ذبحة السّامورا فى "أرض الصفر" The ground zero
أنت فى ورطة
أنت فى ورطة بعد أن جرّدت من أسلحتك وأجبرت على رمى ما تمترست به من مناهج نقدية وأدوات إجرائية ونظريات للتلقى من نوافذ الصدمة إلى بحر الظلمات وعدت فقيرا عاريا, آدم تطاردك الخطيئة فى "أرض الصفر" وأنت صفر اليدين مشنوقا على بوابتها القصيدة من الأذنين.
عدت إلى رجفة الخطوة الأولى تتعلّم المشى بالعينين على أرض شعرية متحرّكة تأمل أن يسندك أحد, لا يهم الغول أو العنقاء أو ذو القرنين.
مسكين أنت أيها القارئ الوحيد فى عراء الكلمات ترجمك خطايا الشاعر الكافر بعمود القصيدة وبالفواتح والمخارج وبالعلل وبالزحاف وبالخليل المخلل فى الدواة.
مسكين أيها القارئ القديم المعفّر برماد الأثافى حين يلسعك وأنت تحت اللحاف الاختلاف.
كيف السياحة فى أرض الخراب؟
كيف السباحة فى الدم المراق والدمع الحريق؟
و تصرخ ب "حرارة الروح"
أين المسالك؟ أين الثنايا؟ أين الطريق؟
ما هذه الهدية الملعونة أيها الفاطمى؟ امرأة فى ملعقة من علقم ترقص على أنغام خطيئتها, حرّة وتأكل من نهديها. ما ضرّ الحرة إن أكلت من نهديها. ها هى القصيدة تأكل ناظمها وناشرها وقارئها, وتفجر مع والدها وتشهّر بعجزه على الملأ: لم يشبع حاجتى يا سادة
ما ضرّ اليوسف الواقف على أرضه لو هتك المهتوك وتعرّض لعرض القصيدة وخلخل عمودها واستباح عروضها المتفسّخ على أرصفة المتشعرنين منذ سنين؟
ما ضرّ اليوسف لو خرج من البئر القديم ووقف أمام إخوته الكبار وقال:
ما أكتبه
ليس الشعر الموزون أو الشعر المنثور
وما هو بالإعجاز
(فقد ولى زمن الشعراء المنتفخين بأنفسهم – زعماء النظم الزائف والزلفى-)
ما أكتبه بالفحم
هنا والآن –
محاولة للحلم
وللتحريض عليه
وفلسفة للثأر من امرأة..
ولدت هذا الأسطول الهائل
.. من حمقى العالم
وانتظرتهم – و هى على قلق –
حتى أثموا!..
نعم التذلّل أيها الناقد المصلوب على أخشاب الحداثة, على يمينك ابن رشيق على شمالك الجرجانى وتحت أقدامك كل التابعين بلا رؤوس مقطوعة أذنابهم بذنوبهم وكل ذنوبهم الاطمئنان المبالغ والتباكى فى زمن التشظى والتشاطى.
هذه الأرض الصفر تعلن أننا ظللنا قرونا من القول الشعرى واقفين فى الصفر الذى خلقنا نعد الأثافى ونقطع أوصال العبارة على مزاج الخليل ونصنع لأنفسنا العلل ونزحف على الزحافات ولما انهارت بروجهم لم يجدوا بالصفر غيرنا أحفاده فسووا بنا أرضهم ووارونا الخراب. فكيف السكوت على الأمس الكذوب؟ كيف السكوت بعد أن داسنا البقر بقر الحروب؟ ما جدوى السيوف والدروع والرماح والمجاز وغزل الحجاز فى عصر تأكلنا فيه الصورة ونحن نتسكع بين المواقع؟ وماجدوى عزلتنا وما جدوى الأبواب فى عصر الواب؟ وأى قصيدة اليوم نكتب؟ أى قصيدة نكذب أيها الشاعر؟
استدار اليوسف قائلا:
أما القصيدة
– وهى تستدعى عموم معارضيها من أساتذة المجاز وما إليه –
فقد رأت أن تجلد "الأدب القديم" أمامهم..
دعت الحطيئة, عروة بن الورد, بشار بن برد, الشنفرى,
والآخرين..
أن يتركوا كل السيوف, هناك, فى الصحراء
وليضعوا الحروف. مكانها
لتقول بالدفق زمانها
شرط التقيد بالشروط
ومن أهم شروطها:
عدم الهروب الى الوراء
إلى تقمص نخوة البطل العظيم ونحوه
عدم التحصن بالتشابيه البليغة
أو بما يدعو إلى سحق العدو ومحوه
عدم التشدق بانتصارات الحدود
و/أو بأندلس تعود ولن تعود..
قف! استعد. انّك انحرفت. لقد استوليت على بردة الشاعر, هيّا عد إلى انضباطك وتأبط سوء نيتك واهجم ناقدا ناقما. هكذا صرخ بى شيطان النقد القديم وهو يعدّل خانقة العنق الطويل.
أجبت: كيف أستجير بتربة الصحائف الصفراء فى حضرة قصيدة بالألوان الرقمية؟ اغرب عن سمائى أيها الرجل القديم واحمل ما نثرت من أرضة ثقلت بطونها بالكلام العتيق هذه أرض الصفر بكر قصيدة حبلى بالحرام، اركض قد يراك شيوخك فيجلدنوك حتى تستقيم، نحن فى حضرة الخطايا دعنا وعد إلى ميثاق العمود وتنعم باكتشاف الزحاف وتقصى العلل هذه أرض غريبة قد تتوه يا عزيزى بين زرّ وزرّ. عد يا عزيزى إلى عصر قديم يعقل الكلمات فى المخازن والزوايا وينادى بإقامة شرع الله فى الخارجين عن الطريق. هذه الأرض يا صغيرى بلا طريق. هذه أرض الخارجين عن الطريق.
فى "أرض الصفر" يتأرّض يوسف رزوقة –يتعرض- لأرض القصيدة وعرضها يرفض الاقامة فى جلباب أبيه والتأرض بأرضه فتنتفض بعقوقه العبارة كما لو كانت أصيبت بأرض –رعدة- لتكتب حمّى الاختلاف والتآمر على تاريخ الأمر المطاع والدرس الشعرى القديم, فقد مل التلميذ المسنّ دوره وحان زمن التنكّر والتفكّر والمبيت خارج البيت العتيق. حان الوقت للاستقالة من تمثيل دور العبد المطيع للنحوى القديم وللشاعر القديم وللمنظر القديم ولبناء القصيد القديم. حان الوقت لكسر جرار النبيذ القديم ونموذج الحب القديم وتقاطيع الحسن القديم.
لم يعد الشاعر ذلك الواقف الباكى أمام بقايا البعر وسود الأثافى وأطلال خيمة كانت تسكنها الحبيبة الراحلة مع نجعها. لم يعد الشاعر ذلك الفارس, الراكب, الشاهر, الرافع, الكاذب.. لم يعد ذلك الذى تعرفه السيوف والليل والأقلام. لم يعد الشاعر ذلك المكبّل فى أغلال الخليل أو ذلك المنفى الحزين, الحالم بالوطن البعيد المستحيل. لم يعد ذلك العاشق الشاكى من عين العذول, لم يعد ذلك المنبرى القديم الذى يلوك أسماء الملوك والدول التى تدول ولا يدول.
الشاعر فى أرض الصفر كائن متجبر, متمرد يواجه الدنيا من خلال حاسوبه بصدر مفتوح لبلايين النبال. يرقص على ملايين الحبال دون تشدّق بقضايا والتزام. يرتحل فى رمشة عين عبر العالم ويلج القصيدة متوعدا قارئها وناقدها دون نسيب ودون وصف لرحلة أو راحلة فقد فات زمن البعير والسفر الطويل, هذا زمن الابحار فى المستحيل عبر شاشة المستطيل.
شاعر أرض الصفر, غير ذلك الأشعث المزطول الذى يلهب شلله بالكؤوس ويرتشف الغيبوبة تلو الغيبوبة. الشاعر فى هذه الأرض عالم بأسرار العالم, ترتعد لأصابعه الآلة فتأتيه بالصورة إلى فمه حتّى يؤرّخ للثانية المنسية وينحت من ذبذبة السيّال السابح فينا تمثال اللذّة. ويبنى بطوب الخيانة العظمى, خيانة عمود الشعر, برج قصيدته. ويهشّم بمطرقة اللام والألف جمجمة أبيه الرّاقد مثل الطاعون فى دم دواته والقلم.
هل تؤسس "أرض الصفر" للطور الشعرى الرابع بعد العمود والتفعيلة والنثر؟ أرض الصفر أرض رقمية أو قصيدة رقمية لن يفهمها حراس الخليل القدامى فلا تنفع معها جداول العروض وعمدة ابن رشيق, هى رشيقة دونه قصيدة مضادّة تبتلع كل التجارب وتنتصب نصبا لنص الغد الذى يحق له أن يجرى على ألسنة من ركبوا العفريت ومسحوا الدنيا وعادوا بكلمات ضوئية ترفل فى حرير الاشعاع, انجيل آخر لزمن آخر نبيه طفل مهموس بتمزيق تركة الأجداد والمقامرة بأرض ميتة, سوداء. وينادى العالم لأرض أخرى هناك.. ترقد فى عمق الفكرة.. هناك فى عمق الرؤيا..
هذه "أرض الصفر" أرضكم أنتم يا معشر "الآن" فادخلوها عرايا
من النوايا. وهذا اليوسف يرقّعها الخريطة بسيف السّاموراى المذبب ويدعوكم لكى تشربوا على نخبها من دم الذئب الشّهير وتحضروا مراسيم ذبح الاخوة والعشيرة أمام بوابتها الأرض الجديدة, الأرض الجديرة بالكتابة. أرض القصيدة, قصيدة الآن.