الخميس ٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم كمال الرياحي

وليد الزريبي يعاتب البنفسج

مروق الشاعر ودفع القيمة المضافة
الأغنية الحقيقية تولد
مثل النار من السلاح
فيرتد الرامي إلى الخلف
ليقتل من يصيبه في الحال

ارتدت إلى ذهني هذه المقطوعة الشعرية للشاعر باروير سيغال(1924-1971) وأنا أقرأ أغنية "ليه يا بنفسج"للشاعر التونسي وليد الزريبي الصادرة حديثا .

هذه الأغنية التي خرجت من قلب الشاعر مثل رصاصة قناص تائه ملّ اصطياد غيره فأصطاد نفسه .يبدو أن وليد الزريبي عبّأ بندقيته الشعرية جيدا هذه المرّة حتى تكون طلقته قاتلة لأي متلقّ تخوّل له نفسه أن يدير أغنيته.

مؤلمة هذه الأغنية التونسية جدا بكل ما تحمله من رصاص شعري حيّ.مؤلمة هذه الكتابة الجارحة بصدقها المرّ.هي هجاء ساخر للأدب التونسي السعيد الذي تحيكه أصابع شعراء الألفية الثالثة للنفاق.يُقال في العامية التونسية "تعدّد العدّاداتّ" وهن النائحات في المآتم يأتين بأجر ودونه أحيانا ليبكين غناء على الميت،لكن المستمع السمّيع يكتشف أن نحيبهن وبكائهن ينزاح في أحايين كثيرة نحو رثاء الذات.كذلك تجد الزريبي في أغنيته الجديدة يرثي الوطن والعالم والشعر والشعراء والذاكرة والنسيان لينحرف بحرفه إلى رثاء الذات التائهة في الاغتراب . يخرج عليك الشاعر منفوش الشَّعر والشِّعر مثل توماس كريتشمان في فيلم البيانيست وقد سقطت على رأسه حصون بولونيا الهشّة.

مثل طيّار سيء الحظ سقطت طائرته في الصحراء ومات كل ركابها ولم ينج سواه وبدل أن يبحث عن مخرج انشغل بتفحص الصندوق الأسود بحثا عن علل السقوط.تماما مثل هذا الطيار التعس يفرك الزريبي ذاكرته المثخنة بالأحلام الموؤودة والانكسارات والانهيارات والقرى المهشمة على سفوح جبال النسيان بعد أن اقتحم بابا غريبا لا يعرف سرّه غيره.

ثمة باب دائما مفتوح
باب لا مرئي
يكشقنا ولا نراه
باب فسيح
مشدود بالأظافر
مطلي بالوساوس
وساكت مثل الله (ص7)

تنطلق الأغنية مثل الجريمة السوداء في غسق الإحساس بالهزيمة لذلك يختار الشاعر الشتاء مناخا لأغنية ماطرة بالحزن.

"هذا الشتاء
يعلق الرعاة أعشاشهم على عشبة الأناشيد
فيما نايات زرقاء،من بلل الكون
تسيل من معاطف الشجر"(ص8)

بهذا المجاز وهذه الصورة الشعرية المستحدثة التي تجعل النايات تسيل بزرقتها مثل الجداول والدموع وتجعل للشجر المبتل معاطف،تتسلل الذات الشاعرة إلى نفسها المنفية في عمق العمق.حيث الصمت القديم الذي زرعه الشتاء الأبدي في النفوس والأمكنة المارقة.

هكذا تتفتح العدسة الشعرية فجأة على العالم محتشدا في قرية والفصول مزدحمة في الشتاء الطاغية .ومثل مخرج سينمائي مجنون يمسح الزريبي بترافلينغ سريع الأشياء والأمكنة والوجوه والنوايا. بحركة واحدة ودون تقطيع يحطّب الشاعر غابته المتوحشة.

ذلك الشتاء في الزريبة
رأيت العالم يبتعد في نفسه
رأيت أطفالا أشباحا يدميهم الضوء والموشّح
رأيت نايا مليئا بالثقوب يضع رأسه على كتفي أمه
رأيت دالية تندلق في فم الريح
وتتثائب الكؤوس
رأيت البدو يزرعون الماء في المناقير
والجرار بين فخذي الشمس،
رأيت الرجال، في قريتنا، يصعدون سلّم الزغاريد
... (ص9)

مثل منمنمة فارسية دقيقة صنعت لكسرى أنوشروان ينسج وليد الزريبي نصه الجديد واضعا له خلفية قاتمة لقرية(الزريبة) البائدة،قرية تصارع غموض الأكوارال تنفلت منها الهامات الصغيرة والنوايا والخطايا المستحيلة .خلفية،تستعير ألوانها وشخوصها من انفجار ذاكرة مجبولة على الصمت والتخفي في شوارع الأمس البعيد.

يتخلّص وليد الزريبي ككل شعراء ما بعد الحداثة من الرموز القديمة وتسوّل الأساطير من اريش فروم وآرثر كرتل ومن القواميس البليدة ليرفع أسطورته الخاصة جدا:شاعر مهزوم ،علّقه القدر البنفسجي على بوابات العولمة الساخرة يحمل بين كتفيه رأس وطن محايد ونرجسي يطلب كل الوقت مديحا ونفاقا وأغاني مثل صانعه "المجاهد" حتى تسير قافلته.وطن شبقي لا يشبع من بكارات حبيبات الشعراء.وطن معشوق دائما مهما تلوّن.

كتاب الزريبي كتاب مالح سينشّف ريق أبناء وبنات آوى من المحتمين بالمجاز والغموض .كتاب من أجل"دنيا" هكذا أهداه صاحبه مخاتلا الذات القارئة في إشارة بطعم الطعم إلى سيرته ،هدية للمتلصصين والبصّاصين.لكنه ليس سوى كتاب من أجل "الدنيا" وهجاء للآخرة المستحيلة.

نص الزريبي الأرضي واليومي والشوارعي نص مارق ومعربد وكافر بالنواميس والناموس الذليل لأنه يعرف أن:

"السماء كاملة إلى حد هذه الساعة
الأرض ناقصة منذ الأمس"(ص30)

يجتاز الشاعر التيمة تلو التيمة مثل مهاجر غير شرعي في مركب من قصب هارب في نهر جاف.بشق القلب يمرّ من ألم إلى ألم جديد.

أجتاز بساقين مضمومتين فكرة الريح بالاختزال
واقفا بين المنزلتين
ضدي- أنا-أنا-ضدي
أقرأ من الناحيتين الطبيعيتين للماوراء-وأرى"(ص32)

هكذا ينسكب التخييل الشعري في وضع الدجاجة المحمولة(الروتي) مثل التعذيب الشهير. يخط عبره الشاعر فكرته ،يخط الشاعر سيرته على حبل من مسد لا يعلم إن كان حبل نجاة أم حبل مشنقة ضاحكة تُعدّ في الزاوية التسعين .

مثل كرة الصلصال بين كفّي طفل شقي تتشكّل القصيدة في يد الزريبي تماثيل وقتية للأوطان والشعراء والعالم والنساء الساقطات في الجمال.وبسرية عارية يباغت الشاعر وطنه في عقر ألوانه ليكاشفه بحياده البارد .

"وطني أيها السر الكبير
ما هذه العقدة التي تسببتها لنا
لنتصرف في كل شيء كاللصوص وقطاع الطرق
وأن نحيا بسرية تامة.نكتب بسرية،نبكي بسرية
حتى أصابتنا عقدة السر الكبير
فهجرنا زوجاتنا وأدمنا العادات السرية"(ص38)

ككل العاشقين،ككل الخائنين الشرفاء،يتقاطر الاعتراف في قصيدة تردّد كل الوقت عبارة ممحوّة لشاعر ممحون "سأخون وطني" ...

يستعد الشاعر/ المغني للكلاب الجائعة والمتربصة عند الباب اللامرئي وعند الزوايا التي يخشاها العنكبوت .يستعد لحراس النوايا على حد عبارة الدونكشوت الجزائري فيباغتها بالنباح.ليسرق آخر حصونها.ماذا ستفعل الكلاب لو باغتناها بالنباح؟؟

"ها أنه ينبح عليهم نيابة عن كلب كافكا الوحيد..
تلك جراحي،وهذه يقظتي ممدودة في هيأة كلب
أرثُ كلبك والفكرة،فإذا ناح...نبحتُ" (ص39/40)

يخرج الشاعر من قصيدته للفراغ حيث تنتهي الأغنية جثة مدهوسة في الطريق "للفراغ ما يلي:

البحر ذئب يحرس ملح الغيب
الغرق مطر مجروح حتى الينابيع
الفراغ أغنية مدهوسة في الطريق"(ص46)

ولكن روح الأغنية سكنت كتابا مُميتا مثل كل الكتب المسمومة والملعونة والمسكونة بالأرواح خطّه صاحبه بالدم.دم هددنا به منذ مجموعاته الشعرية الأولى ليخدعنا ككل السفاحين الكبار فيريقه في أغنية تلوم البنفسج الذي أغرقه ويطلب منه كل الوقت دفع ضريبة القيمة المضافة .

البنفسج الذي حيّر بحزنه بيرم التونسي قبل أكثر من خمسين عاما هو نفسه البنفسج الذي سكن الفراش الشعري لوليد الزريبي ليحوّله إلى غريغور بطل المسخ لكافكا . حشرة حائرة تلوك غربتها مستمعة إلى صالح عبد الحي وظهره إلى ظهر السنباطي:

ليه يا بنفسج بتبهج
وأنت زهر حزين؟!
والعين تتابعك وطبعك
محتشم ورزين؟!
مروق الشاعر ودفع القيمة المضافة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى