الأحد ٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٩
قراءة في جمالية اللغة في ديوان
بقلم عصام شرتح

«سيعود من بلد بعيد» محمد الشحات

إن الشعر فن لغوي، أو لنقل: إن الشعر الفن الجمالي التعبيري باللغة،ولما كانت اللغة هي قناة التوصيل فهي بارتقائها الجمالي يرتقي القول الشعري، ويسمو، والشعرية – إذاً- تتجلى في استعلاء قيمتها الجمالية، واستعلاء المؤشرات الجمالية باللغة، والشعر في أسمى جمالياته ما هو إلا استعلاء جمالي بالمستوى الانزياحي الخلاق للغة، وتحميلها من الاستثارة والمباغتة ما يرفعها درجات على سلم الشعرية،وبمقدار ما تنزاح اللغة في أشكالها وقوالبها النصية تسمو، وتخلق في سلم الشعرية.

وبتقديرنا: إن جمالية اللغة الشعرية تتحدد بالانزياح الفني، أو الأسلوبي الذي تشكله الجملة، للارتقاء في النسق من إيقاع ما هو بديهي إلى ما هو مفاجئ، ومثير، ومتحرك على المستوى الجمالي، يقول الناقد أحمد جاجي:" تتمثل اللغة الشعرية في شتى صور الانزياح، فهي خروج عن اللغة النمطية (المعيارية)، إذ تكتسي طابع الشاعرية بالانزياحات التركيبة، و الدلالية، فهي هدم اللغة، و إعادة تشكيلها من جديد، لتبرز بمختلف الصور الإيحائية و المجازية، لتحقق التفرد و الخصوصية، فتخرج الألفاظ عن دلالاتها المعجمية لتتجلى فيها صور الإيحاء."(1).

وهذا يعني أن الشعرية فن جمالي تحفيزي استثاري باللغة، وبمقدار ما تزداد الأنساق الشعرية قيمة تحولية في الانتقال من نسق تصويري إلى آخر تزداد فاعليتها البليغة ورؤيتها الخلاقة،ومن هنا فإن جمالية اللغة الشعرية تتحدد ببلاغة مؤشراتها الإسنادية والقيمة التي تحققها ببلاغتها الدلالية،ولهذا:" اهتم النقاد العرب بالكلمة الشعرية، وخصوها بكثير من العناية، والدراسة، والتفصيل. وذلك لأن اللغة الشعرية هي هوية الإبداع الشعري، وهي العلامة الدالة على انتمائه إلى دائرة الشعر. ولهذا وضع النقاد القدامى شروطا محددة للكلام الشعري، بحيث ليس الكلام كله يكون صالحا لينتمي إلى هذا الفن. بل لابد أن يتحرى الشاعر كثيرا في تعامله مع اللغة، حتى لا ينجرف مع لغات أخرى تبعد عمله من صفة الشعر"(2).
واللغة في الشعر هي مصدر إثارة الأساليب الشعرية،وما ارتقاء الشاعر جمالياً من أسلوب إلى آخر إلا نتيجة حتمية لتفعيل اللغة، وخلق مبتكرها الجمالي، يقول جورج سانتينا:" اللغة أولاً ضرب من الموسيقا،وما توجده من آثار جميلة إنما يرجع إلى تركيبها،وإلى كونها تخلع شكلاً غير متوقع على التجربة حينما تتبلور في صور جديدة"(3).

وهذا يعني أن قيمة الشعرية ماثلة – بالدرجة الأولى- في متغيرها اللغوي، وبتعبير أدق: ماثلة في متحولها اللغوي، هذا المتحول الذي يرتقي بالشعرية من مثير لغوي إلى آخر،ومن محفز إسنادي لغوي صادم إلى محفز لغوي استثاري صادم ومثير أكثر، مما يجعل الشعرية في تحول دائم،وتغاير أسلوبي ممانع على الدوام،ومن هنا نفهم الممانعة الأسلوبية قيمة جمالية تحولية ترتقي بالأنساق الشعرية إلى أوج تناميها الجمالي،إذ إن الشعر- حسب محمد لطفي اليوسفي- ينبني على تفجير اللغة، وجعلها تضيف إلى نفسها،ومن داخلها عنصراً آخر هو الإيقاع، ويقوم ذلك الإيقاع، فيما هو يتولد عنها، بإجبارها على التشكل وفق ما يتطلبه هو نفسه من خرق للنمطية المعروفة في تشكيل الكلام"(4).

ووفق هذا التصور، فإن الذي يفعِّل اللغة الشعرية درجة تناميها الجمالي، والوعي التشكيلي في تخليق معانيها ودلالاتها المبتكرة، فالشعرية- أولاً وأخيراً - تلاعب باللغة، وأنساقها، واستجرار للمعاني، والدلالات الجديدة،وبمقدار براعة الشاعر في تشكيل الجملة الشعرية ترتقي بمتحولاتها البليغة، لذلك" كانت لغة الشعر ممتلئة بالمحتوى الذي تنقله نقلاً أميناً. وهي لغة فردية في مقابل اللغة العامة التي يستخدمها العلم، وهذه الفردية هي السبب في أن ألفاظ الشعر أكثر حيوية من التحديدات التي يضمها المعجم، والألفاظ الشعرية تعين على بعث الجو بأصواتها. فالعلاقة بين الأصوات في الشعر كالموسيقا تماماً_ يمكن أن تثير متعة تذوق الانسجام الحي،سواء بالأجزاء المكررة، أو المنوعة أو المتناسبة"(5).

والشاعر المبدع هو الذي يرتقي برتم الدلالات اللغوية، من خلال بكارة الإسناد،ودهشة المراوغات النسقية التي تخلق ممانعتها الدلالية، فالقيمة ليست في الكلمات كبنى لغوية وصرفية ودلالية، وإنما في التشكيل الفني الذي يحلق بالكلمات إلى آفاق خلاقة بالرؤى، والدلالات، والمعاني الجديدة، لأن " لغة الشعر لغة التصوير المكثف، والخيال المتعقل الخلاق، إنها حركة تبدأ من السطح، ثم تتسامى في الأعالي، أو تغوص في الأعماق، هي العبور من الثبات إلى الحركة، والتحول، ومن المحدود إلى اللامحدود. وهي الانطلاق من القيد إلى التحرر منه، لكنها تظل السبيل الأمثل لتأليف جمال متكامل العلاقات، متناغم الأصوات"(6).
والشاعر لا يحلق في لغته إلا بإيقاعها الانزياحي الصادم الذي يكسر رتابة القول الشعري،ويحقق عنصر الاستثارة الجمالية، أو لذة الاستثارة الجملية، ولهذا كان الناقد عبد اللطيف حني محقاً في قوله:" الكتابة الشعرية هي مدارات تحايل الشاعر على اللغة كما تتوق إلى ممارسة وجودها عبر مغامرة تغدر بمنطق العقل،وتحمل معاني الجمال والإشراق، فيقبلها المتلقي، دون العودة إلى معادلات الحساب اللغوية الاعتيادية، فالشاعر في رصده دلالة الكلمات والعبارات يبحث عما هو مجهول فيستحضره، ويُفعِّله في سياق يعبث به الانزياح الذي يطبع اللغة بملامح جمالية شعرية"(7).

وهذا القول الذي أشار إليه الناقد نرد عليه قائلين: إن الشعرية هي فن تخليق الجمال في اللغة لا التحايل عليها، ما كانت لغة الشعر لغة التحايل عليها، وإنما لغة تفعيل الجمال فيها، وتشكيلها بهندسة الإحساس الجمالي الخلاق والمعاني المراوغة والدلالات المفتوحة على كل قراءة جديدة.

وبتصورنا: إن الوعي الجمالي في تشكيل الجملة، وربط الصور فيما بينها جمالياً هو الذي يرقى بها إبداعياً، ولهذا نلحظ ارتقاءً جمالياً في تشكيل الجملة الشعرية عند الشاعر محمد الشحات، من حيث البنى اللغوية والدلالية والوظائف اللغوية الإسنادية الرشيقة الدلالات والمعاني، فلا يجد القارئ أية خلخلة إسنادية عبثية لاهية أو حشواً في بناء القصيدة عند الشاعر،وهذا ما يجعل لغته تمارس جمالها ضمن نطاق: سطوة:السهل / الممتنع،أو الرؤية الأحادية / والرؤية المضاعفة، فالوعي الجمالي في التشكيل يهب الصورة عمقها وإحساسها العاطفي المفعم بالاغتراب، ولهفة الحنين الدامع،والأسى العميق، والشوق الذي تنتابه الكآبة في بعض السياقات التي تضمها قصائده.

وما يميز الشعرية في متحولاتها اللغوية في ديوان(سيعود من بلد بعيد) قدرة الشاعر على البوح الشاعري بلغة انزياحية بسيطة ليست على درجة عالية من التشظي اللغوي الصادم،وإنما على وعي عقلاني في تشكيل الكلمات، وهندسة أبعادها،لأن الشاعر محمد الشحات يؤمن بأن الشاعر الخلاق هو القادر على إثارة القارئ بالشكل الأسلوبي الذي يحلو له،والطريقة القادرة على تحقيق عنصر استثارته الجمالية،لأن الوعي الجمالي في التشكيل يمثل قيمة عظمى في تفعيل الأنساق الشعرية في قصائده بمداليلها ورؤاها كافة،ولهذا نجد رقة في تفعيل الأنساق الشعرية والانتقال بها من متحول إسنادي إلى آخر، ليخلق جمالية الشكل اللغوي مع رهافة الإحساس والخبرة الجمالية في الانتقال برشاقة وصفية من جملة شعرية إلى أخرى برابط شعوري موحد مع طقس الحالة الشعورية،وإحساسها الاغترابي الحزين
كما في قوله في هذا المقتطف الشعري:

" واختبأتُ
لكي أُداري غيرتي
وتركتُ ملمسها
على أطرافِ كفي
ورميتها بعيون شوقٍ"(8).

إن أجمل ما في النسق الشعري احتفاء الشاعر بهذه الصورة التي رفعت سوية الاستثارة الشعرية في قوله:[ ورمتها بعيون شوق]،إذ جاءت لتعبر عن حجم الحرارة العاطفية، والتوق للوصال. وكأن الشاعر يستولد الكلمات ويعتصر ما فيها من مشاعر محمومة لتفيض بمواجده وشوقه لابنه المغترب في بلاد الغربة، وهنا نجد كل كلمة تمثل خلجة من خلجاته الشعورية العاطفية المحمومة بالأسى والشوق والحنين.

والأسلوب ذاته في تكريس الجماليات يتضح في النسق الشعري ذاته،إذ نلحظ أن الشاعر ينقل نفثاته الشعورية المحمومة كلما أوغلنا في النسق الشعري، لتفيض بحرارة مشاعره ولهفته الدامعة، كما في قوله:

" آه ما أقسى مدارات اشتياقي
كلما لامستٌ وجهكَ
وانفطرت محبة..
قل لي يا فتى
هل كن يعصرك الحنين
فعدتَ تبحث عن مداه"(9).

لابد من الإشارة بداية إلى أن المتحول الجمالي في أية قصيدة يبرز من خلال عنصر استثارتها الجمالية،وبمقدار براعة الشاعر في خلق الاستثارات الجمالية الصادمة يحقق قيمة جمالية في خلق الدلالات والمعاني الشعرية الجديدة الفاعلة في التحريض الجمالي، وهاهنا جاءت التشكيلات الشعرية التالية:[ مدارات اشتياقي/ يعصرك الحنين] ملامسة لذائقة المتلقي، لما تتضمنه هذه التشكيلات من فيض المشاعر ودفق الأحاسيس المحمومة الصادقة.

ونشير في هذا الصدد إلى أن المتحول الجمالي في قصائد هذا الديوان يتعلق بشكل مباشر بالمتحول الأسلوبي ليأتي المتحول الجمالي إفرازاً من إفرازات الأساليب الشعرية المتطورة في شعرنة الرؤية، وتشعير الحدث والمشهد الشعري كما في قوله:

"كنتُ أرحلُ في غيابك بين بين
لأشمَّ ريحكَ في الجدار
ووقعَ كفيك اللتين
تشكلان سفينة
تجري على موج البحارْ
حتى تمايلتِ الحروفُ
على الحروف
وكان رسمك في يدي
أزهى من النجماتِ
تسبحُ هائماتٍ في المدار"(10)

هنا، يأتي المتحول الجمالي تابعاً إسقاطياً مفرزاً من حركة الصور والأساليب الشعرية المتطورة في بث الحالة المحمومة بمصداقية، وشعور عاطفي مؤثر، غاية في التكثيف، والحراك الشعوري،وهذا ما نلحظه في الصور التالية: [لأشم ريحك في الجدار]، ثم حقق القلقلة الجمالية التي تجري مجرى عاطفياً محموماً بالعاطفة وعمق الإحساس:[ وكان رسمك في يدي أزهى من النجمات تسبح هائمات في المدار]، وهكذا يأتي المتحول الجمالي متحولاً أسلوبياً تابعاً لحركة الأسلوب وقيمة مؤشره الجمالي.

ولو دققنا في البؤر الشعرية الجمالية التي يحتويها المقتطف الشعري السابق لتبدى لنا أن عنصر استثارتها ماثل في الصور التفاعلية على مستوى استعلاء مؤشرها الجمالي:[ تسبح هائمات في المدار]،وكأن الشاعر يرسم القوافي رسماً، لتأتي في موضع القافية وتصيب مرمى الحساسية الجمالية في الصميم.

وقد لا نبالغ في قولنا: إن الشعرية لعبة استثارية قلقة للأنساق الشعرية بمتحولاتها النسقية، لخلق درجة من التكثيف،والفاعلية، والإيحاء، ووفق هذا التصور، فإن اللعبة الشعرية تختلف من نص شعري إلى آخر، ومن دلالة إلى أخرى، ومن تجربة شعرية إلى أخرى، تبعاً لمهارة الشاعر اللغوية، وقدرته على كسر الرؤية النصية المعتادة في تشكيل القول الشعري، فالقول الشعري المؤثر هو قول شعري متحول يتلاعب بالأنساق الشعرية بمتحولاتها النسقية المثيرة،وإصابة الدلالات والمعاني الجديدة، فالقيمة المرجعية للنسق الشعري تكمن في قدرته على التلاعب بالأنساق، والعزف على إيقاع المتغيرات الأسلوبية وفق ما يلي:
1-المتحول الأسلوبي الشاعري:

يعد المتحول الأسلوبي الشاعري هو المتحول اللغوي المؤثر في تشكيل الجملة، وإبراز مؤثرها البؤري المحوري في تخليق الشعرية، فالشعرية هي انحراف لغوي في التشكيل الشعري بالانزياح: مسافة التوتر الحادة التي يخلقها المتغير الأسلوبي في النسق الشعري،وإن من يطلع على الشعرية في أوج تناميها وحراكها الجمالي في قصائد ديوان (سيعود من بلد بعيد) يلحظ انبناءها على فاعلية المتغير الأسلوبي الشاعري الذي يعتمد شعرية الاختيار، والتركيب الجمالي، فالقيمة ليست في حقل المفردات وتنوع الحقول الدلالية وثراء المعجم الشعري اللغوي عند الشحات،وإنما بالقلقة الجمالية التي تثيرها الكلمات المنزاحة في سياقها، فالشاعر المؤثر يشتغل دائماً على المتحولات الأسلوبية المؤثرة في حراكها الجمالي، من حيث القيمة، والفاعلية، والمحفز الجمالي، كما في قوله:

" علَّ قلبكَ حينَ أعبرهُ
يعيدك طائعاً
كي أرتمي
في نهرِ عينيك انبهاراً
ثمّ أسبحُ
باتجاه شواطئ الزمن الجميل"(11)

إن الشعرية هنا،ذات إيقاع تحولي أو متحول، إذ تنبني على حراك الرؤى والمشاعر المصاحبة للحظة التوتر العاطفي المحموم، وهذا يعني أن الشعرية مؤثرها الأنساق التصويرية المتناغمة مع الموقف العاطفي وتوتر اللحظة الشعرية المؤثرة:[كي أرتمي في نهر عينيك انبهاراً]، وهذه الصورة أثارت النسق لتكون أشبه بالمتحول الأسلوبي البؤري الذي يفعل النسق الشعري، ليصل قمة الجمالية والتحفيز الشعري: [ ثم أسبح باتجاه شواطئ الزمن الجميل]،وهكذا يأتي المتحول الأسلوبي شاعرياً في تحريك المشاهد والصور والدلالات لتبرز بأعلى قيمة جمالية.
فالشعرية ليست دائماً تلاعبها بالنسق والدلالات والرؤى، فقد يكون محفزها التفاعل النسقي الصوتي والأصداء النغمية التي تنساب من الأنساق الشعرية في نسق شعري متماسك الدلالات والرؤى والمعاني،

وقد وجدنا بؤرة الشعرية متمفصلة حول بؤرة الصور والدلالات المفتوحة التي تشي بالحنين والذكريات المشرئبة إلى الزمن الجميل.

والملاحظ أن شعرية الأساليب تتحدد من خلال شعرية متحولاتها الأسلوبية،وشعرية المتحولات تبرز من خلال الانزياح الصادم من متحول شعري إلى آخر،وهكذا دواليك، لتبرز الدلالات وفق متحولاتها الشعرية،ومصدر استثارتها وتأثيرها.كما في قوله:

" هل تخبره
كيفَ رسمتُ بعينيك ملايين الأشياء
ونفختُ بطينِ الأرض
فصنعتُ قناديلاً
وبيوتاً
وزعتُ زهوراً وسنابلْ"(12).

لابد من الإشارة بداية إلى أن البنية التكوينية لقصائد (سيعود من بلد بعيد) تتحدد بشعرية متحولاتها، ومدى نشاط كل متحول أسلوبي بمعزل عن الآخر، وهاهنا جاء المتحول الأسلوبي خصباً بالدلالات والمعاني الجديدة،وهكذا تظهر مهارة الشاعر بالحنكة الجمالية في التلقي النصي، وقيمة الفواعل النشطة التي تبثها الدلالات بحراك شعوري تأملي مفتوح على كل الاحتمالاتالممكنة.وهاهنا نلحظ قيمة المحفزات التصويرية في تحفيز الدلالات، وخلق متغيرها:[فصنعت قناديلاً وبيوتاً وزعت زهوراً وسنابل]، وهذا يدلنا على أن قيمة الصورة من قيمة مرجعها الجملي، ومدى القدرة على تلوين الدلالات،وخلق متغيرها الجمالي البليغ.

وصفوة القول: إن شعرية ديوان( سيعود من بلد بعيد) لمحمد الشحات تتمثل في متحوله الجمالي الأسلوبي من خلال رشاقة السرد، وجريان السرد بعاطفة منسابة رقراقة على مستوى تشكيل الجمل والتلاعب بالدلالات والمشاهد لشعرية مما يدل على قيمة جمالية في التحفيز النصي. وبمعنى أدق: إن الشعرية ماثلة في قصائد الديوان برشاقة السرد،وتوصيف الحالة الشعورية الداخلية والإيقاع العاطفي الذي ينبعث من الكلمات بأصداء نغمية متآلفة ووقع الحالة الشعورية واحتدامها،وكأن ثمة تبئير للدلالات الاغترابية التي تبثها القصائد على مستوى فضائها النصي،وإيقاعها المنساب في أنسام الكلمات ورشاقتها في التشكيل.

3- الانزياح الأسلوبي:

ونقصد ب( الانزياح الأسلوبي): الانزياح اللغوي الذي يترك مسافة من التوتر، أو فجوة من التوتر بين المسند والمسند إليه:كالمضاف والمضاف إليه، والصفة / والموصوف، ليرتقي الشاعر بمتغيره الأسلوبي درجة من الاستثارة والتكثيف الجمالي، وبمقدار براعة الشاعر في تفعيل اللغة بالانزياحات الصادمة تحقق الأنساق اللغوية المنزاحة شعريتها، وبلاغتها الانزياحية، ووفق هذا التصور، فإن غنى التجارب الشعرية يتبدى من غنى منزاحاتها اللغوية، وعليه:" فا لانزياح مقوم مهم لتحديد جمالية النص الشعري من خلال تجاوزه العادات الكتابية والقوانين المعجمية، وبذلك يكون الانفلات من سلطة المألوف والمعتاد لتحقيق هدف جمالي على مستوى البناء والدلالة"(13).

ومن أجل هذا احتفت لغة الديوان بانزياحات لغوية معبرة عن الحالة الاغترابية التي يبثها الشاعر في استعاراته الملتهبة التي تشي بالشوق، واللوعة، والحنين إلى ولده المغترب الذي فارقه سنين عديدة، ومازال غائباً عنه يتحثث حضوره بين الكلمات ليشغل مساحات روحه الفارغة في الحنين والحضور ولهذا نجد الانزياحات تدور في فلك هذه الدلالات ومرجعياتها الفاعلة في الاستثارة والتحريك الجمالي الشعوري المتوتر،كما في قوله:

" وأعرفُ أنكَ
ما زلتَ تحنٌّ إلى أنفاسي
حين تهز حويصلةُ
الشعر" 0(14).

إن قيمة أية قصيدة شعرية تبدو في انزياحاتها وإصابتها الدلالات والمعاني الجديدة المبتكرة،وبمقدار الاستثارة الجمالية في النسق على مستوى انزياحاته تحقق الشعرية قيمتها التفاعلية وحراكها الجمالي، وهاهنا جاء الانزياح الغرائبي الصادم عنصراً بؤرياً مثيراً في إلهاب الدلالة، واعتصار مؤشرها الجمالي الخلاق كما في الانزياح التالي( حويصلة الشعر) لقد جعل الشعر كالطائر الذي يختزن الغناء والتغريد في حويصلته،وهذا تشبيه مبتكر الدلالات والمعاني والقيم،وقد سما برتم القصيدة جمالياً بمؤشرها البليغ.

واللافت هذه الصورة الانزياحية المبتكرة في أن يجمع التفاف طفله عليه وهو يكتب الشعر بلفظة واحدة( حويصلة الشعر) وكأنه يقول له: لقد كنت في حضني مع كل همساتي وكلماتي الشعرية فكنت أغذيك بمشاعري وحرقة كلماتي لتكبر معها، وتشب، وها قد هززت حويصلة الشعر وحلقت بعيداً عني عندما كبرت، كالطائر الذي آثر الرحيل ونسي عناقي وعناق كلماتي.

وهكذا يتابع الشاعر سرد مشاعره بإحساس عاطفي لتبدو قصائد الديوان كلها كتلة شعورية منصهرة في سياقها العاطفي، وتفاعل مؤشراتها الشعورية والدلالية والإيقاعية كما في قوله:

هل تركتُ بعضاً من مراراتي
وحزني الشجي
وانكسار قلبِ المذل (15).

هنا، جاء الانزياح ذا قيمة تحفيزية في إبراز الجانب الشعوري المحموم، من حيث بث الأسى، والاغتراب والانكسار الشعوري الحزين المأزوم:( هل تركت بعضاً من مراراتي)، ثم اتبعها برتم الدلالات الدالة على الاغتراب والأسى المحموم.،وما أشد دلالة (مراراتي) على أسى الشاعر وحزنه ولهفته لعناق ولده بعد سني الغربة والتشرد والضياع، ليعود إلى حضنه كما كان ليتغذى من حويصلة الشعر، حويصلة الطفولة وذكرياتها ولهوها ولعبها.

4- المتحول الجمالي:

لاشك في أن لكل تجربة إبداعية محرضها الجمالي، هذا المحرض الجمالي هو الذي يجعل القول الشعري قولاً منزاحاً، أو قولاً متحولاً بمؤثراته الجمالية،وبما أن الشعرية في أوج تفتحها قيمة انزياحية صادمة في متغيراتها الأسلوبية، ومتحولاتها الجمالية فإن ما يزيد مظاهر استثارة اللغة الشعرية قدرتها على التحول والتعدد في المؤشرات الجمالية من حيث الانتقال من متغير جملي إلى متغير جمالي آخر أشد استثارة، وبلاغة في تفعيل التجربة الشعرية، واستثارة حركتها الجمالية،ووفق هذا التصور فإن ما يزيد من شعرية المتحولات الإسنادية مهارة الشاعر في بث متغيراته الجمالية بأسلوبه الرؤيوي الخاص ومبتكره الإسنادي المراوغ،وهذا يعني أن لكل تجربة شعرية قيمها الانزياحية في المتغيرات الجمالية من حيث الاستثارة، والمباغتة، والمفاجأة الإسنادية.وبهذا المعنى يقول الدكتور نور الدين السد في تعريف الانزياح، إذ يقول:" الانزياح هو انحراف الكلام عن نسقه المألوف، وهو حدث لغوي، يظهر في تشكيل الكلام وصياغته، ويمكن بواسطته التعرف على طبيعة الأسلوب الأدبي، بل يمكن اعتبار الانزياح هو الأسلوب الأدبي ذاته"(16.).

ويعد الأسلوب الشعري المتطور الفاعل جمالياً هو المتحول جمالياً في قيمه ومؤشراته الجمالية،وهو يمثل نقطة التحول والحراك الإبداعي، في تفعيل النصوص الشعرية لتخليق استثارتها ومكمن جاذبيتها الفنية، فالقيمة الجمالية ليست للانزياح فقط الذي خلفه في النسق الشعري،وإنما لقيمة بنيته التركيبية النصية ككل في خلق الاستثارة الجمالية الخلاقة،وبهذا المعنى يأتي المتحول الجمالي ليدهش القارئ،ويشوش مظانه المعرفية، بإحداث فجوة التوتر: أو مسافة التوتر: بين الدال /والمدلول،والصفة/ والموصوف، لخلق الدهشة الجمالية في النسق الذي يشكله، وبمقدار حنكة الشاعر بالتلاعب بالأنساق يحقق قيمة جمالية في رسم الشعرية بمتحولاتها الأسلوبية الخلاقة.

والملاحظ أن المتحول الجمالي يطغى في بعض المقاطع في قصائد الشاعر، تبعاً للمتحول الجمالي الذي يرقى بحركة الإسناد،لأن بلاغة المتحول الجمالي تظهر وتتضح أكثر من قيمة مؤشره الأسلوبي كما في قوله:

"هل تتضاءلُ الأوطانُ
هل سيخطفها الشيبُ المخيف
ويكسو وجهها حزنُ المشيب؟ (17).

هنا، يأتي المتحول الجمالي ذا قيمة بؤرية دالة على الاغتراب والأسى والحزن من سطوة الأيام وأفول سنوات العمر الجميلة فما عاد الشاعر قادراً على التماسك في ظل دائرة الحزن التي تطبق على أنفاسه اختناقاً جارحاً وحزناً مقيت،وهذا يدلنا إلى أن المتحول الجمالي يكتسب قيمة جمالية بؤرية في قصائد محمد الشحات التي تتلون متحولاتها الجمالية بتحول محمولاتها البؤرية الدالة ومسارها الأسلوبي السردي الرشيق من متحول أسلوبي إلى آخر، لتزداد حركة الدلالات في انتشارها على المستوى النصي.

وليس المتحول الجمالي دائماً متحولاً فنياً، فقد يأتي متحولاً دالياً ودلالياً ليكشف حنكة الشاعر في الانتقال من نسق شعري إلى آخر، ليزداد نشاط الدلالات ومحركها الشعوري الإيحائي الفاعل كما في قوله:

بتُّ أحنُّ إلى أكوابك
ماعدتُ أطالعُ
وجهي في عينيك
وما زلت أحن إلى رائحة الخبز
أعرف أنك ما عدت هناك
وأنا ما عدت
هنا"(18).

إن الشاعر يبث اغترابه الحزين،وشعوره الحزين ليعيش الاغترابين معاً اغتراب الذات واغتراب الابن،
وهنا تأتي الصور غاية في الشفافية والكشف عن معاناة الشاعر بأسى جارح، وإحساس مأزوم يشي بالحنكة الجمالية في رسم الدلالات بمنعرجاتها الشعورية وإحساسها المأزوم،وهذا دليل أن الشعرية في قصائد الشحات شعرية تعبيرية ملصقة في الواقع الذاتي للشاعر، وما يعانيه من اغتراب داخلي يرتد من الذات إلى الآخر،ومن الآخر إلى الذات، لترتقي الدائرة الشعورية الاغترابية، ويزداد صداها الشعوري المأزوم. في المتلقي ليتلقاها بإحساس جمالي محموم كما هو عليه إحساس الشاعر المأزوم وأساه الشعوري العميق.

نتائج أخيرة:

1-إن لغة الديوان لغة عاطفية تتأجج في انزياحاتها البسيطة حول المعنى الواضح الذي يشي برغبة حميمة في خلق لغة شعرية انزياحية تعتمد السموق العاطفي، أو العزف على شعرية العاطفة لا شعرية اللغة المنزاحة، فالشاعر أراد أن يخلق لغة شعرية ترسم حركة المشاعر الحقيقية، لتفيض بها نبضات القلب، وزفرات الشعور والوجدان. ولهذا يغلب على لغة الديوان الإيقاع العاطفي، والصور الشعورية التي ترصد حركة المشاعر والأحاسيس بدقة متناهية.
2- إن الصور الشعرية لم تحقق قيمتها الانزياحية الصادمة كما هو معهود في لغة الحداثة الشعرية لتي تتوخى أقصى درجات الشعرية، والتلاعب بالأنساق اللغوية الصادمة،وإنما اعتمد لغة الاستثارة الصادمة في المشاعر والأحاسيس، وخلق لغة شعرية انسيابية محملة بالمشاعر، أي اعتمد لغته الشعرية الخاصة (لغة العواطف والمشاعر والأحاسيس)، وهذه اللغة لا يعتد بها إبداعياً لولا ارتقاء لغة السرد لديه، ليحركها تارة على الصورة،وتارة على الجملة المركزية المثيرة في شعريتها، وتارة على إيقاع التقفية،وتارة على المفارقة اللغوية، ودهشة المشهد الشعري المتقد عاطفياً.

3-إن استغراق الشاعر بالوصف والتقليل من المشاهد والصور إنما جاء لبث المشاعر باتقادها العاطفي الذي يعتمد تجسيد الموقف العاطفي والحالة الشعورية المتوترة بالحنين التي وصل إليها، ونقول بصدق:

إن الشعرية جاءت في هذا الديوان حبيسة الحالة العاطفية، ورهينة هذه اللحظة دون جدال، ولو انفكت هذه القصائد من أسر الحالة الشعورية إلى البعد الفلسفي الوجودي، أو الانزياح اللغوي الصادم والاستعلاء التشكيلي على مستوى الإسناد، لخلق نصوصاً شعرية الأولى في بابها، لكن غلبة العاطفة أو وقوع الشاعر في أسر العاطفة سرعان ما قيد لغة الديوان شعرياً، وجعلت النص الشعري ابن لحظته الراهنة لا يكاد يتعداها.

ولو نظرنا للديوان من ناحية العزف على العاطفة بهذه الكثافة لأدركنا أن شعرية هذا الديوان ماثلة في موضوعه وبعض الانزياحات اللغوية الخلاقة التي تؤكد شعرية الشاعر حتى في أشد خضم أسر اللحظة العاطفة وقيودها الشعرية الخانقة، وإن بدت قيوداً ذاتية لا تنطوي على تعمد وتجيير للنص لصالح الحدث الشعري والمشهد المخطط له سلفاً،وكأن الشاعر مرهون اللحظة العاطفية المحمومة، ليبني قصائد الديوان كلها على هذا المنوال لا اختلاف فيما بينها إيقاعاً وأسلوباً ومعنىً.

(1)جاجي،أحمد،2015- مصطلح اللغة الشعرية ( المفهوم والخصائص)، الرابط الإلكتروني: revues.univ-ouargla.dz/index.php/numero-09-2015/2875-2016-01-28-15-26-07
(2) الحراق، محمد شداد،2011- اللغة الشعرية وهوية النص،مجلة ديوان العرب، الرابط الالكتروني:
www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=30369

(3)سانتيانان جورج(د.ت)- الإحساس بالجمال، تر: مصطفى بدوي، مكتبة الأنجلو المصرية، ص190.
(4) اليوسفي، محمد لطفي، 1985- تجليات في بنية الشعر العربي المعاصر، سراس للنشر، تونس، ص24.
(5)إسماعيل، عز الدين- الأسس الجمالية في النقد العربي، ص348.
(6)الرباعي،عبد القادر،1998- جماليات المعنى الشعري( التشكيل والتأويل)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وزارة الثقافة،عمان،ط1، ص110.
(7)حني،عبد اللطيف- شعريةالانزياح وبلاغة الإدهاش في الخطاب الشعري الشعني الجزائري، ص38.
(8) الشحات،محمد، 2019-سيعود من بلد بعيد،دار الأدهم،مصر،ط1،ص6
(9) المصدر نفسه، ص6
(10) المصدر نفسه، ص8.
(11) المصدر نفسه، ص26
(12) المصدر نفسه، ص78.
(13)حني، عبد اللطيف- شعرية الانزياح وبلاغة الإدهاش في الخطاب الشعري الشعبي الجزائري، ص39.
(14) الشحات،محمد،1999- سيعود من بلد بعيد، ص24.
(15) المصدر نفسه،ص97.
(16) السد،نور الدين،1997- الأسلوبية وتحليل الخطاب،دار هومة، الجزائر،ج1، ص179.
(17) المصدر نفسه، ص 102
(18) المصدر نفسه، ص64


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى