلسطينى الذى يحاول أن تكون كتابته إنسانية على الرغم من أنه يعيش مع الإنسان الآخر الذى احتل بلده، وأخذ بيته، وقضى على استقلاله، وحول قسم من إخوته إلى لاجئين فى الخارج وحرمهم حتى الآن من حق العودة.
وبالمقابل، فإنه ينقد الفئات اليسارية والتقدمية التى تقف موقف المتخاذل فى الدفاع عن الحق الفلسطينى فى العيش بمساواة.
أما محاولات تذويب الإنسان الفلسطينى فكانت كثيرة ولا تزال، وهى تأخذ أشكالاً عديدة – منها ما كان من إجبار الفلسطينى على تعلم اللغة العبرية لدى قيام الدولة، ومحاولة فرض الخدمة الإلزامية فى الجيش على بعض الفئات كالدروز مثلا، ومحاولة فرض الخدمة المدنية على كافة المواطنين العرب.
كل هذه المحاولات، لم تذوب الإنسان العربى، وذلك لأن الأمة العربية ظلت قائمة فى الإعلام من جهة، ولأن الدور القيادى الذى لعبه جمال عبد الناصر وخطاباته النارية - حيث الناس هنا يتركون أشغالهم لسماعها والتأثر بها- الأمر الذى أعاد للنفوس شيئًا من الثقة. هذا إلى جانب المد الثورى الذى اجتاح العالم العربى المحيط كثورة العراق عام 1958، وهبة الأردن ضد حلف بغداد عام 1956 واستقلال العراق 1932 واستقلال الجزائر عام 4-1963 واستقلال باقى الدول العربية، كل ذلك ترك أثره فى نفوس " عرب إسرائيل " فجعلهم يتمسكون بعروبتهم، وباءت كل محاولات التذويب والتهديد بالفشل.
ويعتقد الدكتور مواسى أن التعايش بين الشعوب لا بد منه، ولكنه يطالب بطرحين اثنين هما:
1- أن تكون لأبناء شعبنا دولة فلسطينية.
2- أن ينعم أبناء فلسطين فى الداخل أو فى إسرائيل بالمساواة الحقة فى كامل الحقوق.
اللقاءات الثقافية اليهودية العربية:
يشارك الدكتور مواسى فى معظم اللقاءات بين المثقفين العرب والمثقفين من اليسار اليهود، وهو بدوره كنائب لرئيس اتحاد الكتاب فى إسرائيل له مكانته وكلمته فى هذه اللقاءات.
فاللقاء حسب اعتقاده يوسع الآفاق ويعرفنا بالإنسان الآخر، ويعرفنا بهمومه ومخاوفه ومطامحه، ويعلمنا طرق أدائه نثرًا وشعرًا.. ويخدمنا كعرب، لأنه إذا كان أديبًا إيجابيًا تقدميًا فإنه حتما سوف يقدم لنا خدمة فى سبيل مساواتنا مع الإنسان اليهودى، وفى سبيل الاعتراف بحقوق شعبنا حتى يتصدى و يتضامن معنا فى نضالنا من أجل المساواة. (ص 150)
إن حضور نتان زاخ و أ. ب. يهوشوع وعاموس كينان- مثلاً إلى سخنين وإلى الناصرة يؤدى خدمة لصورة اليهودى أولاً، حتى يخفف من وقع أحداث أكتوبر عام 2000 التى استشهد فيه ثلاثة عشر عربيًا بدم بارد. ثم إن تبادل الإنتاج والاطلاع على ما يكتبه الإنسان اليهودى يزيدنا معرفة ووعيًا. ونحن كمواطنين عرب نعيش فى دولة أكثرية سكانها من اليهود لا بد لنا من الاطلاع على ثقافة وحضارة هذه الأكثرية.. إلى أن تجد القضية حلاً عادلاً لها.
وفى هذا المجال للدكتور فاروق رسالة حضارية يطمح من خلالها إلى تحقيق حياة يكون فيها "سادنًا فى محراب هذه اللغة، وأمينًا على قيادة الدفة - إذا أتيحت لى نحو الحق والخير والجمال والحب. أكتب حتى يكون للحياة (لحياتى) معنى حتى تطيب الكلمة ويرقى الفكر. (من مقابلة عبد الله السمطى الشاعر المصرى فى الفينيق (بعمان 30/9/1996).
مدرسة فاروق مواسى:
يعتقد بعض الدارسين أن للدكتور فاروق مواسى مدرسة أدبية خاصة به. وعندما سألناه هذا السؤال أجاب بحياء:
"ليست لى مدرسة بالتحديد، فانا إنسان متواضع.. ولا أريد أن احمل إبداعى على محمل أنه مدرسة خاصة. لدى نهج أتبعه فى كل ما أكتب - خاصة فى النقد الأدبى"، ومع ذلك فهو لا يريد فلسفة نظريته فى هذا النقد، لأن رؤيته الأدبية ومنهجه الأدبى هو النهج الوسطى (ص – 1689) أى يأخذ من الأكاديمية الدقة فى الاستشهاد وتطور التحليل، ومن الذوقية ما شاءت له ذائقته – الأمر الذى يتلاقى ولا يتنافى مع مناهج التلقى الحديثة.
وفى كتابه "الجنى فى الشعر"، أقام معيارًا أوليًا فى دراسة القصائد للطلبة خاصة، ولعله القالب الذى يخلع عليه ما يشاء، ولكنه يستعرض القصيدة، فيبحث عن الجمال فيها، والوسائل الفنية، وتوظيف الألفاظ والإشارات الثقافية إلى جانب ترجمة أو سيرة حياة الكاتب مختصرة.
وإذا قلنا بعد كل هذا إن الدكتور فاروق مواسى يستحق لقب كشاجم - كما سماه الشاعر المرحوم عصام عباسى - فما ذلك إلا لأنه يحتوى على كثير من علوم عصره، ووعيًا فاق وعى الكثيرين من أمثاله.
بصيص من النور:
من يقرأ هذه السيرة للدكتور فاروق مواسى ولإنتاج أدبائنا العرب فى إسرائيل، ويطالع الصحف والمجلات اليومية والأسبوعية والشهرية سيلاحظ حتمًا أننا إزاء نهضة أدبية، قد تصل أوجها خلال السنوات القادمة.
فالقارئ المتبحر يجد فى السوق الأدبية اليوم عددًا من الكتب، خاصة فى معارض الكتب التى تعرض بين الفينة والفينة، وتصدر عن مطابع بلادنا عشرات الكتب فى كل عام، ولذلك ولأجل تنوع الإنتاج وارتفاع مستوى بعض الكتاب فإن ذلك يبشر بخير كثير فى المستقبل الواعد.
يقى أن نذكر أن مثل هذه النهضة التى نطالب بها، هى ضرورة قصوى للنهوض بأدبنا المحلى، كى يلحق بركب الحضارات والثقافات الغربية. ومن هنا أيضًا لا يسيطر اليأس على الدكتور مواسى، لأنه ليس يائسًا من مثل هذا التطور الآخذ بالصعود. فإذا ما قام نقاد الأدب فى بلادنا بتبنى هذه الأقلام الناشئة وتعهدها حتى يصلب عودها فإنها ستعود بالخير العميم على تأثيث بمكتباتنا بكل ما هو مفيد لجمهور القراء العرب على قلته.
رسالة الدكتور مواسى:
كل إنسان عامل فى المجتمع - أى مجتمع له رسالة يفكر فيها وفى تأديتها على أحسن وجه، وهو إذ يؤمن بالكلمة وأهمية الكلمة.. وبالإيحاء الذى يرمز إليه الشعراء إنما يطالب بأن يعيش الناس فى تعاون واشتراكية ومساواة طبقية لا مستغل ولا مستغل!
أخيرًا تحياتنا إلى الصديق العزيز فاروق مواسى..مع أطيب تمنياتنا له بدوام العطاء وليظل نبراسًا للحق والكلمة الحلوة.
كفر ياسيف