رحل درويش وبقيت هي
كل عام يتكرر المشهد ..
بت أعتاد ( وخز) الغياب ..
(عبدالرحمن منيف)، (فؤاد التكرلي)، (د.عوني كرومي)، (د.محمد صديق)، (د.سامي صلاح)، (سعد أردش)، (د.أحمد الربعي) ...
منهم من أعرفه عن قرب، ومنهم من حاورته، تتلمذت على يديه، أو قرأت له .
لكن المعرفة لا تؤجل الرحيل ..هكذا تعلمت ..
يتعكر يومي، تتعطل أعمالي، وتستعد المناديل لالتقاط بقاياهم القابعة في مكان ما من روحي...متأهبة طي صفحة عصيّة، وما ان تجاوبت مع فكرة غيابهم، حتى لطمتني الصحف بخبر استثنائي عن رحيل (نجيب محفوظ)، (يوسف شاهين)، (عبدالوهاب المسيري)، و(محمود درويش)...ورغم أن ذائقتي لم تستمتع دائما بتلقي بعض نتاج هؤلاء، إلا أني أعي أثر منجزهم وأهميته في تشكيل الواقع الثقافي العربي والعالمي ... لكنهم مع ذلك هربوا للعالم الآخر، متنازلين عن حقهم في منحنا منجزا آخر .
فتعلمت أيضا أن المنجز - مهما عظم- لا يؤجل الرحيل!
رغم يقيني هذا، أظل أعتب عليهم هروبهم المفاجئ ، وأتساءل مالهم يتساقطون واحدا تلو الآخر ... ؟ ولمن قرروا ترك منجزهم .. كتبهم ، مقالاتهم ، أشياءهم الصغيرة ..ونحن !
مستسلمة لـ ( لماذا) مزعجة تلح باستمرار ...
لماذا لا تموت الأبواق الصدئة ؟ لم أسمع عن مطرب رحل عنا منذ سنوات ، إلا نتيجة جرائم متعمدة ...هل المطربون مهمون إلى هذه الدرجة لتحتفظ بهم الحياة ؟ في حين يتساقط المفكرون (روائيون، شعراء، نقاد، باحثون، مسرحيون) يرحلون بسرعة وبلا انذار، ويظل البوق يعج بازعاجه، مقتاتـًا على جمهور يؤمن أن النجومية لا تعترف إلا بوجه (منحوت) !
لماذا يموت كل عشاق المسرح الذين حضروا عرضا متواضعًا في بني سويف ؟ ويحترق حتى التفحم نقاد المسرح ومعلميه (د. محسن مصيلحي)، (حازم شحاته)، (د.مدحت أبو بكر)، لتختلط الجثث المتفحمة، وتتكدس المظاهرات التي تفرقها السلطة، في حين لا يموت أحد رواد حفلات الأبواق !
لماذا يرحل شاعر استثنائي مثل (محمود درويش) وتبقى راقصة (هايفة) شبه عارية تستثني الطرب من أدائها ؟
لماذا يرحل (فؤاد التكرلي) عن تونس التي عشقها مع رفيقة دربه (رشيدة) ؟ مجاورا دار المدى لتأمين حياة كريمة لطفله عبدالرحمن ، ويموت هناك بعيدًا عن (عِراقِهِ) الذي قضى فيه جل طفولته ومراهقته وشبابه، و(تونسه) التي قضى فيها أجمل مراحل نضجه .. في حين يعتلي مدعو الثقافة مناصب عليا بمعية عيون استخباراتية تجيد تملق السلطة .
لماذا يتحول المكان إلى أرض للسواد ، ولا يمشي في جنازة (عبدالرحمن منيف) سوى قلائل من الشرفاء ؟ في حين يتكدس أشباه البشر لوداع جثمان مسؤول لا ذاكرة له ؟
لمذا تتدثر بقايا (عوني كرومي) بتراب ألماني بارد .. ويتبخر حلمه الجميل بفضل صقيع الغربة ؟ في حين تحظى بقايا نجوم الاستهلاك الفني بعزاء ملكي خاص .
ولماذا.. تعلمت أنا حب (منيف)، (التكرلي)، و(كرومي) .. ليتهاوى في داخلي شيء جميل ساعة رحيلهم ؟ ولم أتعلم عشق الجانب المقابل المكدس بألوان لا تفارق وجوها وأجسادًا بلا روح .
اليوم تسكنني الـ (لماذا ؟) ... بسبب أحبة خذلوني برحيلهم .. فهل أنقل عشقهم لأطفالي الذين لا يعون من هاجسي شيئا بعد ، أم أتركهم لجيل يرسم خطاهم ويضمن لهم عشق من لا تطاله الـ ( لماذا ؟)؟!! .
[1]