رسوم على سنابل القمح
يأكل عيني القذى.. تتبرعم فوق رموشي الاف الزواحف .. وفوق تضاريس جسمي كتل الاوساخ كأنها الوشم تسير مطواعة مع العرق من قمة الشعر الى اخمص القدمين.. في الليل يلتصق الثوب بجسمي فاحلم بالماء المتفجر من عين الجبل.. وعند الصبح ابصق في راحتي واسوى قذى العين ثم احمل مخلاة الخبز وارتشف صقيع الصبح متجها نحو الحقول.
عبر الخط الفاصل بين القمح والقمح.. طريق تنبت ما بين جنبيها الاشواك.. اسير خلف امي وقد داعبني النعاس فلا اصحو الا من كبوة او وخزه.. يرتطم وجهي بالشوك فاسمع صرختها ممزوجة بالدعاء ان يغضب الله علي فلا انال منه غير النفي والتشريد..
(الان حيث اجلس بعيدا الاف الاميال اعلم ان الله قد استجاب الدعاء) وكنا يومئذ في بدء النزوح الذي امتد حتى نهاية العالم لا نجد ما نأكله الا بنكث الارض والبحث عما يخلفه الفلاح ايام الحصاد.
حتى الساعة لا اعرف سر اختياري دون اخوتي.. لكني سمعتها يوما تقول ان مرآه يوحي بالمذلة والفقر.. وتجلب نظرته شفقة كل الناس حتى نواطير الحقول..
خلف سرواي رقعتان كأنهما نظارات شمسية كبيرة داكنتان تقبعان خلف الالية يحملها السروال الذي لا لون له الى كشافات تجلب الانظار.. في البدء كنت انتعل حذاء لا نعل له يخفي قروح اصابعي.. لكن الايام اشفقت على الحذاء فاصبح ينتعل القدمين كي يخفي سوءاته
مخلاة الخبز تتدلى على جنبي الايمن كمسدس خال من الذخيرة . اما القذى.. آه من القذى.. الذباب يجد دوما ما ياكله فيميس متراقصا عبر رموشي ليبيض ويفرخ دون رقيب.
ارقب اكواز الليف المنثورة فوق سطوح العرائش. يبيض الذباب عليها فتختفي الخضرة الداكنة للتحول الى لون يشبه القطران.. وتحتها يتمطى ابي ينظر نحو السماءكأنه يستشرف اسرار الغيب.. وفي الليل تتماوج عيناه ليتسلى بعد النجوم في وقت تكون فيه امي تعد الملاليم والقروش التي تدفقت عليها ثمنا لاكواز الذرة التي كانت تبيعها على قارعة الطريق – لا تني اليوم تذكرني باكواز الذرة وفوائدها كلما ارسلت لها مبلغا يساعدها على مجابهة الشيخوخة,.
سرنا سويا يرتطم رأسي بصقيع الليل ..فيتناثر القذى فوق راحتي كحبات قمح مجروشه.. كلما جلست قليلا لانتزا ع شوكة من قدمي غضبت وحثتني على المشي كي نصل الى الموارس قبل تدفق الشحاذين – هكذا كانت تسمي الذين يلتقطون الحب خلف الحصادين – تعلل نفسها انها كانت ابنة عز.. وابناء العز يعملون عندما يجور الزمان ولا يشحذون..
لعلعت عيناي (عرانيس) الذرة ثابتة على اعوادها.. وقفزت الى معدتي عصارة شواء الكوز حيث يصبح بني اللون كأنما هو نهد هارب من صاحبته.
حثتني على الاسراع فتباطأت خطواتي قسرا.. اشعرتها اني احث الخطو لكن لعن الله الاشواك والحصى.. اصبحت المسافة بيني وبينها تمكنني من الوثوب على اقرب كوز من الذرة دون ان تراني – كانت السرقة عند امي مرادفة للخيانة –
نظرت الى كوز ناضج.. حاولت اقتلاعه لكن جذوره كانت خضراء فاحدث القلع خشيشا مزعجا.. مزق الصمت في هداة الفجر. تملكتني رغبة جارفة الا ادعه.. حاولت بكل قوتي فلم افلح.. صرخت باعلى صوتها اين انت.. اجبتها بانني اقتلع شوكة من اخمص قدمي فدعت على رجلي بالكسر.. تملكتني رعشة رعناء عندما قبضت يد قوية على معصمي.. هالني شاربه فانتفضت رعبا.. صفعني فاحسست الشرر قد تقافز من عيني الى فضاء الحقل.. صرخت بملء فمي.. اسرعت تستطلع الخبر فتلقاها بصفعة قوية على وجهها (يا لصوص تسرقون حتى بوجود نواطير الحقول)
لم تفه بكلمة.. جرتني من يدي وجلست الى قارعة الطريق.. ويومها رأيت دموعها تنحدر من عينيها كحبات كرز فجه.. احسست ان كل غضب العالم سوف يأكل رأسي.. لكنها ربتت على كتفي بتحنان وقالت (يا ولدي يا يمه .. عندما ارجع سوف اشتري لك كوزا مشويا) وعدنا ذلك اليوم دون حصاد.
في قديم الزمان كانت هنالك ملكة.. غزا ارضها ملك اقوى واخضعها لسلطانه.. حاول ان يتزوجها بالقوة.. اظهرت الرضى ثم تلفعت بالريح وانسربت عبر ظلام الليل وعملت حطابة كي تأكل.. ثم لما تناقص الحطب دارت خلف الحصادين تجمع ما اخطأه المنجل.. لكنها عادت بعد لاي لتعيد سلطانها بعد ان ذاقت من صنوف ذل العيش ما لم يسجله الرواه.
– انت يا صاحب الصوت الشجي – كنت اغني للفلاحين لقاء حزمة سنابل او كوز من الذرة – دع عنك الكسل فموسم الحصاد قد ولى ولك في بيع الخبز طريقا تأكل منه اللوز والسكر.
عند الصبح كنت احمل كاحلي ادقهما في الصقيع واقطع المسارب المفضية الى فرن (النابلسي) وهناك اتعرف على عتبات الدور التي ترفض فيها المرأة ان تظهر وجهها للشمس – او هكذا كانوا يقولون
في البدء كان رنين القرش يأخذني الى المطعم .. اضع في يد صاحبه حصيلة يومي لقاء عشاء بسيط.. لكن ابي ادرك ان معدتي سوف تستهلك خبزهم فجاء الى الفران واتفقا على ان يعطيني اجرتي خبزا
– أمي قالت بعد عشرين سنة – كنت يا ولدي رجل العائلة.. لم نشعر بالغربة بامتلاء المعدة الا عندما كانت ارغفتك تقتحم علينا الخيمة فنرى في طعمها رائحة الشواء.
الارض شاسعة بين الفرن والخيمة.. اعدو وعلى ظهري كيس الخبز تحرقني حرارته فالقي به عن كاهلي واجلس ارقب السيارات على الطريق المسفلت في هداة الليل.. ثم احمله وامضي واشتم كل الذين يمتطون السيارات الفارهة – عندما كنت ادفع القرش ثمن ركوبي كنت العن كل السائرين على ارجلهم في الطريق – وعندما كنت امتطي الارض احتقر الذين يعودون الى منازلهم ركوبا
الليلة يعرف (المغني) طعم الرفض فيجلس في الخيمة دون عشاء يطالب بامتيازات ومكاسب يدرسها الاب ثم يعلن انه قد خرج عن الطاعه.
– قرش ايها العاق – قطعة واحدة ترفض ان يجزأ.. انه ثمن عشر لفافات من التبغ الرخيص..
لكني اقطع المسافة جريا في كل ليلة واحلف ان لا اعمل لكن صوتك في الصبح يأتيني كما الريح في ليالي الشتاء يطلب ان يكسر الصقيع كي اصل الى فرن ( النابلسي) وانا اقول لنفسي.. سوف لن ابيع الخبز ان رفضت
نظر ابي الى النجوم طويلا.. بدا لي انه يستفتيها ويطلب منها تفسيرا للامر.. اخيرا ضرب برجله الارض صارخا.. – يلعن جيل هذا الزمن– ثم اضاف: اني اوافق .. فقمت الى عشائي وضحكة امي تخرق فضاء الخيمة قائلة: اخيرا انتصر المغني.
ايها الزمن الذي لا يعرف غير الخبز.. تخزني اشواكك كل يوم فيلفعني الغباء.. وامد يدي لسرقة رغيف ساخن خرج من الفرن لتوه..تحلب ريقي وقد دهنت قامته بالزيت والزعتر.. معدتي خاوية لا شىء يشغلها سوى صرير الامعاء .. يطلب الي النابلسي ان احمل الرغيف لبيته حيث تنتظر الزوجة كي تأكل.
في طريقي استفتيت زهرة من شقائق النعمان حمراء اللون.. آكله.. لا اكله.. اكلة.. لا اكله. واخيرا قالت الزهرة لي: كله يا ولد.. انت احق به من الاخرين.. امتدت يدي الى الرغيف (وافترست) اول لقمة من احد جوانبه .. احسست لذة غريبة فقضمت اخرى.. جلست الى رصيف الشارع واضطجعت.. كانت اللقمة تتلوى في فمي بهدوء فالعق شفتي مما قد علق بها من الزعتر.. تجشأت بعد ان قضيت على الرغيف.. امضيت بعض الوقت والطعم اللذيذ يتسرب الى البلعوم عبر حثالات الخبز العالقة بين الاسنان.. ثم لفتني نوبة تفكير ضبابية.. واسعة كامتداد الارض.. قد اعود اليه ولن اعدم ركلة بين جبال الطحين فتلوث وجهي بالدود والدرع.. وقد لا اعود ليكلني ابي لان الكيس خال من (الذخيرة) التي لا نحيا الا بها.
تملكني الفرح عبر مقارنة بين الركلة والاخرى.. حدثتني نفسي ان انتقي بعض المارين ممن شابهوا الفران وابي جسما وقوة كي اجري التجربة على نفسي فارى اي الركلتين اقوى.. لكني عدت فاستبعدت الفكرة وعزمت توفير جروح اليتي لما قد يحدث.
جرأتي التي تخونني دوما جمعتها في قدمي واتجهت نحو الفرن.. تلقاني (النابلسي) بابتسامة ونفحني قرشا فكدت اطير من الفرح.. لكنه في اليوم التالي ركلني وزادني صفعة فهربت الى ابي فظفرت بصفعتين وركلتين.. وهكذا بتنا دون عشاء.
جلست ترفو منديلا لها.. وجاء ابي فعبث بخصلات شعرها الذي بدأ الشيب بغزوه.. فاتقدت عيناها وقالت: لا تعرف العبث الا امام الاولاد.. سوف تراهم يوما على شاكلتك يطأطئون رؤوسنا ويجروننا بين المحاكم والشرطه.. ولسوف يجلبون العار للاسرة جميعا وعندها سوف يفتر فمك الادرد لتعلن امام اهالي المخيم ان (فرخ البط عوام)
– كفي عن تنكيدي يا امرأة.. تظلين طيلة العام مطبقة الفم حتى اذا ما قرب موسم الحصاد دبت فيك روح (عنترية) فتلجأين الى تقريعي ولومي وكأنك سوف تمتلكين مروج القمح والذرة على امتداد العالم .. تذكري يوم كنت امتلك الدنانير والذهب.. عندما يغل الموسم افرشها امام الدار واطلب اليك تخطيها كي تزيد وتثمر .. اليوم تتهمينني بالعقم والتفاهة في وقت تعلمين ان لا ارض ازرعها سوى ارض الخيمة لكنك ايضا تعلمين اني استطيع زرع الاولاد وهذا ما غاب عنك طويلا ..ضحكت ساخرة ثم قامت تزيل العجين عن راحتيها المعروقتين..
كنت اهيىء نفسي لرحلة صيد العصافير بالافخاخ السلكية.. عندما اخترقت اسماعنا اصوات اطفال المخيم نادوا على ابي فارتعش وتجهم.. واتجه اليهم وفي يده هراوة.. لكنه رأى(النابلسي) يقف ضاحكا امام الخيمة..افتر ثغره وصافحه ثم انفلتت من بين شفتيه صرخة ينادي بها علي..: ايها المغني.. هرعت اليه فاصطدمت عيناي ب النابلسي.. انقبض صدري عندما قبض الفران على يدي وقادني معه .. وبعد ان ابتعدنا خطوات عن الخيمة سمعت اصوات اخوتي وصياحهم وغناءهم فرحين.. ثم وصل صوتها واهنا وهو يقرع ابي.. آخر كلماتها التي ذابت عبر المسافة كانت (لماذا لم تتفق معه على شروط جديده)..